تتعدّد مقاربات النهضة الحسينيّة، وكذلك عِبرها ودروسها بين السياسي والاستراتيجي والفكري والفلسفي والاجتماعي، فاللافت في هذه النهضة أنها تتّحد فيها كل المقاربات وتتداك كل الأبعاد وتتسابق فيها كل القيم السامية الحقّة.وإذا كان مِن درس بالغ أسّست له هذه المدرسة الإنسانية التاريخية، فهو استحالة أن تبني الانتماءات التقليدية والموروثة طبيعياً هوية جديدة وانتماء مختلفاً بمعاييره ويتّم التعرف إليه من بوابة «الموقف»، فالهوية ما بعد عاشوراء سِمتها الأولى وركيزتها تنطلق من موقف الجماعة بين الحقّ والباطل والظالم والمظلوم ومدى استعداد الجماعة للانخراط الواعي والرشيد في هذه المعركة التاريخية. وبالتالي هي ليست تقييماً على أساس انتماء تقليديّ أو إطاريّ معيّن ومتمايز، بقدر ما هي انفتاح على تلاقٍ وأرضية جديدة يفترض بالمسار الإنساني بناءها والتلاقي عليها. ومن لا ينصر الحق، يخذله ليس إلّا! وحيث إن الساحة اليوم لا تخلو من أصوات تنادي بين الفينة والأخرى بالحياد ولو بتفاسير مبهمة ومتذبذبة، فكان لا بد من السؤال: على أيّ أساس منطقي وديني أو فلسفي أو فكري أو عملي أو سوسيولوجي أو حتّى مصلحي ينطلق المطالبون بذلك؟ وهل حجّتهم في ذلك قويّة أم يعتريها هاجس الهروب بدل مواجهة الواقع والنهوض به؟ وحيث إنّه يصعب أخذ مختلف المقاربات للمحاججة، خصوصاً تلك المرتبطة بالفلسفة السياسية والتطورات والسيلان الذي يصيب العديد من مفاهيم السياسة والمراجعات العميقة التي تحدث حتّى في الغرب نفسه، فإنّا سنقتصر على بعضها بما تتسّع له هذه الأوراق والمقال.
إذا أخذنا المقاربة الدينية:
1- هل وُجد الإنسان في الدنيا ليكون رمادياً أو حيادياً بين دعوة الله ودعوة الشيطان، بين المستكبر والمستضعف، بين المظلوم والظالم! ثمّ ما هو معنى وفلسفة وجود الإنسان في هذه الدنيا؟ أوليست أن يكون على صورة الله وشاكلته! فإنسانيته وتميّزه عن بقية الكائنات ترتبط بحدود ومقدار ملازمته للحق بتجلياته ومراتبه ومستوياته.
2- هل يمكن أن يعزل المرء نفسه عن قضايا الإنسانية أم أنّ ذلك امتهانٌ له وانتقاص من إنسانيته وشمول شخصيته وعالميتها؟!
3- من المنظور الإنساني – الديني، أيّ قيمة يجب أن تتقدّم، الجغرافيا أم التفاعل الثقافي والنفس الإنسانية المنفتحة على العالم الأرحب؟ هل من احترام الإنسان لإنسانيته أن نحول دون تفاعله مع أي خطاب من جريرة الجغرافيا! لو كان الأمر كذلك لانتهت ديناميكيات الحياة وأُصبنا بالسكون واندثرت الغائية وسر الحياة.
ألا يجب أن يتفاعل الإنسان مع النداءات المحيطة به؟! ألم تكن دعوة الأنبياء والمصلحين عابرة؟! وهل يجب صلب من يقتنع أو يتفاعل مع طرح آتٍ من خارج الجغرافيا التي يقطنها المصلح والنبيّ إذا تعارضت مع الطبقة السياسية والحكم النافذ؟!
وإذا أخذنا خاصيّة الزمان والسياسة:
• هل يمكن عملياً في ظلّ قرية كونية وتداخل غير مسبوق نعيشه اليوم أن يكون المرء حيادياً؟! هل مشكلات العالم وتردّداتها وآثارها يمكن حصرها ببقعة جغرافية أم أنّها تفيض على ما حولها وتصل إلى بقاع الدنيا كلّها؟!
