قد يكون من الصعب اليوم الحكم على حقيقة الأهداف والمرامي والمقدّمات التي قادت شهر تموز/ يوليو الماضي للإعلان عن تأسيس حزب «اللواء» السوري، ولربما لم تكن مصادفة هنا أن يكون الفعل قد وقع في حمأة النار المندلعة في درعا التي تُعتبر الأقرب جغرافياً للبيئة التي استهدفها ذلك الفعل، فالمعلومات المتوافرة حتى الآن عن الحزب شحيحة، وهي تقتصر على البيان التأسيسي، وعلى موقع فيسبوك ما انفكّ ينشر «بوستات» لا تشير إلى مستقر تريد الوصول إليه، مع بعض التحركات المرفقة ببعض التصريحات لقيادات الصف الأول، لكنّ الأحداث تنبئ عنها ظلالها كما يقال، فمجمل ما ترسمه تلك المعطيات السابقة الذكر تشدّ بالناظر باتجاه القول بأن التأسيس «يمتح» مشروعيته الأولى من فكرة «الإدارة الذاتية»، القائمة راهناً في مناطق شرق الفرات، والتي يشكل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD عصبها الأقوى الذي تعتد به، ومن المؤكد أن عناصر الربط بين هذا الأخير وبين « المحاولة الجديدة « تكاد تكون مكتملة مما تشي به العديد من المعطيات وكذا الموجبات.في المنهجية يُصنف حزب الـ PYD كحزب يتبنى الماركسية التي تبناها حزب الـ PKK الذي خرج من رحمه فكان الطبعة السورية منه، لكنّ الوليد تلوّن لاحقاً بنفحة ليبرالية لم تلبث أن تطورت لتصبح مفرطة لمواكبة المتغيرات الحاصلة في المنطقة ما بعد غزو العراق واحتلاله في نيسان/ أبريل 2003، ولربما، نقول لربما، كانت أدبيات الحزب قد اتخذت من تجربة وأفكار رياض الترك الزعيم السابق للحزب الشيوعي السوري ـــ المكتب السياسي، الذي غادر الماركسية بعد وقت قصير من هذا الحدث الأخير ليعلن تأسيس «حزب الشعب» عام 2005، بوصلة تهتدي بها، وتتيح لها في الآن ذاته، تبرير التلاقي مع نظام رأسمالي هو الأعتى مما عرفه العالم حتى الآن، ليصل التلاقي إلى ذروته بتحالف ناشئ ما بعد عام 2014 وهو لا يزال قائماً على الرغم من بروز تصدّعات في بنيانه فرضها اختلاف الحسابات الأميركية في المنطقة، وفيما يخص حزب «اللواء» فقد قدّم الأخير نفسه كحزب «علماني مدني»، في محاولة هي أقرب لحرق المراحل كيلا يمر باختناقات اليسار ثم يعاود الانعطاف نحو نزعة ليبرالية يبدو أن لا مفرّ منها، حيث سيقول مالك أبو الخير، مؤسس الحزب في مقابلة مع «أورينت» نشرتها في 10 حزيران/ يونيو الماضي «نحن حزب مدني علماني، ينطلق من الجنوب إلى باقي المحافظات السورية»، والأمر هنا صارخ لجهة بروز النسخة المنقّحة التي استحضرتها نزعة تلوّن اليسار الذي لا تزال أفكاره تمتلك بعض البريق على الساحة السورية أقله في أوساط النخب والمشتغلين بالسياسة.
