قبل أن تُخضع حزب الله لتحليل سياسي حول مواقفه من الأزمة اللبنانيّة عند اندلاع الانتفاضة (التي لم تلبث أن خبت) من دون تصنيف عقيدة وسياسات الحزب بمعيار الإيديولوجيا السياسيّة، هل نصنِّف الحزب في خانة اليسار أم في خانة اليمين؟ من الصعوبة بمكان إجراء هذا التصنيف في بلد مثل لبنان حيث تعاني ثقافته السياسيّة منذ أن خرَّبها رفيق الحريري (بالمال، لا بأي شيء آخر). هناك جيل بات مقتنعاً أن لا يسار ولا يمين وأننا دخلنا في حقبة زالت فيها الفوارق بين السياسات (وحتى بين الطبقات: جريدة محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط»، أجرت تحقيقاً قبل أسبوع عن معاناة الشعب في لبنان وخلصت إلى أن الفقير والغني يعانيان في لبنان. أي أن معاناة رياض سلامة وصحبه هي مثل معاناة فقراء عكّار، مثلاً). تعريف اليسار في بلادنا، باختصار شديد، يعتمد على الربط بين موقف في السياسة الخارجيّة وبين موقف في السياسة الداخليّة.
فرانشيسكو تشيكوليلا (النمسا)

يمكن القول بأن لا يسارَ في العالم العربي من دون المزاوجة بين موقف صارم ومحدّد إلى جانب العدل الاجتماعي ومحاربة الرأسمالية (والعمل على استبدالها) وبين مناهضة التحالف الإقليمي-العالمي إلى جانب مصالح الشركات الكبرى والاستعمار الغربي و«إسرائيل». يمكن مثلاً ملاحظة ان الحزب الشيوعي العراقي فشل في المعياريْن: هو كان جزءاً مكوِّناً من قوى الاحتلال الأميركي كما أنه كان ممثلاً في مجلس بريمر الذي اتخذ مواقف متطرّفة في الخصخصة وفي جشع الرأسمالية وفي مناهضة حقوق الفقراء. إن تقييم حزب الله يجب أن يأخذ في الحسبان التحوّلات الهائلة التي طرأت عليه عبر السنوات. كان الحزب في سنوات صبحي الطفيلي مجاهراً بالعداء ضد المسيحيّين واليهود، كيهود. أعداء حزب الله يمتهنون جلب مقاطع قديمة لقادة الحزب من أجل تحريض الجمهور عليه. لكنّ اللعبة هذه (والتي يجيدها إعلام مخابرات آل سعود والغرب و14 آذار التابع لهما، والتي لا يجيدها الحزب وحلفاؤه) يمكن أن ترتدّ: ماذا لو استعدنا خطب وتصاريح كل قادة 14 آذار في مديح النظام السوري والمقاومة وإيران؟ تغيّر الحزب في عهد حسن نصرالله لكن موقف الحزب من الموضوع الاقتصادي تغيّر قليلاً جداً.
من حقّ الحزب أن يكون مهووساً بالأخطار الأمنيّة التي تتهدّده. لم يسبق أن تعرّض حزب لبناني في تاريخ لبنان إلى مثل الحرب الضروس المعلنة ضد الحزب من قبل تحالف عالمي يضمّ أنظمة عربيّة ودول الغرب و«إسرائيل». لا سابق لذلك أبداً. طبعاً، السبب أن الحزب يشكِّل أكبر تهديد لمصالح الصهيونيّة في المشرق منذ تأسيس الدولة في عام 1948. هل يتذكّر أحد مثلاً أن قادة العدوّ وأميركا شنّوا حرباً وفرضوا عقوبات على جنبلاط أو توفيق سلطان أو قادة الحركة الوطنيّة في عزّها؟ حتماً لا. إن التقليل من خطر حزب الله على «إسرائيل» هو من بنات دعاية جهاز الإعلام السعودي والإماراتي لأن العدوّ في كل تقاريره وفي مؤتمرات مراكز أبحاثه يعترف أن الحزب يشكّل أكبر خطر عليه. هل حدث أن حزباً لبنانيّاً أو منظمة فلسطينيّة راكمت من القوة القتاليّة (وليس فقط التسليحيّة) إلى درجة أنها ردعت العدوّ؟ لا، حتى الجيوش العربية لم تصل إلى مرحلة ردع «إسرائيل» منذ عام 1948 إلى الآن. لكلّ هذه الأسباب، ولأن «إسرائيل» تحظى اليوم ـــ كما حظيت منذ 1948 ـــ بفريق لبناني عريض يتحالف معها ويناصر مواقفها ويشنّ الحملات ضدّ أعدائها، فإن الحزب يولي الهم الأمني العسكري على كل ما عداه.
