لا يمكن اعتبار المشهد المتكوّن في المدينة القديمة من حمص نهائياً، وحتى لو اعتبره البعض كذلك فإنّ الوقائع المرتبطة بعودة الناس لن تسمح لهؤلاء بتجاوزها كثيراً. ثمّة بالفعل تناقضات جرى تحييدها، وهي الخاصّة بالصراع بين النظام والمعارضة المسلحة «المدافعة» عن الأحياء القديمة. وهذا التحييد قد يسمح بولادة تناقضات جديدة تنقل الصراع من ضفّة إلى أخرى، وتجعله ممكناً داخل الحيّز الذي تعتبره المعارضة موالياً.
لا يكلّف «الثوريون» أنفسهم عناء البحث في احتمالات كهذه، فالمسألة السورية بالنسبة إليهم تتطوّر في اتجاه واحد هو اتجاه «الثورة»، وأيّ حياد عنه يعامل كنكوص وكخطأ يجب تصحيحه. الحرب وفقاً لهذا المنظور تعتبر فعلاً نظامياً فحسب، ولا يصحّ بالتالي توضيح جوانبها الأخرى المتعلّقة بالمعارضة المسلحة. لا يمكن مثلاً الحديث عن أحقّية أهالي حمص القديمة بالعودة إلى منازلهم التي أخرجوا منها عنوة، فهذا سيقوّض امتلاك «الثوار» لتلك المنطقة بفعل قتالهم المستمرّ داخلها، وسيفتح المجال لنقاشات تتحدّث عن «الثورة» بوصفها حرباً. الأرجح أنّ حدوث ذلك سيبدّل كثيراً داخل الرواية المعروفة عن حمص. سيجعلها متعدّدة أكثر ومفتوحة على تأويلات عديدة. لن تكون بعد الآن ملكاً «للثورة» وحدها، ولن تؤبلس طرفاً بعينه من أطراف الحرب، فالنظام مجرم أكثر من المعارضة، ولكنه لا يحتكر الإجرام، إذ إنّ ارتباط هذا الأخير بالحرب ومنطقها يجعله في متناول الجميع، بما في ذلك «الثوّار» أنفسهم. حلول الحرب محلّ «الثورة» وخطابها الحصري أصبح ضرورياً، وهو إن لم يعاود توزيع المسؤوليات كما يجب، فعلى الأقلّ سيغيّر الكثير في حمص وخارجها، وسيسمح «للتطوّر الاجتماعي» المحايث للحرب بأن يأخذ مداه، وعندها لن يصعب علينا تفسير ظواهر مثل النهب وتمويل الأعمال القتالية للطرفين عبر «الإتاوات» وأفعال الخطف.
أمور أخرى كثيرة ستتغيّر أيضاً، منها مثلاً العمل بالتقسيمات البالية التي تموضع السوريين وفقاً لانتماءات أوّلية ومسبقة. انتماءات أخذت تضمحل مع التصاعد التدريجي للحرب، وإتيانها على كلّ ما كان قائماً قبلها من تعريفات سياسويّة ضيّقة وسطحية. قد لا يكون اضمحلالها نهائياً، ولكنها بالتأكيد لم تعد تعبّر عن الواقع الذي أعادت الحرب إنتاجه. فهذه الأخيرة خلطت الانتماءات على نحو واسع، وغيّرت إلى حدّ كبير الخرييطة الاجتماعية التي ولدت في سياقها الاحتجاجات. النظام نفسه لم يعد قادراً بفعل الحرب على الدفاع عن «انتصاراته» الهزيلة كما يجب. وأصبح مضطراً مع «تقادم قوّة الجيش» والتشبيك الحاصل بينها وبين الميليشيات (بعضها وليد بيئات تضرّرت من بطش المعارضة وإجرامها ودفعت دفعاً إلى خيار التسلّح) على أنواعها، إلى التنازل قليلاً لخصومه.

