ليس الحدث الأفغاني هذه الأيام بالحدث العادي، ولن يكون صحيحاً أن يتم تجاوزه من شعوب المنطقة – بل العالم – دون أن تستخلص منه ما يعنيها من دلالات وعبر، وخصوصاً تلك الشعوب التي تعاني من الاحتلال الأميركي المباشر لأرضها وقرارها ووعيها وإرادتها ومواردها... ومن هنا سوف يكون مشروعاً ومجدياً طرحُ السؤال حول أهم تلك الدلالات والعبر، وخصوصاً ما يتصل منها بالعراق، لأنه قد يكون النموذج الأقرب إلى التجربة التي حصلت في أفغانستان من جوانب شتّى.
أولاً: لقد فشلت الولايات المتحدة الأميركية (والحلف الأطلسي) في بناء منظومة عسكرية وأمنية تواجه التهديدات الماثلة في أفغانستان، رغم إنفاق أموال باهظة، والعمل لمدة عقدين من الزمن في سبيل ذلك؛ وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية ليست الجهة التي يمكن الاعتماد عليها في بناء القوات العراقية، وتدريبها، وتقديم المشورة لها، وإلا لو كان للقوات الأميركية ذلك الدور الفاعل والناجح في المهمة الموكلة إليها لما انهار كل شيء في غضون أسابيع أو أيام قلائل. أما إلقاء كامل اللوم والمسؤولية على الطرف الأفغاني، فهو غير منصف، لأن الولايات المتحدة الأميركية تتحمّل مسؤولية كبيرة في هذا الشأن، لأكثر من سبب، يتمحور حول دورها في بناء القوات الأفغانية وإعدادها وتجهيزها...
وهذا يعني أن الذرائع التي تتمسك بها الإدارة الأميركية للبقاء في العراق، لا أساس لها، ولا مصداقية لها؛ لأن من يفشل في بناء القوات الأفغانية وتقديم المشورة الفاعلة لها، لن ينجح في المساعدة على تطوير قدرات القوات العراقية، وتقديم التدريب والمشورة ذات الشأن لها. وإنما هي مجرد ذريعة للبقاء في العراق، وإدامة احتلاله، والهيمنة على قراره.
ثانياً: لقد كان كلام المسؤولين الأميركيين واضحاً في أن هدفهم لم يكن بناء الدولة في أفغانستان، إنما فقط وفقط تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية؛ وهذه المعادلة لا تنطبق فقط على أفغانستان، وإنما تشمل جميع الدول والبلدان.
وهنا سوف يكون مشروعاً طرح الأسئلة التالية؛ بما أن المعيار لدى الولايات المتحدة الأميركية هو مصالحها فقط، فماذا لو تطلّبت مصالحها ألا تكون هناك دولة في العراق؟ وماذا لو تطلّبت مصالحها تغذية الإرهاب في العراق؟ وماذا لو تطلّبت مصالحها تعزيز الفساد في العراق؟ وماذا لو تطلّبت مصالحها تعزيز الانقسامات والخلافات في الاجتماع العام العراقي؟...
إنّ ما ذكره الرئيس الأميركي، من أنه لم يكن هدفاً للولايات المتحدة الأميركية بناء الدولة في أفغانستان يصدق أيضاً على العراق، فليس هدفهم بناء الدولة في العراق، ولا بناء اقتصاد العراق، ولا بناء القوى الأمنية والعسكرية في العراق، ولا بناء مستقبل العراق، ولا معالجة الأزمات التي يعاني منها العراق، ولا الوقوف عند المطالب التي يريدها الشعب العراقي.
إن من الوضوح بمكان على ضوء التجربة الأفغانية، وما نتج عنها من كلام للمسؤولين الأميركيين، في أن الهدف من وجودهم في أي بلد هو مصالحهم فقط؛ أن وجود قوة كالولايات المتحدة الأميركية في العراق بجيشها ونفوذها يجعل مصالح العراق ومستقبله في دائرة الخطر، عندما تهيمن عليه وعلى قراره، أو تمارس تأثيراً حاسماً فيه، لأنّ المعيار لديها سيكون مصالحها فقط، حتى لو أضرّت بمصالح العراق وشعبه ودولته.
ثالثاً: إنّ كل من يربط مصيره بمصير الاحتلال، قد ينتهي مآله بعيداً عن وطنه، أو يكون حاله كحال أولئك الذين التحقوا بالركب الأميركي. فلا يمكن لأي احتلال أن يدوم إلى ما لا نهاية. ولن يكون متاحاً لكل من يراهن على الاحتلال أن يستفيد من رهانه هذا إلى أمدٍ بعيد، لأنه في لحظة ما سوف تنتهي لدى المحتلّ صلاحية استغلال هذه الفئة أو تلك، وتُترك لمصيرها.
الخطاب القيمي الذي تستخدمه الولايات المتحدة الأميركية لاستلاب وعي الناس واحتلال عقولهم هو خطاب تكذبه الوقائع، ولا يمكن تصديقه


وهنا سيكون من المجدي الوقوف بإمعان عند هذا الأمر، من قبل أولئك الأفراد، وتلك المجموعات، التي ترتضي أن تعمل من ضمن المنظمات والمنظومات، التي تقوم بإنشائها الجهات الأميركية في العديد من الدول والمجتمعات، لتكون بمثابة أدوات لخدمة الأهداف والمشاريع، التي تحقق مصالح الولايات المتحدة الأميركية وأهدافها.