الحزب لم يبدأ حزباً يساريّاً ولم يصبح حزباً يساريّاً. بدأ الحزب حزباً يمينيّاً حتى في السياسة الخارجيّة، إذ أنه لم يكن يومها يعتنق فكر التحالف العالمي ضد الإمبريالية، وهو الفكر الذي دخل رسميّاً في الوثيقة السياسيّة للحزب في عام 2009. الحزب في بداياته تحدّث عن المستضعفين لكن هويّته كانت لصيقة بالعقيدة الإسلاميّة المتزمّتة التي وسمت بداياته. في الوثيقة المذكورة من عام 2009، أعلن الحزب انضواءه في التحالف العالمي ضد الإمبرياليّة والصهيونيّة، كما أنه نبذَ ـــ في سابقة لحزب إسلامي عربي أو غير عربي ـــ معاداة اليهوديّة وميّز بين العداء لليهود وبين العداء للصهيونيّة. في السياسة الخارجيّة، يُصنّف الحزب بأنه متحالف مع جبهة عالميّة تضمّ يساريّين وشيوعيّين في فنزويلا وكوبا. لكن إلى أي درجة طوّر الحزب هذا التحالف، وهل أرسل وفوداً إلى تلك البلدان التي تقارع الإمبريالية والصهيونيّة في أميركا اللاتينيّة؟ ليست لديّ معلومات عن ذلك.
لكنّ الحزب تأسّسَ ونما على أساس الفكر الرأسمالي. لا يعارض الحزب الرأسمالية، لا كتابةً ولا في الممارسة من خلال سنوات طويلة في الحكم (في المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء). الحزب لا ينتمي إلى الفكر الاشتراكي وتعاطيه في هذه الأزمة يثبت أنه حزب ينتهج الرأسماليّة وإن كانت لديه تمنيات في تحسين شروط الظلم الرأسمالي. الأمين العام للحزب ناشد أصحاب المصارف الرأفة بالناس وبمصالحهم، كأن الرأسماليّة تتعاطى بالعمل الخيري. وفي خطبة أخيرة، دافع نصرالله عن المصارف وزوّدها بذريعة قائلاً إن أصحاب المصارف أرادوا إرجاع أموالهم من خارج لبنان لكنّ الغرب منعهم. ليس هناك من أي دليل أن الجشعين من أصحاب المصارف كانوا في وارد إرجاع سرقاتهم، أو أن الغرب تدخّل في هذا الشأن. في الموضوع الاقتصادي يرد في الوثيقة السياسيّة لعام 2009 كلام عام جداً عن اقتصاد يعتمد على «قاعدة القطاعات المنتجة… خصوصاً الزراعة والصناعة». لكن هذا الكلام العام هو لازمة في بيانات الحكومات المتعاقبة منذ أن كنتُ صبيّاً. لكن كيف تغيّرُ في الاقتصاد وماذا تنتهجُ من سياسات من أجل أن تنمّي قطاعَي الصناعة والزراعة؟ ولقد تولّى الحزب بعض هذه الوزارات الحساسة، ولم نجد أثراً لسياسات تختلف عن سياسات مختلف الوزراء الذين تعاقبوا بعده أو قبله. و«الإنماء المتوازن» هو لازمة لا يختلف حتى رفيق الحريري معها. ولا يتحدث الحزب عن محاربة الفقر أو القضاء عليه كهدف. لا، هو فقط يدعو إلى «معالجة مشكلة الفقر» (لكن لا يقول كيف يتحقّق ذلك). يتحدّث الحزب عن تأمين «الخدمات المناسبة» للمواطنين من «تعليم وطبابة وسكن» و«الحياة الكريمة» لكن هذا أيضاً كلام في العموميات ولا يعكس جديّة لأنه لا يرتبط ببرامج طرحها الحزب وناضل من أجل اعتناقها سياسات للدولة. هذه المقدمة ضروريّة من أجل فهم موقف الحزب من الانهيار الجاري.
لم يبدر عن الحزب منذ بداية الأزمة ما يشير إلى تقدير لفداحة الأزمة الاقتصاديّة. من المرجَّح أن الحزب أمل أن تكون الأزمة قصيرة ويرجع لبنان إلى سابق عهده من الحكم الهشّ. لا، على العكس فإن محمد رعد قبل أشهر بشّرَ بقرب نهاية الأزمة. والحزب كما هو معروف ناصر الحركة الاحتجاجيّة في بدايتها قبل أن يدعو جمهوره للخروج من الساحات. الحزب تخوَّف من اختراق الشوارع من قبل أعدائه ومن قبل أنصار «إسرائيل» (الكثر) في لبنان. لكنّ الحزب لم يسهم في الجدال الدائر حول الموضوع الاقتصادي. ما يمكن ذكره من موقف الحزب أنه أعدّ خطة اقتصاديّة لكنه أبقاها طيّ الكتمان (أعلنها أنها سريّة)، وأنه يقبل بدور لصندوق النقد لكن على أن يكون الدور حسناً. إن الحزب الذي لم يرفع الصوت ضد سياسات رفيق الحريري التي أوصلتنا إلى الانهيار انصرف إلى مهمّة التحرير وبناء قوة مقاومة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المقاومات والجيوش العربيّة. لكن في التعاطي مع الانهيار لم يتميّز الحزب عن غيره في منظومة الحكم بشيء.
امتهن أعداء حزب الله جلب مقاطع قديمة لقادة الحزب من أجل التحريض عليه. لكن ماذا لو استعدنا خطب كل قادة 14 آذار وتصاريحهم، في مديح سوريا والمقاومة وإيران؟


إن الحصار الخليجي ــ الإسرائيلي ــ الغربي للبنان هو حقيقة. والسعي إلى تركيع لبنان أمام «إسرائيل» هو من السياسات المُتفق عليها بين السعوديّة والإمارات و «إسرائيل» وأميركا منذ حرب 2006 التي أحرجت هذا التحالف. لكنّ الجهة التي كان يمكن أن تقود عمليّة مجابهة الحصار استنكفت لأنها تفضّل لملمة الوضع والعودة بقدر الإمكان إلى تركيبة ما قبل الانتفاضة. لهذا، فإن الحزب لا يقدم على طرح سياسات اقتصاديّة جذريّة بوجه المنظومة. هو يريد تحسين شروط الهيمنة الرأسماليّة لا القضاء عليها. هو يريد تحسين شروط العدل الاجتماعي لكن بصورة عامّة ومن دون طرح برامج مفصّلة. هو يريد محاربة الفساد لكن اسمياً فقط لأن الحزب اكتشف أن العلاقة مع الحليف الشيعي تعلو على أي اعتبار. والأمين العام للحزب أعلن أن الحزب سيقود معركة ضد الفساد لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث. وأصبحت تصاريح حسن فضل الله حول محاربة الفساد مدعاة للسخرية ـــ وعن حق. لأنه يتحدّث عن ملفّات تقضي على رؤوس كبيرة لكن لا يصارح الشعب بها. هو يحيل ملفاته إلى القضاء الفاسد والعاجز من دون أن يُطلعنا على مضمون ملفّاته. من حق الشعب اللبناني أن يعرف ما تكوّن لدى الحزب من ملفّات خصوصاً إذا كان فضل الله قد يئسَ من تحرّك القضاء. والذي يُعوٍّل على القضاء اللبناني يتجاهل طبيعة النظام اللبناني. والذي يعوِّل على قاضٍ واحد دون غيره يكون يعترف بفساد القضاء.
