قبيل عام 1970 الذي شهد خريفه رحيل جمال عبد الناصر القابض بقوة على ناصية شارع عربي حالم بالنهوض، كان الدور السعودي يمارس فعل الحفر في النفق المظلم باحثاً عن شقوق يمكن من خلالها الولوج إلى فضاءات الضوء، فيما أدوات الحفر تكاد تقتصر على إزميل أميركي تحصّل عليه الملك عبد العزيز آل سعود أثناء اللقاء الذي جمعه بفرانكلين روزفلت على متن الطراد كوينسي في شباط/ فبراير 1945 غداة عودة الأخير من قمة يالطا التي جمعته إلى كل من جوزيف ستالين وونستون تشرشل.كان فعل الحفر هنا لا يعني بالضرورة إلغاء لفعل تكسير أضواء الآخرين التي كانت من النوع المُبهر الذي يعمي الناظر القابع في العتمة، وعبر تلك المعادلة كان «الليل قد جعل من البقرات كلها سوداء» بعين هذا الأخير، وكان لا بد من الخروج من تلك الظلمة بأي ثمن، أياً تكن الخيارات المتاحة لذلك الخروج حتى ولو كانت في «خراب البصرة» كخيار أخير، إذ لطالما كان صانع القرار السياسي في الرياض موقناً أن فعلاً كهذا، أي فعل الخروج إلى الضوء، هو أمر لا تتيحه حقائق القوة، وكذا لا تمنحه حقائق الجغرافيا والتاريخ التي تؤكد أن «الإسلام» لم يستطع فرض نفسه كقوة عالمية إلا بعيد خروجه من شبه جزيرة العرب، واعتداده بجناحَي بلاد الشام والرافدين وصولاً إلى وادي النيل، مثل هذا الفعل، الذي نقصد به هنا ممارسة التكسير، يمكن تلمّسه بوضوح في الوثيقة التي أوردها الكاتب حمدان حمدان في كتابه «عقود من الخيبات»، وهي من الوضوح بحيث لا تُبقي ولا تذر لأيّ ضبابية يمكن أن تعتري الطريقة التي كان النظام السعودي يفكر بها في مقارباته لقضايا المنطقة.
فالديمار ستريمبلر (ألمانيا

الوثيقة تحمل الرقم 342 من وثائق مجلس الوزراء السعودي، ومؤرّخة بتاريخ 27 كانون الأول/ ديسمبر 1966، وهي على صيغة رسالة موجّهة من الملك فيصل بن عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون. وبعد مقدمة قصيرة تؤكد فيها أن مصر (وليس عبد الناصر فحسب)، هي العدو الأكبر لنا جميعاً «تذهب نحو التحذير من أن ذلك العدو»، إذا ما تُرك يحرض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً فلن يأتي عام 1970، وعرشنا ومصالحنا في الوجود». ثم تمضي إلى توجيه أربعة مطالب رئيسية، أولها أن تقوم الولايات المتحدة بدعم «إسرائيل» للقيام بهجوم خاطف على مصر، تستولي من خلاله على أهم الأماكن الحيوية ما سيضطرها إلى سحب قواتها من اليمن، والانشغال عن السعودية. وبعدها «لن يستطيع أي مصري رفع رأسه خلف القناة ليحاول إعادة مطامع محمد علي في وحدة عربية». وثانيها أن سوريا بدورها يجب أن لا تسلم من الهجوم «لئلا تتفرّغ فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط مصر». أما ثالثها فيطلب سيطرة «إسرائيل» على الضفة الغربية وقطاع غزة، «لئلا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك»، و«لئلا تستغلهم أي دولة عربية بحجة تحرير فلسطين»، والرابع يقضي بوجوب تقديم الدعم للملا مصطفى البرزاني في شمال العراق لإقامة «حكومة كردية مهمتها إشغال حكومة بغداد».
وإذا كان لنا أن نستخلص هنا، فالخلاصة الأساس التي لا تشوبها شائبة من هذا السياق السابق هي أن النظام السعودي قائم أصلاً على طبيعة تناحرية مع الجوار، وهو يرى أن استقراره، بل ووجوده، مرهون، بالضرورة، بمدى النجاح في تدمير كل «نوى النهوض» المحيطة التي لا بد لها وأن تكتشف، في سياق تجربتها ومحاولتها للنهوض، أن التعايش مع ذلك النظام هو أمر مستحيل لاعتبارات تتعلق بتركيبته أولاً، ثم تتعلق بالدور الوظيفي الذي رسمه الخارج له، حتى ظهور الوهابية في القرن الثامن عشر لم يكن إلا محاولة لخلق كينونة خاصة من النوع الحامي لجغرافيا محددة، في مواجهة فقه مذاهب تداخلت فيها تعاليم الدين الجديد مع حمولات حضارية سابقة لهذا الأخير بآلاف السنين، ما يهدد، في حال عموم أي من تلك المذاهب لشبه الجزيرة العربيّة، بذوبان تلك الخصوصية وانصهارها في بوتقة جامعة يقتضيها نهوض المنطقة بأسرها.
ما بعد خريف العام المشار إليه أعلاه وصولاً إلى العام الأخير من عقد السبعينيات من القرن الماضي بدأت السياقات وكأنها تقود نحو إمكانية تضخيم الدور السعودي مما كانت تبشر به العديد من الرياح التي كانت تلوح في الأفق غير البعيد، فبعيد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وما نتج عنها من فورة نفطية كانت تمثل حالة احتياج أميركية إلى رفع أسعار الطاقة في مواجهة المنافس الأوروبي الذي استند في قيامته إلى سعر طاقة رخيص كان أحد نتاجات «مشروع مارشال» الذي أقرته الولايات المتحدة لمساعدة أوروبا بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما جرى، بعد نحو عقدين، هو أن الاقتصاد الأوروبي كان قد أضحى المنافس الأكبر لنظيره الأميركي بدرجة بدا كأنه قابل لإلحاق أضرار أكبر بهذا الأخير، هنا كان قرار حظر النفط الجزئي، الذي اتخذه الملك فيصل بإيماءة أميركية، ضرورياً لإفهام أوروبا بأنها تعدت الحدود المسموحة لها ولم يعد لمشروع مارشال من معنى. لكن من حيث النتيجة كان الفعل يراكم في الجعبة السعودية مكسباً من العيار الثقيل، ثم جاء خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي في أعقاب زيارة أنور السادات للقدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، لينعش آمالاً سعودية أيضاً بإمكان ملء الفراغ الحاصل عن ذلك الخروج الذي أيّدته في البدايات، لكنها عارضته في النهاية بعيد ثبوت نزعة السادات التي أراد من خلالها الخروج من تحت الملاءة السعودية، ومع انتصار الثورة الإيرانية في طهران شباط/ فبراير 1979، تأكد أن الدور الذي سوف تلعبه الرياض يمكن له أن يحظى بسند إقليمي واسع الطيف، وكذا بنظير له دولي لا يقل طيفه عن سابقه، حتى إذا حدث التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان أواخر هذا العام الأخير، بدا قاطعاً أن جعبة أخرى يجب أن تخاط من قماشة أخرى تتسع وتتسع، لكي تستطيع احتواء كل هذه المكاسب، بعد أن تأكد للرياض أن التشخيص الذي اعتمدته واشنطن يقوم على أن الوهابية هي «الترياق» والدواء المضاد الناجع لمكافحة «السموم» الشيوعية في المنطقة.
«معادلة كوينسي» القائلة بحماية عرش المملكة السعودية ووحدتها الجغرافية في مقابل النفط لم تعد قابلة للاستمرار لاعتبارات تتعلق بمقاييس الربح والخسارة الأميركيين


قامت نظرية زبينغو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر، لمواجهة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان على ثالوث المال السعودي، ونهج يغرف من جعبة «الإيمان» في مواجهة «الإلحاد» السوفياتي، والاثنان كلاهما يعتدان بدثار أميركي معنيّ، بالدرجة الأولى، بتقديم دعم لوجستي بشتى صنوفه من النوع اللامحدود، والنظرية من حيث النتيجة أخرجت إلى العلن ظاهرة «الأفغان العرب» التي كانت لها آثار كبرى على مجريات الحرب الدائرة في أفغانستان، حتى إذا ما لاحت تباشير «الحصاد» كان القرار الأميركي بتفعيل محور جديد داعم للمواجهة كانت السعودية تمثل فيه أيضاً عموداً فقرياً.
في 13 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1985 سيعلن أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي عن تخلي بلاده عن اتفاق ضبط إنتاج النفط، ومن ثم راحت الرياض تغدق سوق النفط بكميات كبيرة أدت بدورها إلى انخفاض كبير في أسعاره، الأمر الذي شكّل عثرة كبيرة بوجه الاقتصاد السوفياتي الذي كان يعتمد على عوائد النفط لشراء العديد من السلع وعلى رأسها القمح، ولم يكد عام واحد يمضي على إعلان اليماني السابق الذكر حتى كان الاقتصاد السوفياتي أمام مأزق مزدوج تكوّن بفعل التكاليف الباهظة للحرب في أفغانستان، وبفعل تردي مداخيل النفط، وصاح المنادي: «حقّت لكم الآن زغاريدكم آل سعود»، كان الفعلان يقومان على رأس حربة سعودية، وإن كانت الحربة مسنودة بنصل أميركي صعب الانكسار. لكنّ الفعل كان قد كرّس رؤية سعودية تقول بأن الدور قد ارتقى إلى العالمية، فيما الرياض لم تكن تتحسب بالتأكيد لحقيقة مفادها أن هذه الجينات التي استطاعت إنتاج بنيان قادر على تسويق كل هذا الخراب، لا بد لها أن تحدث فيها طفرة لا يستطيع علم الوراثة وضع رسم أولي لما سينتج عنها.
في أيلول/ سبتمبر من عام 2001 كانت الشيفرة على موعد مع تلك الطفرة، ففي الحادي عشر منه ستسجل الكاميرات على الهواء مباشرة سقوط برجَي التجارة العالميين في نيويورك، بكل ما يحملانه من رمزية دالة على السطوة الاقتصادية الأميركية على العالم، الحدث الذي غيّر بلحظات الكثير من المفاهيم والكثير من التصورات، بل وأحدث تغييراً في طبيعة السياسات الأميركية من جهة، والعالمية على الضفة المقابلة، ثم راح الكل ينتظر النتائج، ومن سيكون أول ضحايا الأسد الأميركي المطعون في غرّته.
ما حال بين أن تكون المملكة أولى تلك الضحايا، وفي الأمر ما كان يدعو إليه انطلاقاً من المعطيات التي تكشّفت سريعاً والتي تقول بأن 16 من أصل 19 من منفذي العملية كانوا من السعوديين، ناهيك بأن خالد شيخ محمد الذي يوصف بـ «المهندس الرئيسي» لتلك الهجمات، وهو ما أكدته تحقيقات اللجنة المعنيّة بها، كان هو الآخر سعودياً غير منزوع الجنسية، بل وتربطه علاقات حسنة بمن هم في مواقع القرار في الرياض... نقول ما حال بين أن تكون السعودية أولى الضحايا عاملان اثنان، أولهما هو حال الترابط القائم ما بين الاقتصادين السعودي والأميركي، والذي كانت تشير العديد من التقارير إلى أن فكاكاً مفاجئاً له يمكن أن تكون له الكثير من الارتدادات الخطرة على هذا الأخير، وثانيهما هو أن سقوط عرش آل سعود، الذي يمثل بديلاً وحيداً لاستمرار وحدة الجغرافيا السعودية بشكلها الراهن، قد يُدخل سوق النفط في تذبذبات لا يعرف كم سيطول أمدها سواء أفضى السقوط إلى استمرار المملكة في وحدة جغرافية، أم قاد الفعل إلى دويلات متناثرة كحال الإمارات الخمس الرابضة على شاطئ الخليج العربي والتي كانت، ولا تزال، تنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر. لكن ما كان للصبر الأميركي أن يدوم طويلاً، وانتهاؤه كان يرتبط، إلى حد بعيد، بتغيّر المعطيات التي جهدت واشنطن لتغييرها سريعاً.