بقيت المعارضة
تعوّل على خطاب «الثورة» الذي أفلس عملياً


هكذا غدت «التسويات» خياراً يلجأ إليه في كلّ مرة يعجز فيها عن تحقيق «الانتصار» على البيئات الاجتماعية المناوئة له. ثمّة أيضاً قناعة بدأت تتكوّن داخل هذه البيئات نفسها باستحالة إيصال التمرّد الشعبي المسلّح إلى خواتيمه، وخصوصاً أنه أصبح اليوم في مواجهة بيئات اجتماعية عريضة، و«غير موالية بالضرورة». هذه الأخيرة لا تشبه النظام في بنيتها ولا تلجأ إلى القتل الأعمى كما يفعل، وإذا قاتلت إلى جانبه فلكي «تردّ القتل عن نفسها» وتدفعه عن أهلها ليس إلّا. في الآونة الأخيرة بدأت تكتيكات هؤلاء القتالية تتغيّر، فانتقلوا من القتال التراجعي والدفاعي داخل بيئاتهم إلى الالتحام المباشر ببيئات المعارضة إلى جانب قوّات النظام، وهذا تطوّر تسأل عنه المعارضة المسلّحة التي أمطرت مدنييهم وفقراءهم بقذائف الهاون، وقرّبت المسافات أكثر بينهم وبين الجيش. ساعد ذلك النظام على توسيع قاعدة تحالفاته الاجتماعية التي كانت قد تراجعت كثيراً مع بداية الاحتجاجات وعمليات القتل، فأصبح غير مضطرّ لبذل الكثير من الجهد حتى يقنع المتردّدين والخائفين من الانخراط في الحرب بضرورة مساندته ضدّ المعارضة المسلحة، وخصوصاً التكفيرية منها. هذا التغيّر بدا ملحوظاً أكثر في دمشق وريفها، ومن المؤكّد أنّ «اقتتال البيئات الاجتماعية» بعضها ضدّ بعض هناك قد أسعف النظام في استراتيجيته المعتمدة على «التسويات المحلية». حلفاؤه (روسيا وإيران وحزب الله) تدخّلوا أيضاً، وأجبروه على تعديل صيغة «التسويات»، بما يحفظ للمسلّحين المحلّيين كرامتهم ولا يحطّم بيئاتهم الاجتماعية على نحو ما حصل في القصير مثلاً (هناك لعب حزب الله بفعل وجوده القوي وانتشاره اجتماعياً دوراً معاكساً وسلبياً!). أصلاً لم يعد النظام قادراً بفعل التطوّرات الجارية على تكرار نموذج القصير، ذلك أنّ تحطيم البيئات الاجتماعية أصبح عبئاً على قوّاته خارج حمص وريفها، وثمّة أصوات موالية له بشدّة (ناهض حتّر مثلاً) بدأت تطالبه بحفظ تلك البيئات داخل حمص نفسها. لا ينطلق هؤلاء في «خطابهم الجديد» من الحرص على المهمّشين الذين سحقتهم آلة النظام الفاشيّة بقدر ما يحرصون على الخريطة الاجتماعية المتغيّرة التي ستتيح للسلطة استكمال سيطرتها على المجال الاجتماعي العام. يهمّهم كثيراً أن تكون «جميع» الشرائح الاجتماعية «ممثّلة» في الخريطة الجديدة التي نجمت عن إخراج المسلّحين من حمص القديمة (وقبلها من الحصن والزارة في الريف الغربي)، لأنه إن لم يحصل ذلك ولو على المستوى الرمزي، فستتحوّل عملية «إعادة الاعمار» (رصدت الدولة موازنة تقدّر بستّ مليارات ليرة لإعادة اعمار حمص، فيما القصير وسواها من المناطق المدمّرة متروكة لمصيرها!) التي بوشر الترويج لها إلى نكتة سمجة تضاف إلى مجموع النكات التي يفترض بها مواكبة التسويات العسكرية وتأطيرها سياسياً. لنلاحظ أنّ هذا الخطاب بدأ انطلاقاً من حوادث حمص القديمة بالتأقلم مع المتغيّرات التي تفرضها الحرب، فبعدما تأقلم أصحابه مع «التسويات المحلّية» وسلّموا بعدم إمكان إلحاق هزيمة كاملة ببيئات المعارضة في دمشق وريفها، بدؤوا يميّزون بين المسلّحين وبيئاتهم الاجتماعية، وكفّوا جزئياً عن تحقير هذه البيئات المفقرة بدعوى رعايتها «للإرهاب» الوهابي المموّل سعودياً. لم يحصل ذلك بسهولة، واستغرق الأمر وقتاً حتّى أدركوا إلى جانب غيرهم من المتوتّرين ودعاة السحق والمحق أن لا حلّ استئصالياً للأزمة، وأنّ الحرب ليست في جيب أحد، فهي طريق في اتجاهين، ولكي نسلكها بسلامة ونخرج منها معافين لا بدّ لنا من التأقلم واستخدام أكثر من استراتيجية في الآن ذاته. المشورة الإقليمية الخبيثة والحاذقة حضرت هنا بقوّة وسرّعت من وتيرة التغيير الذي طرأ على الاستراتيجيات العسكرية، مدفوعة كما في حالات أخرى كثيرة بهاجس الحفاظ على الدور الذي ينفّذه الوكيل السوري بحذافيره. طبعاً «التغيّر» هنا بقي في حدود ما يريده النظام ومن ورائه حلفاؤه، ولم يصل منه إلى البيئات المحطّمة والمدمّرة سوى القليل، فوجودها ليس مهمّاً إلى جانبه، رغم أنها استفادت أحياناً من «التسوية» وحفظت الكتلة الاجتماعية المتبقّية داخلها من مصائر فظيعة لقيها آخرون مضوا في خيارهم العسكري المدمّر حتى النهاية (يبرود، القصير،... إلخ).
