تشكل سجون الاحتلال الصهيوني أحد أهم عناصر القوة التي يعتمد عليها الكيان الغاصب، ودرّة تاج المنظومة الأمنية والقمعية بوصفها الرادع الأقوى للمستعمر الاحتلالي لكل من يفكر بالمقاومة والثورة، وسجون الاحتلال ليست سجوناً بالمعنى الحرفي إنما مقابر جماعية للمقاومين في ظل المؤبّدات والأحكام العالية وظروف السجن النفسية والصحية القاهرة وعمليات التعذيب المتوحّشة. ولم يكتف الاحتلال بسجونه المعلنة والسرية بل خلق سجوناً متواطئة محلية من أجهزة أمن السلطة بصفتها الهيكل أو المؤسسة الوظيفية المنوطة بدعم الاحتلال وشرعنة العمالة والتطبيع وأداة قمع وتعذيب رديفة. وإذا كانت فكرة السجن في أصلها أداة تصويب للحفاظ على المجتمع وعقاب المخلّ باستقراره إلا أن الأسرى الفلسطينيين نسفوا فكرة شرعية "الكيان الصهيوني" كدولة وأفرغوا فزّاعة الاحتلال من مضمونها وحوّلوا السجن من أداة احتلال إلى أداة مقاومة ورمز للتحرر ومعسكرات لبناء الأمل والصمود والروح الثورية.
إذا كان السجن في عمقه وفلسفته نقيض الحرية، فإنه في فلسطين، لا حدَّ فاصلٌ وواضحٌ بين السجن وبين خارجه، الكل معتقَل مع فارق المساحة التي يتحرك بها وبعض امتيازات المستعمر والعبودية الجديدة. وما يسمونها حرية يختلف معناها في أدبيات أوسلو ، الحرية في قاموس نهج أوسلو أن تسلم للمحتل ولا تطالب بحريتك ولا تدعو لها بل وممنوع عليك حتى أن تطالب بها، عليك فقط أن تكتفي في أحسن الأحوال بتحسين شروط عبوديتك، وإذا كانت فكرة أوسلو تقوم على بناء "الدولة" فإنها في الواقع ليست أكثر من أداة استعمارية جعلت من كل الأجهزة الأمنية والعسكرية أداة في يد المحتل تعتقل وتبطش وتغتال كل من يفكر أو يقوم في أي فعل مقاوم حتى ولو في الكلمة، وإذا كان من قبيل التندّر أن يقال إن هناك نظاماً يحاسب على النوايا إنما في فلسطين هذا واقع، فلو شك أي جهاز أمني في أنك تحمل فكرة أو نوايا عنف ثوري فإنك حكماً معتقل. سلطة أوسلو يعني أن تتسابق أجهزتها الأمنية إلى اعتقال أي خلية مقاومة أو مقاوم مطلوب بتهمة الدفاع عن بلده ولو كان أسيراً محرراً أو حتى مقاتلاً بالفكر والكلمة، ولا عجب إذا قلنا إن معظم قادة وشهداء المقاومة إما اعتُقلوا في سجون السلطة أو تمّت الوشاية عليهم منها، ولا عجب أيضاً إن قلنا إن معظم الأسرى البواسل تم تسليمهم أو الإبلاغ عن وجودهم من قبل أجهزة أمن السلطة. سلطة تتفنّن في إعاقة تشكيل حركة تحرر وطني وإجهاض كل محاولة شعبية أو تنظيمية تقارع المحتل، سلطة تتمترس خلف المحتل وتسجدي رضاه، سلطة مستعدّة أن تفعل المستحيل لتثبت أنها تقوم بدورها الوظيفي العميل على أكمل وجه، سلطة تقتل أي عمل نقابي مؤسساتي يساهم في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، سلطة تتحالف مع كل الأنظمة الرجعية العربية والعالمية وتبعث التقارير الشهرية إلى المخابرات الأميركية والأجنبية وتقبض ثمن عمالتها مليارات -في الغالب قروض تُسدد من جيوب الناس -وتحوّل من أموال لها أداة ضغط لشراء الذمم وتثبيط العزائم والروح الثورية، سلطة تغطي الفاسد والعميل وتتحالف مع الأوليغارشية المتحالفة مع الاستعمار وأعوانه وتحمي المحتل إذا ضل طريقه وتقتل المقاوم إذا احتمى في سفارتها، سلطة تفتش في كل مكان عن أي مقاوم لتسلمه للمحتل، تفتش حتى في «شنطات» أطفال المدارس عن أي دليل على حس المقاومة الموروث، سلطة تفوّقت بعمالتها على كل من سبقوها في العالم بالتحالف مع محتلّهم ومستعمرهم. وإذا ما نسميه أسراً هو الصورة النقيض لكي يشعر من هم خارج السجن بالحريّة المنقوصة الممنوحة لهم، حريّة التنقل والسفر والعبور، فلا حريّة تحت سوط الاستعمار ومدافع الاحتلال وإنما عبودية وذل أقل، يصاحبهما قلق دائم من فقدانها، ومقايضة الحريّة بالخضوع "الحُر" الزائف.

إذا كان ٦ أسرى أبطال انتزعوا حريتهم عنوة وخرجوا للشمس فإن أكثر من ٤٨٥٠ أسيراً وأسيرة يتوزعون على ٢٣ سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف ما زالوا يرون الشمس مقطّعة خلف قضبان السجن، بينهم أكثر من ٤٣ مناضلة يعجنّ أنوثتهن مع الصبر ويربين الحقد على المحتل في أطفالهن في سبيل حرية هذا الشعب، كل هذا ولا صوتَ نسوياً واحداً من كل نسويات أميركا والمستعمر وأدواته يهمس بكلمة حق في سبيل قضيتهن العادلة، وإذا كانت الطفولة رمز البراءة في دعاية المستعمر وترويجه لنفسه فإن كل العالم يصمّ آذانه عن سماع أنين ٢٢٥ طفلاً فلسطينياً في السجون تذبح براءتهم يومياً وتُغتصب طفولتهم ولم تهتز شعرة في إنسانيتهم. يكاد يكون الأسر والاعتقال من طقوس العائلة الفلسطينية أو قرباناً واجباً على كل بيت فلسطيني. فمنذ نكسة ١٩٦٧ اعتُقل أكثر من مليون فلسطيني بينهم ١٧ ألف امرأة وأكثر من ٥٠ ألف طفل واستشهد أكثر من ٢٢٦ أسيراً داخل السجون والمئات تُوفوا بعد تحريرهم بفترة قصيرة نتيجة سوء الرعاية الصحية والأوبئة الناتجة عن الأسر، وما زال عدّاد المعتقلين في تزايد يومي، يتعب هذا العدّاد ولا يتعب الشعب! يعيش الأسرى داخل سجون الاحتلال الصهيوني أوضاعاً ومعاناة استثنائية؛ سجون تُعتبر قطعاً من عذاب جهنم نتيجة الحر الشديد والرطوبة العالية صيفاً والبرد القارس شتاء، يلاقي فيها الأسرى أبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وكل صنوف العذاب والحرمان بوحشية تشبه إجرام هذا المحتل، تؤذي وتضعف وتوهن أجساد الكثيرين منهم ولا تنال من صبرهم وعزيمتهم وصلابتهم؛ تعذيب جسدي حتى الإغماء وجلد وكراسي موت، وتعذيب نفسي حتى الهذيان والجنون وابتزاز بالشرف والعرض والأهل والمال والولد، وحرمان من الرعاية الطبية ومماطلة في تقديم العلاج للمرضى والمصابين، وافتقار لأدنى مستويات الرعاية الطبية للأطفال والنساء، وفقدان معظم الأجهزة الطبية والأدوية والعلاجات، كل هذا في سبيل كسر شوكة وعزيمة المقاوم وردع من يقف خلفه ويواصل كفاحه من أبطال شعبه؛ هذا المحتل مجبول على الظلم حتى أجهزته الطبية أجهزة قهر وإذلال وتعذيب وأدوات متوحّشة تزيد من عذابات الأسرى خلال الاعتقال والعلاج بل وضالعة في تسميم وحقن أجساد الأسرى بكل صنوف الأمراض والموت. كل أساليب الضغط النفسي والجسدي مشرعة في دولة الاحتلال والتي تُعتبر سابقة أن يشرع "كيان" يدعمه كل أباطرة العالم "الديمقراطي" الاستعماري الحديث لنفسه تعذيب الأسرى والمعتقلين بما يخالف كل الشرائع والمعاهدات والمواثيق وكل حقوق الإنسان.