رابعاً: إنّ الولايات المتحدة الأميركية ليست ذلك الطرف الذي يتصف بتلك الصدقية، أو الذي يمكن الوثوق به، والاعتماد عليه. إن ما حصل في أفغانستان يثبت مرة أخرى أنه لا يمكن تصديق الوعود الأميركية، ولن يكون أمراً صائباً الوثوق بتعهدات الولايات المتحدة، أو الركون إلى أي اتفاق معها، أو الإذعان بأنها سوف تفي بجميع التزاماتها.
وهو ما يستدعي من أي طرف سياسي أو غير سياسي التعامل بأقصى درجات الحذر والفطنة والريبة، عندما يكون الطرف الآخر هو الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها، لأنك في أي موقف قد تتعرض للخداع، أو التضليل، أو الخذلان، أو الطعن في الظهر، أو التخلي عنك... عندما تقتضي مصالحها فعل ذلك، بل أكثر.
خامساً: الخطاب القيمي الأميركي، الذي تستخدمه الولايات المتحدة الأميركية لاستلاب وعي الناس واحتلال عقولهم هو خطاب تكذبه الوقائع، ولا يمكن تصديقه.
إنّ كل كلام عن الديمقراطية، ومواجهة الفساد، وحقوق الإنسان، والحرية، وغيرها من القيم الأميركية، التي تُستخدم لممارسة الاحتلال الثقافي، والغزو الفكري، والتضليل، والاستلاب؛ هو كلام يتنافى مع الوقائع الصلبة، والتجارب العديدة لألفباء السياسات الأميركية المعلنة والممارسة. وهو ما يتطلب من جميع الشعوب والفئات والنخب مقاربة الأمور بكثيرٍ من الوعي، والرؤية الصائبة البعيدة عن أية سذاجة، عندما يتصل الأمر بالولايات المتحدة الأميركية وسياساتها ومواقفها. وهو ما يستدعي أيضاً العمل على تحصين ذلك الوعي وحماية تلك الرؤية من أي استهداف يسعى إلى التشويه والتسميم لخدمة مصالح أميركا وغاياتها.
سادساً: إن الشعوب إذا أرادت بناء أوطانها، وقيام الدولة بأرقى مظاهرها، والنهوض بمؤسساتها... فما عليها إلا أن تعتمد على نفسها، وليس على الاحتلال، وأن تقرأ في كتابها الوطني، وليس في كتاب الاحتلال، وأن تراعي أولوياتها هي، وقيمها هي، ومصالحها هي، وأوضاعها هي، وظروفها هي... بعيداً عن أولويات الاحتلال، ومصالحه، وقيمه، واعتباراته...
أما الاعتماد على الاحتلال الأميركي، ورهن القرار الوطني بمصالحه، وإبداء المزيد من التراخي أو التساهل في ما يتصل بالكرامة الوطنية أو السيادة الوطنية؛ فكلّ ذلك لن يفضي إلى بناء الدولة، ولا إلى استعادة دورها، بل سوف تنهار عند أول صياح ديك من فجرٍ أميركي كاذب.
وهو ما يتطلب العمل على تحرير الوعي، وتحرير الإرادة، وصون السيادة الوطنية، والسعي إلى تحصين كل ذلك من أي احتلال أو تشويه أو استلاب، والعمل على استعادة الكرامة الوطنية – التي لن تكون مكتملة الأوصاف مع الاحتلال –، وتحرير القرار الوطني – الذي لن يكون ناجزاً مع الاحتلال –، بهدف بناء الدولة، وتفعيل القدرات الوطنية، بالاعتماد على الذات، وليس بالاعتماد على الاحتلال والركون إليه، لأنّ هذا لن يفضي إلا إلى خسارة الدولة، وتضييع المصالح، وتعزيز الفساد، وهدر الثروات، وإضعاف القدرات الوطنية.
سابعاً: يبقى هنا أمر في غاية الأهمية، وهو أنه إذا ما توفّرت إرادة محلية لمقاومة الاحتلال، ورافضة لوجوده فإنّ هذه الإرادة لا بدّ أن تصل إلى مبتغاها في يوم من الأيام بتحرير الأرض وطرد المحتلّ.
وهنا لن يكون عصياً على العراق التاريخ، والحضارة، والقيم، والمرجعية، والمقدّسات، والجغرافيا، والديموغرافيا أن ينجز من خلال مقاومته وحشده الشعبي ما أُنجز في أفغانستان. ولن يكون الشعب العراقي عاجزاً عن تحرير أرضه، وحماية قراره الوطني، وطرد المحتلّ، وصون الكرامة الوطنية، وصولاً إلى استعادة الدور التاريخي للعراق وشعبه، وهو الدور الذي لن يتحقق مع وجود الاحتلال الأميركي وجيشه وهيمنته.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية