تحتاج مصر أن تحاور وتناقش نفسها قبل الآخرين في مسألة حقوق الإنسان.بقدر ما يكون النقاش موضوعياً وصريحاً يكتسب زخمه وقدرته على تغيير البيئة العامة إلى ما هو جدير ببلد قام بثورتين لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
أول ما يلفت الانتباه في «الوثيقة الوطنية لحقوق الإنسان»، التي أعلنت في ندوة رئاسية عنوانها نفسه، الذي ينطوي على اعتراف ضمني بأن هناك أزمة حقيقية تستدعي مقاربة جديدة.
الاعتراف بالأزمة، أيّة أزمة، نصف الطريق للتغلّب عليها.
النفي فعل إنكار والاعتراف فعل تغيير.
القضية ليست في نص أو آخر، بقدر ما هي أن يكون السعي إلى تغيير الصورة واصلاً إلى هدفه على أرض الواقع بإجراءات محددة وملموسة.
هذا موضوع نقاش يتجاوز الوثيقة وما انطوت عليه من نصوص والتزامات إلى الحركة العامة للمجتمع بكل تنوعه الطبيعي، حتى تستبين أبعاد الأزمة وتداعياتها على صورة البلد في عالمه ونظرته إلى نفسه وسبل تحسين ملف حقوق الإنسان وفق القواعد الدستورية الحديثة.
إذا ما فُتح المجال العام لمثل ذلك النقاش الضروري فإنه يضفي على الوثيقة جدّيتها وعلى الالتزامات صدقيّتها.
أسوأ ما قد يحدث أن تُطوى الأوراق في دفاتر تودع في أرشيف بحسبانها حدثاً انقضى فعله لحظة إعلانه.
وثاني ما يلفت الانتباه إسناد مهمة إعداد وصياغة الوثيقة إلى وزارة الخارجية دون سواها من الوزارات والهيئات المتداخلة في ملف حقوق الإنسان، كأنه اعتراف ضمني بفشلها في الاضطلاع بالحد الأدنى من واجباتها.
بحكم طبيعة العمل الدبلوماسي فإنه سطح حساس تنعكس عليه أحوال البلد وأوضاعه السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية.
هكذا يجد الدبلوماسي المصري نفسه، بمناسبة أو بغير مناسبة، يقتطع جزءاً كبيراً من وقته وجهده في شرح أحوال قضية حقوق الإنسان في بلده وإذا ما كان ممكناً تحسينها.
بالتعريف فإن هذا ليس دوره الرئيسي ولا صلب مهمته، لكنه مفروض عليه بتأثير ما يُنشر في الميديا الغربية متمدداً في الوسطين الحقوقي والأكاديمي، كما في المراكز البحثية الكبرى.
في أول زيارة لوزير الخارجية السابق السفير «نبيل فهمي» للولايات المتحدة عقب (30) يونيو (2013)، التقى مطولاً بنظيره الأميركي «جون كيري»، الذي تربطه به صداقة قديمة.
بمصادفات التوقيت استهلكت قضية مستحدثة أغلب اللقاء، فقد صدر في اليوم نفسه حكم قضائيٌ في إحدى محافظات الصعيد قضى بإعدام أعداد كبيرة من المتهمين بممارسة العنف والإرهاب، رغم أن الحكم نُقض تالياً، إلّا أن أصداءه بدت في توقيتها كقنبلة دخان أمام مهمة الوزير المصري.
الأمر نفسه يعترض خلفه السفير «سامح شكري» شأن الجهاز الدبلوماسي المصري كله.
الضغوط الدولية الآن تراجعت عما كانت عليه بدواعي المصالح الاستراتيجية والاقتصادية مع بلد محوري في حجم مصر، لكن أشباحها تظل ماثلة، تضرب في الصورة وتؤذي المصالح العامة، وتوظف الملف بالابتزاز من حين إلى آخر لمقتضى مصالح الآخرين.
هناك إذن دافعان لإسناد مهمة إعداد وصياغة الوثيقة لوزارة الخارجية.
الأول، كفاءة الدبلوماسيين المصريين وخبرتهم في مخاطبة العالم.
والثاني، خفض الضغوط على الجهاز الدبلوماسي من أسئلة لا تجد إجابات مقنعة، أو قادرة على تغيير الصورة.
إسناد المهمة إلى وزارة الخارجية له منطقه، لكن تصحيح الصورة يحتاج إلى ما هو أكثر من بيانات مكتوبة بحذق دبلوماسي، أو وثائق منشورة للاستخدام الخارجي.
الإجراءات على الأرض أهم من النصوص على الورق.