في المعطى السياسي كانت تلوّنات الـ «نيو ليبرالية» المعتمدة تتيح لكلا الاثنين تبرير نزعة الاستعانة بالخارج، الذي يحبّذ أن يكون أميركياً أو هو يحظى بغطاء أميركي على الأقل، لإحداث تغييرات داخلية، فيما الجهد عند الاثنين ينصبّ هنا على إخفاء النزعة الانفصالية التي تتوارى وراء مصطلحات من نوع «اللامركزية» أو المطالبة بـ «حكم ذاتي» على الرغم من أن الحزب الجديد كان قد أعلن أنه لا يطالب بأي نوع من هذا الأخير، ففي مقابلة أبو الخير السابقة الذكر كان قد أضاف على قوله السابق الذي عمد فيه إلى تقديم صورة حزبه: «ونحن لا ندعو إلى أي شكل من أشكال الحكم الذاتي»، لكنّ الصبّ تفضحه عيونه كما يقال، فالذهاب إلى إظهار «المظلومية» التي عاشها «بنو معروف» عبر «سعي إيران بالتعاون مع أجهزة الأمن (السورية) إلى دعم عصابات إرهابية مسلحة» كان قد «حوّل شباب بني معروف إلى مرتزقة تقبل الذهاب إلى ليبيا وغيرها من الدول من أجل تأمين لقمة عيشها» وفقاً لما جاء في البيان التأسيسي للحزب الصادر في شهر تموز / يوليو الماضي، الذي أضاف في أحد منشوراته أن «السويداء عانت تهميشاً من النظام منذ مدة تزيد على خمسين عاماً»، ومن الواضح أن التاريخ الأخير يستحضر سيطرة حركة 23 شباط / فبراير 1966 على الحكم في سوريا، والتي قرأها العديد على أنها تكريس لسيطرة «علوية» مطلقة على هذا الأخير، بل ويستحضر أيضاً حادثة الرائد سليم حاطوم الذي احتُجز يوم 8 أيلول/ سبتمبر من عام 1966 بأمر من رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ومعه الأمين العام المساعد للحزب صلاح جديد بذريعة «تهميش الضباط الدروز» الذين قاموا بدور في نجاح الحركة ولم يلقوا إلا «جحوداً» من قادتها بعيد وصولهم إلى السلطة، وبقية القصة معروفة فقد فشلت حركة حاطوم وهرب بعدها إلى الأردن ثم صدر حكم عليه بالإعدام، وعندما حدثت حرب حزيران / يونيو 1967 قرر العودة إلى دمشق ليلقى مصيره الذي لعبت فيه سطوة أجهزة الأمن دوراً هو الأكبر، أقله في سرعة تنفيذ الحكم الصادر بحقه.
التناقض الأساسي الناظم لقيامة سوريا واستعادة وحدتها وسيادتها، في ظل وضع شديد التعقيد، يكمن في التصدي للهجمة الخارجية التي تعدّدت أهدافها ومراميها


هذا النبش الذي لا يزال بالإيحاء، والذي من المرجّح أن يظهر لاحقاً بصور مباشرة، هو نوع من التكتيك السياسي غرضه إيقاظ إرث المظلومية لتوسيع مروحة المؤيدين واجتذاب شرائح وازنة من نسيج «رجال الكرامة» المحسوبين على المعارضة في السويداء، لخلق حالة خاصة تعتد بعصبية معينة وهي تسعى نحو الاستحصال على كينونة خاصة بها.
في المعطى التنظيمي، نشرت شبكة «السويداء 24» في شهر شباط/ فبراير الماضي أن سامر الحكيم الذي سبق وأن أشارت تقارير إلى وجود علاقة تنظيمية له مع قيادات من ميليشيا «قسد»، كان قد عقد في هذا الشهر الأخير اجتماعاً مع وجهاء من قرية «خازمة» بريف السويداء وفيه أعلن أنه «يسعى إلى تشكيل فصيل مسلح بدعم من دول خارجية، ويعتزم إقامة معسكر للتدريب، وأن باب الانتساب مفتوح مقابل رواتب مغرية»، ويضيف المصدر أن الحكيم قال بأن «مدربات من قسد سوف يجري استقدامهن للقيام بتلك العملية»، إلا أن وجهاء القرية، وفق ما رصده المصدر عينه، كانوا قد رفضوا فكرة الحكيم بل وطردوه من القرية.