• هل جبهة الظالمين منفصلة أم متّصلة! أليسوا ممن يقتسمون الأهداف والأدوار بوجه خصومهم ولجعل الحق عضيناً.
• هل يقبل أحد من شعوب العالم «الحرّ» ودوله بمفهوم الأمن القومي الثابت أم يتجاوزونه إلى الأمن المرتبط بالمدى الحيوي، فلماذا لا تقصر أميركا أو فرنسا أو بريطانيا أمنها على حدودها! ولماذا تعتبر الولايات المتحدة أنّ الكيان الصهيوني جزء من أمنهم القوميّ؟
• هل «إسرائيل» دولة أم مشروع وتجربة عمليّة أنتجها العقل والسياسة الغربية وتعتمد في عتوها فضلاً عن استمرارها وتوسّعها على الغرب الأميركي والأوروبي على السواء؟!
وإذا أخذنا خاصية لبنان:
• هل لبنان بلد النموذج والرسالة بمعنى التعايش جنباً إلى جنب كشعبين وجسمين من أجسام الميكانيك في بلد واحد، وهل رسالته تكمن في الحياد عن قضايا الحقّ في الإقليم والعالم أم أنّ الرسالة قضية ومعنى ووجهة؟!
• هل سمعتم في العالم عن بلد يُبنى بـ«ما لا يريد، أي بالحياد» أم أنّ الأوطان تُبنى بما تريد أي بالغاية والهدف والفعل الموجب.
• هل يمكن أن يُبنى بلد على الخريطة بنظرية «الضعف» أم أنّ هذا خلاف القاعدة التي تقول إنّ الإنسان والمجتمع ينشد القوّة والدور، وهذا مركز في أعماق البشر عميقاً. ونحن لسنا بدعة كشعب.
هل سمعتم في العالم عن بلد يُبنى بـ«ما لا يريد أي بالحياد»، أم أنّ الأوطان تبنى بما تريد أي بالغاية والهدف والفعل الموجب؟


• هل يمكن أن يحيد نفسه عن الجغرافيا التي يقطن بها وعن سيطرة أطراف تأتي من بعيد لأخذ ثرواته وفرض إرادتها عليه، فتستذله وتمتهن كرامته الوطنية وتضع له الحدود والقيود وتفرض لنفسها حق تصنيف فئاته وجماعاته. وهل مقتضى التأنسن والأنسنة أن يقبل أو تقبل الجماعة بذلك أو أنّ الإنسان والجماعة تنشد لنفسها الدور وترفض أن يعطى من لا يستأهل أهلية المعايرة؟! فكيف يراد لامرئ أن يحيّد نفسه إزاء من يهدد شعبه ويقتل أمّته؟
• هل إذا ما حيّد مجتمع نفسه (من باب الفرض) من الممكن فعلاً أن يحدث ذلك في مسارات الأمم؟ فأحياناً الحياد يكون في لحظة تصويت سياسي أو حقوقي أو قانوني ـــ لن أقول في الحرب ـــ قد تكون نتيجته أخطر من موقف عسكري أو أمني. أم أنّه أيضاً سيستقيل من علاقاته وأدواره وانتماءاته، أم أنّ المطلوب هو الخروج من البيئة والتفاعلات الدولية برّمتها وأن نسكن على سطح القمر، خصوصاً أنّ القضايا العالمية باتت تتداخل ويؤثر بعضها ببعض بشكل غير مسبوق.
• هل لبنان المتداخل بعمق بنيوياً مع البيئتين الإقليمية والدولية وذو التركيبة الخاصة فكرياً وسياسياً وطائفياً، يمكنه في لحظة غير مسبوقة ـــ من تفاعل أزمة الهويّات ورسم الخرائط الجيواقتصادية والجوسياسية في الإقليم والعالم ـــ أن يعزل نفسه عن محيطه وتفاعلاته وارتداداتها المدوّية والهندسات التي تسعى الإدارات الأميركية والأوروبية لفرضها بأشكال مختلفة؟ أم أنّ هذا أمر غير واقعي أصلاً وشبه محال وخلاف التعقّل والمصالح الوطنية العليا!