الإفراج عن المحبوسين احتياطياً يفوق في رسالته للعالم أية بيانات ووثائق.
عندما جرت في الفترة الأخيرة مجموعة إفراجات عن نشطاء شبان وأكاديميين وصحفيين محبوسين احتياطياً كانت النتائج فورية بالاحتفاء، تناقلت وكالات الأنباء والفضائيات الدولية أنباء الإفراجات، تحسنت البيئة العامة في مصر وبدت الصورة أفضل بالخارج.
أول خطوة صحيحة لتأكيد الالتزام بقضية حقوق الإنسان إنهاء أية مظالم ماثلة خلف جدران السجون للذين لم يحرضوا على عنف ولا ارتكبوا إرهاباً.
وثاني خطوة صحيحة لتأكيد ذات الالتزام، إلغاء قانون الحبس الاحتياطي حتى يكون ممكناً رد اعتبار حقوق المواطنين في المحاكمة العادلة أمام قاضيهم الطبيعي، لا تمديد الحبس دون محاكمة، كما لو أنه عقوبة بذاته.
الإفراج عن مظلوم واحد خلف جدران السجون خطوة لا يصح التقليل من أهميتها إذ تفتح المجال لخطوات أخرى أكبر وأكثر اتساعاً.
بأي حديث جدي عن حقوق الإنسان يطرح سؤال الحريات نفسه بإلحاح، فهي البنية الأساسية للحقوق السياسية والمدنية.
فتح المجال العام قضية رئيسية للتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، على ما يؤكد الدستور وتدعو الوثيقة.
بقوة الالتزام الدولي فإن مصر من أوائل الدول التي وقعت على العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
الأول – ينتسب إلى إرث الثورة الفرنسية، وهو أفضل ما تمخّض عنها.
والثاني – ينتسب إلى إرث الثورة البلشفية، وما بقي منها ملهماً.
كل ما ورد في «الوثيقة الوطنية لحقوق الإنسان» إعادة تأكيد على الالتزام الدولي، وهو بذاته مطلوب، فحقوق الإنسان ليست اختراعاً جديداً بقدر ما هي قضية تستحق الدفاع عنها وتأكيد مبادئها بالممارسة أو لا.
وبقوة الالتزام الدستوري فإن منع التمييز ومبادئ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات وضمانات الحريات العامة وقواعد دولة القانون وإعلاء الكرامة الإنسانية مكفولة. ويتبقى إنفاذها بـ «الوثيقة الوطنية لحقوق الإنسان»، أو بغيرها، فهذه مسألة شرعية دستورية في المقام الأول.
هناك سؤال حان وقت أن يطرح بالجدية اللازمة:
هل لمصر مصلحة عليا محققة في تحسين سجلها في حقوق الإنسان دون إبطاء؟
الإجابة بالقطع: نعم.
هناك تداخل حقيقي بين الوضعين الخارجي والداخلي، بقدر ما يتأكد الاستقرار السياسي على أسس من الرضا العام ترتفع فرص لعب أدوار أكبر في الإقليم المشتعل بالنيران والأزمات والانقلابات الاستراتيجية.
يوشك الإقليم أن يدخل مرحلة جديدة في توازناته وحساباته عند الانسحاب الأميركي المتوقع من العراق.
تخفيض أية احتقانات ماثلة أو محتملة في الوضع الداخلي يفسح المجال واسعاً للقدرة على المبادرة في أزمات الإقليم، وأن يطرح البلد نفسه لاعباً رئيسياً في معادلاته المستجدة.
بحسابات القوة والمصالح تنظر إسرائيل في فرصها لملء فراغ القوة حيث مصادر النفط في الخليج باسم حمايته وحصار الدور الإيراني، إيران بدورها تتمركز في انتظار مصير «مفاوضات فيينا» بشأن إحياء الاتفاق النووي للنظر في الترتيبات التي تليه، وتركيا تحاول لملمة خسائرها الاستراتيجية بمصالحات في الإقليم ولعب أدوار وظيفية جديدة وفق الاستراتيجيات الغربية، والسعودية تحاول بقدر ما هو ممكن إعادة التمركز لخفض الخسائر في أوزانها بمنطقة الخليج لصالح اللاعبين القطري والإماراتي.
هناك فرصة كبيرة سانحة أمام مصر أرجو ألا تفلت للحركة والمبادرة والتمركز حيث يصنع المستقبل استثماراً استراتيجياً واقتصادياً.
باليقين فإن ملف حقوق الإنسان ليس هو صلب الدور، لكنه ضروري لإكسابه زخمه وقدرته على أوسع اختراق ممكن يؤكد قيمة البلد في محيطه.
* كاتب وصحافي مصري