هنا يمكن القول إن إعادة طرح الفكرة بعد نحو خمسة أشهر عندما ذهب الحكيم في شهر تموز / يوليو الماضي إلى الإعلان عن تأسيس «قوة مكافحة الإرهاب» كذراع عسكرية للحزب، كانت قد جاءت على وقع الحماوة الحاصلة في درعا، ثم من الراجح أن قراءة المؤسسين لـ«الصمت» الأميركي تجاه الفكرة تقوم على أن واشنطن لا يمكن لها أن تقف حيادية تجاه حزب يُظهر العداء المطلق للدور الذي تقوم به إيران في سوريا، لكنها، أي واشنطن، تريّثت في اتخاذ موقف لجسّ نبض البيئة المستهدفة، ومعرفة مدى الانزياحات التي يمكن للفكرة أن تحدثها في تلك البيئة، ولذا فقد سارع هؤلاء إلى استكمال البنيان على النحو الذي ظهر أخيراً عليه.
في خلفية الصورة التي تقف وراء حدوث هكذا تصدّعات في البنيان السوري، يكمن عاملان أساسيان لحدوثها، أولهما هو ضعف السلطة المركزية التي لم تستطع فرض الأمن والاستقرار على كامل أراضيها، الأمر الذي دفع بجماعات عدة إلى الأخذ بذلك «اللواء» والادعاء بأنها معنية بتوفيرهما لأهلها وناسها، ظهر هذا بوضوح صارخ خصوصاً في المناطق التي تحوي نسيجاً متناغماً، أو هو أقرب إلى اللون الواحد، وثانيهما هو فقدان «اللاصق» الاقتصادي الذي لطالما شكّل في مراحل سابقة جامعاً لمكوّنات كانت تمشي على وقعه بتناغم لا يشي بوجود نشاز يظهر على حركة مكوّن أو أكثر في السياق العام، والمؤكد هو أن التركيبة السورية ستكون على مواعيد أخرى تشهد فيها تصدّعات أخرى كلما تراجعت قدرة السلطة في فرض هيبتها، وكذا كلما تهشّم ذلك «اللاصق» فأضحى عاجزاً عن القيام بدوره.
أما في البعد الخارجي، فإن واشنطن التي لم تؤكد أو تنفي دعمها للفكرة التي ادّعتها قيادات الحزب، فإن من شبه المؤكد أنها داعمة، بتريث، لهذه الأخيرة لأن التلاقيات ما بين مراميها وبين الأهداف والمصالح الأميركية في سوريا تكاد تكون متطابقة، فهي، أي فكرة تأسيس الحزب، تتيح القول بأن مشروع «قسد» لا يمثل هنا استثناء في الحالة السورية، بل توجد هناك «استثناءات» عدة، في مناطق عدة تحظى بخصوصية ثقافية ومجتمعية محددة، والقول يرمي، من حيث النتيجة، إلى استخلاص نتيجة مفادها أن التركيبة السورية قد أصابها من التهتك ما يجعل المحاولات لإعادة اللحمة إليها شبه مستحيلة.
في ظل وضع شديد التعقيد، كما هو الوضع السوري راهناً، يمكن القول إن التناقض الأساسي الناظم لقيامة سوريا واستعادتها لوحدتها وسيادتها يكمن في التصدي للهجمة الخارجية، التي تعدّدت أهدافها ومراميها تبعاً لأهداف ومرامي الأطراف الداخلة في الصراع، وعليه يمكن الحكم على الأحزاب والقوى السياسية القائمة، وتلك التي يمكن أن تنشأ اليوم أو غداً، انطلاقاً من طبيعة الأفكار التي تطرحها، فإذا ما كانت هذه الأخيرة من النوع «التجزيئي» كان ذلك كافياً لنزع صفة «الوطنية» عنها، أياً تكن الذرائع التي تستند إليها، وإذا ما كانت من النوع «التركيبي» كان ذلك كافياً لإضفاء تلك الصفة عليها.
*كاتب سوري