واذا كانت "الشجاعة وُلدت فلسطينية" فإن صمود الأسرى هو أعمق معانيها وأبرز تجلياتها، ما يُحكى عن الأساطير في التاريخ وما ترويه الروايات عن البطولات والصمود وقدرة الإنسان على التحمل تجده واقعاً في زنازين الاحتلال، ولو أراد أي باحث دراسة مستويات الصلابة النفسية فلوجب عليه اعتماد صلابة المقاومين في السجون كمعيار أساسي لبحثه. لو دخلت وقابلت الأسرى فستجد مدارس في صناعة الأمل واجتراح المستحيل في سبيل الحرية والتحرر. وإذا كانت فكرة السجن بالضرورة توازيها فكرة الحرية، فإن الشغل الشاغل لأي سجين أو أسير في العالم هو في كيفية الخلاص من سجنه، وهذه سمة الفطرة البشرية، ولكن في فلسطين يضاف إليها بعدٌ آخر وهو البعد الثوري المقاوم، أي أن الأسير يفكر في الهروب ليس للحرية الشخصية فحسب بل لتكون حريته بحد ذاتها فعلاً مقاوماً وعودة إلى ميادين المقاومة واستكمال النهج التحرري. في فلسطين الهروب من السجن لا يشبه مثيله في العالم، في فلسطين السجّان محتل والمتحرر مقاوم، في فلسطين حين يتحرر الأسير بشقّ نفق أو كسر قيد يكون قد داس على جبروت الأمن الإسرائيلي وتخطى أصعب أنواع السجون وأكثرها تحصيناً... الإسرائيلي ليس ضعيفاً أمنياً ولا سجونه ضعيفة الحراسة، ولكن ما يفعله الأسرى إعجاز وإبداع حقيقيان، قيمتهما ليست فقط في انتزاع حقهم بالحرية بمقدار ما هي خطوة متقدمة في طريق التحرر حين تتهشّم صورة الوهم الأسطوري في نفوس الصهاينة وتشرق شمس الأمل في نفوس باقي الأسرى ويشتعل النزق الثوري والوحدوي في صدور الشعب، وأن كل محاولات الاحتلال في كسر شوكة وعزيمة الشعب تُترجم في المزيد من الصمود والمقاومة والوحدة والأنفة في نهج المقاومين.


"لديّ يقين في ذلك" ! هذا لسان حال كل الشعب الفلسطيني ومحور المقاومة وشعوبه وكل حركات المقاومة وقادتها عن تحرير فلسطين، عبارة تختزل يقين السيد نصرالله وثورية الحكيم جورج حبش ومدرسة المعلم فتحي الشقاقي ونهج الشيخ أحمد ياسين، هذه صلب عقيدة كل الثوريين والمقاومين والأسرى والمحررين، إذا كان هذا نهج ويقين شعب وأمة في تحرير الوطن فكيف هو الأمل بتحرير الأسرى؟، هذا شعب عظيم جبّار لن توقفه كل الاحتلالات ولا كل أدوات الاستعمار مهما استفحلت أزلام أوسلو في لوث الخيانة ومهما تفنّنت في التعذيب والقمع وعرقلة المشاريع المقاومة ومهما حاولت قتل الروح الثورية ومهما طغى الاحتلال وظلم ولو وقف معه العالم أجمع ولو شرعنته كل أنظمة الكون ولو اصطفّت هيئة الاستعمار المتحدة ومجلس الإرهاب العالمي وجامعة الذل العربية بلداً بلداً في وجهنا، فسيظل الشعب كل الشعب بكل مكوّناته يرفع راية الثورة والمقاومة ولو قُتلنا جميعاً ولو استشهد الأسرى جميعاً ولو اعتُقل الشعب كلّه، هذا ليس كلاماً عاطفياً، من يقرأ المشهد يدرك أين كانت المقاومة وأين أصبحت وكيف كان ردع الكيان وكيف تهشّمت صورته وفُضحت خيبته وقُصف مركزه. إلى مَن شقّوا نفق الحرية... لقد كنتم ستة أسرى وفي تحرّركم أسرتم ٦ ملايين مستوطن صهيوني تحت قبضة الحواجز والتفتيش الأمني وحرّرتم فرحة وطن.


*ناشطة وباحثة لبنانيّة