بدا جلياً أن العقد الثاني من القرن الحالي سيكون حافلاً بالكثير من المشاكل للدور، بل وللكيان السعودي مع تغيّر المعطيات السابقة الذكر التي تبلور منها بشكل جلي اثنان بارزان، الأول هو تغيّر المقاربة الأميركية للعلاقة مع إيران التي قادت إدارة باراك اوباما إلى توقيع الاتفاق النووي في تموز/ يوليو 2015، وإن كانت الرؤية قد عانت انقطاعاً زمن خلفه دونالد ترامب الذي قام بإلغاء الاتفاق في أيار/ مايو 2018. إلا أن عودة المفاوضات سريعاً بعيد وصول خلفهما جو بايدن إلى السلطة في واشنطن تشير إلى أن المقاربة الأولى هي التي تغوص عميقاً في ذهنية صانع القرار السياسي الأميركي، والثاني هو وصول الولايات المتحدة إلى حال من شبه الاكتفاء الذاتي من النفط الصخري الذي أعطى واشنطن حرية أكبر في التحرر من حالة الاحتياج إلى الرياض في سياق التحكم بسوق النفط العالمية، وإن كانت تكاليف استخراج هذا الأخير المرتفعة قد حالت دون الاستثمار بعيداً في مسار كهذا، أقلّه حتى الآن. والعاملان السابقان قادا إلى تبلور سياسة في واشنطن مفادها وحوب دفع الرياض لأثمان الذنوب السابقة التي إن لم يكن النظام يتحمّلها بشكل مباشر فبنيويّته بالتأكيد تتحمل وزر تلك الذنوب، كان أول التباشير قد خرج إلى العلن عبر «قانون جاستا» 2016 الذي أعطى الحق لأسر 3 آلاف من ضحايا أيلول/ سبتمبر 2001 بالحصول على تعويضات لا أحد يعرف حجمها، بل ولا طبيعتها. والمسار أيضاً كان قد عانى ما عاناه سابقه زمن حكم ترامب الذي طواه «تحت الوسادة» لاعتبارات لا علاقة لها بخيارات الدولة العميقة التي ستعود للبروز مع خلفه بايدن، عبر الكشف عن تقرير استخباراتي سري في شهر آذار/ مارس الماضي، وهو يشير إلى مسؤولية مباشرة للمملكة في أحداث نيويورك 2001 السابقة الذكر.
في 25 آب/ أغسطس الماضي كانت المملكة على موعد جديد مع حدث يشي بوجود قرار نافذ بحتمية تآكل الدور، فوصول حركة طالبان إلى السلطة في كابول هو مؤشر انحداري هام إلى تراجع النفوذ السعودي في العالم الإسلامي. والأخطر هو أن ذلك التراجع يحصل أمام دور قطري يبدو وكأنه استطاع كسر مفاعيل الهجوم الرباعي الحاصل عليه صيف عام 2017، عبر شبكة معقّدة من المصالح، قد نقول قد تُقرأ على أن القرار السابق احتوى، من بين ما احتواه، آلية لاستخدام الدور القطري كإسفين أخير يُدق في نعش نظيره السعودي.
باتت «معادلة كوينسي» القائلة بحماية عرش المملكة ووحدتها الجغرافية في مقابل النفط بالية، ولم تعد قابلة للاستمرار لاعتبارات تتعلق بمقاييس الربح والخسارة الأميركيين. ثم إن المزاج العام الأميركي لم يعد، كما كان عليه في السابق، يميل نحو تقديم حماية لنظام أظهر عجزاً في مواكبة عالم متسارع، والسكون فيه، كبديل عن الحركة، أساس للوصول إلى الهدف المتمثّل باستمراره.

*كاتب سوري