طرح الحزب عناوين عن الخيار الشرقي وطرح عناوين عن الإصلاح، لكن ليست له مبادرة جديّة في أي اتجاه باستثناء تشكيل حكومة تعود إلى توازنات الماضي بكل موبقاته وفساده واختراقه من قبل أنصار «إسرائيل» في داخل الحكم. هل شكّل الحزب وفداً رسمياً وزار الصين أو روسيا وعاد بمبادرة مدروسة لتقديمها للشعب اللبناني كخيار للخروج من الحصار المفروض؟ طبعاً، هناك يمين ووسط وشيوعيّون في لبنان يشكّكون في الحصار نفسه، كأنّ الرأسمالية المتوحّشة في دول العالم النامي ليست حصاراً. وما بالك في بلد منخرط في رأسمالية الغرب وهو يتاخم دولة الاحتلال التي لا ترى أميركا مشرقنا إلا من خلالها ومن خلال مصالحها الاحتلاليّة والعدوانيّة. الحزب ليس جاداً في خرق الحصار بالرغم من مبادرة السفينة الإيرانيّة (وهي مبادرة محمودة وكيف يمكن معارضتها من قبل تقدميّين معارضين لسياسات الغرب في بلادنا؟).
إن تشكيل الحزب لحركة المقاومة نشأ في ظروف معادية لها بالكامل: كان جيش الاحتلال يسود في لبنان وكان النظام السوري ينظر بعين الريْبة في البداية إلى هذه التجربة (وتحوّلت الريبة إلى عداء في ما بعد، قبل أن يعود النظام السوري إلى سياسة دعم المقاومة) كما أن نظام الجميّل طارد ولاحق المقاومين بالنيابة عن العدوّ الذي نصّب أمين الجميّل في الرئاسة. لكنّ حقبة ما بعد الطائف ونجاح المقاومة الإسلامية في تحقيق منجزات عسكريّة غير مسبوقة فرضا إجماعاً (غير صادق وغير عفوي) من الطبقة السياسية لأن الراعي السوري جعل المقاومة ركناً من سياسات النظام القائم، خصوصاً في حقبة إميل لحود. لكنّ الحكم في مرحلة ما بعد الطائف كان دائماً يشهد نزاعات بين محور ضد المقاومة (الحريري ومن لفّ لفّه) ومحور معه (إميل لحّود والجيش عندما كان بإمرته). بعد رحيل الجيش السوري، تكشّفت الثقافة السياسية على حقيقتها: أن جزءاً لا بأس به من السياسيين اللبنانيين متعاطف مع ««إسرائيل»» أكثر مما هو متعاطف مع مقاومة «إسرائيل». وهكذا كان لبنان منذ التأسيس، والطوائف مرّت بأطوار مختلفة في الموقف من العدوّ.