• وماذا عن من يرى في اللبنانيين الحياة، ويعرفها بطريقة أخرى، وينظر إلى مسؤولياته بشكل مختلف. ماذا عن من يرى أن قوة لبنان في قوته كما تثبت المدرسة الواقعية في السياسة، وأيضاً العديد من التجارب. ماذا عن من يرى أن التجربة كعلم تؤكّد قوة محاججة بناء القوّة وأنّ هذا مدخل تحرر لبنان. ماذا عن من يرى أن لبنان لا يجب أن يشبه إلّا نفسه، ويحتاج هو لأن يعرف نفسه، فهو ليس سويسرا الشرق ولا تايوان الشرق الأوسط، وهو الذي يجب أن يعرف العروبة الحضارية بعد عقود من العروبة الضائعة والمصطنعة.
• ماذا عن من يرى أن العيش الواحد هو المطلوب وليس التعايش، ويعني ذلك أنه مع حفظ الخصوصية التي هي غنى لبنان. لا بأس أن نبثّ في هذا البلد روح الإيمان والتحرر ونصرة الحق كقضية منسجمة مع نداء السماء. ماذا عن من يرى في لبنان أنّ الدين ليس العيش فحسب بل الحياة، فهو يسعى لبناء الإنسان وتكامله بمقدار ما يقرن ذلك بأهمية استقرار المجتمع ووحدته وتقدّمه. ماذا عن من يرى أنّ الإنسان وترقّيه هو الأصل، وأنّ الحكومات والدول هي لمساعدة هذا الفرد على ترقّيه وبلوغه إنسانيته وليس لتطويقه، والحدّ من حريته. هناك من يعايش بالتجربة والمحسوس أنّ بالإمكان بناء لبنان بفلسفة ومقاربة أخرى، أي بالإمكان الخروج من نظرية الضعف إلى القوّة، والتأثر إلى التأثير، والتشرذم والاقتتال الداخلي الذي عانى منه لبنان منذ تأسيسه إلى نسج علاقات عابرة بين المسلمين والمسيحيين على قواعد متينة تمكّن لبنان من أن يكون صاحب حضور، وتحمي وحدته ويمكن التعويل عليها لتمكين لبنان وتثبيت سيادته.
ثمّ إنّ إنساننا المسيحي والمسلم في هذا الشرق وبالذات في هذا الـ«لبنان» لا يشبه ذاك الذي في الغرب، لا في اهتماماته ولا في عيشه الإيماني ولا في طريقة عيشه العامة، فلبناننا الذي نأمله هو لبناننا ولا يشبه أحداً آخر، قريباً أو بعيداً، وهويته الإيمانية والاجتماعية والثقافية خاصّة.
واللافت والغريب والذي يسترعي التوّقف هو لكل منصف: كيف تمكّن لبناننا الصغير هذا من تحقيق أكبر إنجاز في تاريخ العرب بمواجهة عدو لبنان الثقافي والدستوري «الكيان الصهيوني» بعد عجزهم لستة عقود! ألا يدعونا ذلك إلى التفّكر بنقاط قوّتنا الهائلة وإمكانية أن نقدّم نموذجاً شرقيّاً في فضاء الإقليم.
• ماذا لو عرفنا أنّ عالم اليوم يحتاج لمن يبادر ويحضر ويلهم ولا يحتاج إلى مجاميع محايدة، وكذلك إقليمنا على وجه الخصوص، يحتاج لمن يقدم حماية للفقراء والمستضعفين والمعوزين والمهمشين الذين حرص الأنبياء عليهم والصلحاء أيّما حرص ودافعوا عنهم وتحدوا لأجلهم، وأتوا لتخليصهم من براثن الجهل والهيمنة الفكرية والسياسة والاقتصادية، فهم عليهم السلام كانوا منحازين لفقراء ومضظهدي العالم.
كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير يضعنا في مغبّة البحث عن مقاربات فلسفية ودينية وفكرية وسياسية واستراتيجية وتاريخية عن أصل منطق الحياد والتشكيك في واقعيته فضلاً عن منطقيته ونجاعته في عالمنا الجديد وفي إقليم كـ«الشرق الأوسط».