المعارضة من جهتها لم تعرف كيف تتعامل مع المعطى الجديد الذي أفرزته الحرب، وبقيت تعوّل على خطاب «الثورة» الذي أفلس عملياً ولم يعد باستطاعته استقطاب المزيد من الدعم، سواء الداخلي أو الخارجي. تعاملها مع «التسويات المحلّية» بالتحديد بدا ضعيفاً وخاضعاً لموازين القوى التي فرضها النظام بدفع من حلفائه. بقيت تحضّ البيئات التي تحتضنها على المقاومة والصبر في مواجهة الحصار حتى انقلبت هذه الأخيرة عليها، وأجبرتها على القبول بالشروط التي وضعتها السلطة للتسوية. هي لم تهزم تماماً، ولكنها استسلمت لضغوط أبناء المناطق الذين وجدوا في النهاية أنّ في مقدور النظام أن يقدم لهم شروط الحياة التي عجزت المعارضة المسلّحة عن تقديمها. صحيح أنه يقتل ويدمّر المدن ويرتكب المجازر، إلا أنه يحتكر القوّة المسلّحة ويمتلك الموارد اللازمة التي تتيح له تيسير سبل العيش أمام من أقعدتهم الحرب عن الفعل والعمل. هو يتصرّف بالضبط كدولة بطشت بالجزء المتمرّد من شعبها، وحين «أخمدت تمرّده» عرضت عليه العودة إلى «حياته السابقة»، ولكن بشروط الحرب هذه المرّة، وبقدر ما تتيحه هذه الأخيرة من فرص للعمل والعيش. ليست هذه الإمكانية متاحة بالدرجة نفسها لدى لطبقات التي تحكمها المعارضة في أرياف دمشق وحلب وادلب و...الخ، فالموارد المتوافرة هناك لا تكفي لإحياء الدورة الاقتصادية التي أنهتها الحرب، وإذا وجدت فسوف تذهب مباشرة إلى جيوب الأمراء (أمراء الحرب)، ولن يتبقّى منها للفقراء والمهمّشين الذين قاموا بالثورة وأشعلوا جذوة التمرّد إلا الفتات. هكذا، تكون المعارضة المسلّحة قد تكسّبت من الحرب هي الأخرى، ولكن على حساب الأكثرية من شعبها التي ازدادت فقراً وحرماناً، ولم تستفد من تفكيك مراكز القوى النظامية التي كانت تنهبها. وهذا بالضبط ما تفاداه النظام حين قرّر أن ينهب البلد عبر أدوات الحرب، ويترك الباقي (وهو ليس بالقليل) لكي توزّعه مؤسّسات الدولة على الطبقتين الوسطى والفقيرة على شكل رواتب وأجور من جهة، ومساعدات عينية ونقدية من جهة أخرى (الدولة لا تساعد أحداً من المهجّرين والنازحين في الداخل، ولكنها تترك الاقتصاد الموازي الخاصّ بالجمعيات الأهلية يخلق دورته ويشغّل التجار والأيدي العاملة، من دون الحاجة إلى تدخّلها أو صرفها قرشاً واحداً). ثمّة تعقيدات أخرى كثيرة تجعل من المعارضة المسلّحة «الطرف الأضعف» في هذه الحرب، رغم أنها تمتلك العنصر البشري أكثر بكثير من النظام، وتمسك بالأطراف التي أفلتت منه منذ مدة. هناك - أي في الجزيرة - بدأت تتراكم ثروات لا نعرف بالضبط حجمها، ولا مقدار استفادة المفقرين والمهمّشين منها. ما نعرفه فقط أنها لا تساعد المسلّحين وخصوصاً الإسلاميين منهم على بناء قاعدة مستقرّة لحكمهم. النفط الذي يتصارعون عليه في تلك المناطق ويستحوذون على حقوله يخضع لنفوذ مافيات لا يهمّها ماذا يأكل الناس أو ماذا يشربون، ولذلك فالحديث عن «الدولة» هنا يبدو مضحكاً، وخصوصاً في غياب قاعدة اجتماعية مستقرّة وجهاز توزيع يضمن وصول الأموال التي بحوزتهم - الفائض تحديداً - إلى الناس.
الطرف الوحيد القادر على توفير ذلك حالياً هو النظام. لديه الكثير ليقدّمه للمتمرّدين لقاء تخلّيهم عن تمرّدهم، بخلاف «المعارضة» التي لا تملك شيئاً تقريباً، ثمّ تأتي لتحدّثنا عن «البدائل» و«الخيار الديمقراطي». هذا باختصار ما جنته علينا الحرب. سرّعت من وتيرة «التطوّر الاجتماعي الخاصّ بنا»، وجعلتنا «نقبل بالنظام» الذي يدمّر المدن والأحياء بيد ويفرض «التسويات» و«الاستقرار» باليد الأخرى.
* كاتب سوري