لقد قرّر الحزب ـــ من دون أن يعلن ذلك ـــ أن النظام السياسي القائم كما هو، بفساده المستشري، أنفع له ولمقاومته من فوضى التغيير غير المحمودة لأن إمكانيّة الاختراق موجودة. لكنّ الاختراق موجود في جسم النظام، كما هو موجود في المجتمع. والحزب، دفاعاً عن النظام، يحافظ على تحالفاته الطائفيّة مع أعتى الفاسدين (إن في حركة «أمل» أو في «التيّار» أو مع آخرين). وخوف الحزب من التغيير غير المعروف النتائج دفعه لقبول دور الحامي الأوّل للنظام. إن اهتمام الحزب بتلك الجملة الإنشائية (الخالية من أي مدلول أو مفعول قانوني) عن المقاومة في البيانات الوزاريّة ينمّ عن مبالغة في تقدير حاجة حركة مقاومة إلى غطاء حكومي. إن المقاومة انطلقت عندما كان نظام أمين الجميّل ركناً من أركان الاحتلال الإسرائيلي. والجملة في البيان الوزاري، والتي يرتدّ عنها معظم الموافقين عليها، لم تساهم في إسباغ شرعيّة على المقاومة. والمقاومات تنطلق من دون شرعيّات قانونيّة: هكذا انطلقت المقاومات اللبنانيّة بعد 1982 (اليساري منها والإسلامي). إن عمل المقاومة هو الشرعيّة ذاتها، والتي تمنح الشرعيّة الوطنيّة، بصرف النظر عن القانون. لو انتظرنا القانون الدولي، لكانت الأمم المتحدة تريدنا أن نسلِّم رقابنا إلى سكاكين العدوّ الإسرائيلي ليمعن فيها طعناً.
إن الفساد والتحالف معه والسكوت عنه كلّ ذلك يحفظ تحالفات ظرفيّة وطائفيّة للحزب، لكنه يفتح الباب واسعاً أمام أعداء المقاومة للصق النظام كلّه بالحزب (الذي كان من أقلّ المستفيدين منه). إن توجيه الغضب الشعبي والإعلامي وتركيز مواقع جديدة مثل ميغا فارس سعيد وغيرها (والتي تتلقّى التمويل الأوروبي أو الخليجي) على حزب الله هو نتاج أمر عمليّات خارجي. هذا صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أن سلوك الحزب منذ اندلاع الانتفاضة (هل ما زالت جارية؟) قدّم خدمات جُلّى لأعداء المقاومة. والفساد كان المقتلة الكبرى لمنظمة التحرير الفلسطينية وهو أصاب ـــ بدرجة أو بأخرى ـــ كل المنظمات الفلسطينيّة بسب وفرة التمويل. إن تجنيد مسؤول منظمة التحرير في تونس، عدنان ياسين، كان بسبب فساده وفساد آخرين في منظمة التحرير (كان عرفات ـــ حسب ما روى لي مستشار له ـــ لا يُبعد الذين حامت شبهات حولهم عن علاقتهم بالعدوّ، بل كان يقرّبهم ظنّاً منه أنه يستطيع أن يستخدمهم لتمرير رسائل إلى العدوّ حول الحلّ… السلمي). وكيف يمكن لحزب متحالف مع فاسدين أن يبقى في منأى عن الفساد؟
إن الأزمة الاقتصاديّة في لبنان أزمة طويلة والترجيحات تتفق أن النقاهة والتعافي سيحتاجان إلى سنوات طويلة أو عقديْن من الزمن. ولا يجب تحميل حزب الله المسؤوليّة الكبرى عن الأزمة أو عن حلّها، لكنه أكبر حزب لبناني (وهو أكبر حزب لبناني في تاريخ لبنان، ولديه أكبر عدد من المقاتلين الذين تجمّعوا في أي حزب لبناني) وهو صاحب أكبر نفوذ إقليمي في تاريخ أحزاب لبنان. لكنّ الحزب ارتضى لنفسه دور الحامي والمدافع عن النظام إلى درجة أنه «يمشي» بالحريري رئيساً للحكومة و «يمشي» بميقاتي رئيساً للحكومة وهو يمشي أيضاً بمرشّح رياض سلامة لوزارة الماليّة، على أن يكون شيعيّاً طبعاً