وأنه على ضوء العلم والتجربة لا يبدو أنّ فكرة الحياد ذات معنى إلّا عند الخائفين أو الضعفاء أو الذين يفضّلون العيش على صاحب الحياة. لكن ما تقدّم بكلّه لا ينفي بل يفرض سؤالاً جوهرياً يحتاج إلى إجابة دقيقة ومسؤولة وراشدة، وهو الذي يجب أن يكون محل البحث عند أهل السياسة وهو: ما هي حدود «الانخراط» تماشياً مع الظروف والخصوصيات للأوطان والجماعات والمجتمعات التي تشكّل وحدتها وانسجامها أصل أطروحة الإنسانية والسماء! هكذا يمكن أن يُبحث في الإشكالية فيصبح الموضوع ذا معنى، ودون ذلك انتقاص من آدمية الإنسان والجماعة وانتمائها للمدرسة التي تؤمن بنداء السماء، أو حتّى لمدرسة الفطرة والروح العامة للإنسانية والمشترك المغروز والعميق فيها.
وهنا مجدداً نعود إلى النهضة الحسينية وندائها، كامتداد لثورة إنسانية تاريخية. فحديث عاشوراء هو حديث المسؤولية الإنسانية والقيام لأجل المستضعفين والمضطهدين في كل زمان ومكان. وهذا هو أصل بلوغ الإنسان كماله وتصوّره بصورة ربّه، لكن لا يعني ذلك البتة أن نسير نحو الإطلاق بالممارسة والفعل، بل إنّ الأنبياء والحسين (ع) أكّدوا أهمية أمر آخر ألا وهو: وحدة المجتمع وتماسكه وأمنه وسلمه كمبدأ ومرتكز أيضاً في سياق حمل هموم المستضعفين ونهضتهم والنهوض بها. على عكس مدرسة الولايات المتحدة والمستكبرين طوال التاريخ في ممارستهم وتمزيقهم للمجتمعات.
بناء عليه، وإذا ما ربطنا المبدأين أو المبدأ الأوّلي بالقيد الثاني نصبح لبنانياً أمام السؤال الفعلي والواقعي والمنطقي التالي:
• أولاً: البحث في كيفية حماية بلدنا وأمنه من عدوّنا «إسرائيل» الذي لا يحتاج إلى إذن أو موافقة أصلاً، بل هو واجب أخلاقي ديني ووطني مقدّس على الجميع، والسعي لكل ما يقوّي هذه الوجهة وحثّ كل أطياف المجتمع وقواه والدولة ومؤسساتها لتحمّل مسؤولياتهم في التصدي للعدوان الصهيوني القائم بأشكال لا تنتهي على هوية لبنان ودوره وإنسانه.
• ثانياً: تحديد دور لبنان ومكانته في هذا الإقليم بالارتكاز إلى عناصر قوّته وتميّزه، وبالتالي مدى حدود الانخراط الممكن في قضايا الإقليم والعالم ومع إعادة المصلحة اللبنانية إلى جانب المستضعفين والمظلومين ونصرتهم – أهل بالكلمة والموقف الإعلامي فحسب، أم بالمساندة السياسية، أم بالموقف الرسمي النظامي، أم بالدعم والمساندة المالية حيث تتوافر، أم بالمساندة الفكرية والثقافية، أم بنقل التجربة في مواجهة العدوّ، أم بإقرار قوانين في لبنان تسمح بالاعتماد على الحرية كقيمة سامية للبنان، تسمح لمن يرغب من اللبنانيين بمشاركة الفلسطينيين والمستضعفين مواجهتهم ضد الكيان الصهيوني أو مواجهة الأميركيين واحتلالهم، أم بالمساهمة في خلق يقظة ووعي في مواجهة أميركا والصهيونية بالإفادة من نموذج المقاومة اللبنانية النموذجية المؤثرة وثقافتها وقيمها التحرريّة، أم... والكلام يطول والأفكار لا تنتهي.
هذا هو مكان البحث - وأي كلام آخر هو خارج الزمان والمكان وفيه امتهان لكرامة الإنسان وإنسانيته ولبنان وما يتطلع الكثير من اللبنانيين لرؤيته عليه.
* باحث لبناني