لأن في ذلك ظفراً وأي ظفر للطائفة. والأحزاب اللبنانيّة تفتقر إلى برامج للحلّ. وحدها حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» تقدّمت بمشروع لحل اقتصادي على المدى الطويل (وليس القصير). باقي الأحزاب ودكاكين المجتمع المدني تطرح شعارات لا صلة لها بأساس المشكلة: شعارات عن انتخابات مبكّرة أو عن أن فوز النوادي العلمانيّة في جامعات النخبة الخاصّة كفيل بإسقاط الطبقة الحاكمة. وهناك طبعاً أحزاب سلطة ودكاكين مجتمع مدني وثا ثاو تسير وفق مخطّط التحالف السعودي ــ الإماراتي ــ الإسرائيلي ــ الأميركي. لكن حتى هؤلاء، لا خطة إنقاذ لديهم لأن التحالف المذكور هو تحالف حصار وعقوبات على لبنان، إنه تحالف تشديد الخناق على لبنان. اللوذ بصندوق النقد أو البنك الدولي هو ليس إلا تسليماً بما تشترطه أميركا. إن قرار صندوق النقد قبل أيّام بتحويل 2,7 مليار إلى أوكرانيا لا يرجع إلى أزمة اقتصادية تعانيها مثل لبنان، بل لأنها أداة مُستعمرة من قبل الإدارة الأميركيّة. وعندما يدعو سيناتور أميركي (كريس مورفي) السعوديّة إلى مساعدة لبنان ويذكّرها بأن حزب الله هو من المكوّنات اللبنانيّة، يكون يعترف بجزء من الحصار على لبنان، والذي تشارك فيه بلاده (لا ينتمي مورفي إلى القيادة المتنفّذة في الحزب الديمقراطي وهو خارج الخط العام في السياسة الخارجية في الكونغرس).
هناك حملة عالميّة ضد لبنان. ومساعدة لبنان ممنوعة من فريق عريض— خليجي وغربي وبضغط من اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، لكنّ العداء لحركات المقاومة في الرياض وأبو ظبي بات يفوق عداء اللوبي الإسرائيلي. والأزمة في لبنان هي أزمة نظام رأسمالي طائفي عفن، وليس هناك من حلّ عادل من ضمن تركيبة النظام. والحزب ارتضى أن يكون ذراع لبنان للدفاع عنه ولردع «إسرائيل» لكن في المقابل ارتضى أن يصبح ركناً من أركان النظام ــ نفس النظام الذي كان وراء التمسّك بضعف لبنان وسيلة لمراضاة «إسرائيل». وقع الحزب في فخّ التمثيل في الحكم، وفي فخّ التحالفات الطائفيّة مع فاسدين. وجنى من ذلك وزارات لم يتميّز فيها أيّ من وزرائه ولم يتقدّم أيّ منهم بمشروع يدخل في نطاق التغيير الجذري للاقتصاد الذي تنفذ منه مؤامرات الخليج ــ «إسرائيل» ــ أميركا. على العكس، محمد فنيش تقدّم بمشروع لخصخصة الكهرباء والوزير جبق كان أقرب حليف لشركات الدواء الاحتكاريّة. المقاومة لا تزال منيعة وعودها صلباً، لكنّ خللاً يحدث في علاقة كل أحزاب السلطة مع الناس. أهل الجنوب مخلصون للمقاومة لكنّ الحلول الاقتصاديّة الترقيعيّة لا تكفي لتدعيم صمود الجنوبيّين. والعدوّ المتربّص لا يفوّت فرصة لاستغلال نقاط الضعف: من الفساد إلى وصم الحزب بوصمة السلطة الفاسدة. من حقّ الحزب أن يخشى من تآمر 14 آذار وإفرازاته في المجتمع المدني. لكنّ الخشية من الجماهير أو من غضبها على الجور الاقتصادي والفساد يصبح عبئاً على الحزب الذي لم ينجح في حمل همّ المسحوقين والمعذّبين. المقاومة تحمي الجنوب من «إسرائيل»، لكن من يحمي الجنوبيّين (وكل لبنان) من الجوع والقهر والعذاب والفساد؟
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@