هنالك كتب تعلم حرفة السياسة، مثل كتاب مكيافيللي: «الأمير» وكتاب كارل ماركس: «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» وكراس ماوتسي تونغ: «في التناقض». في كتاب ماركس المذكور يوجد شيء إضافي يتمثل في دراسة آلية انقلاب يقوم به رئيس الجمهورية على (الجمعية الوطنية)، أي البرلمان، وعلى الأحزاب الممثلة بها وليقوم بعد ذلك بالانفراد بالسلطة ليحكم من خلال مراسيم وينظم استفتاءات ينال بها تأييداً شعبياً كبيراً، ومن ثم يقفز إلى الخطوة التالية وهي تنصيب نفسه إمبراطوراً على فرنسا باسم نابليون الثالث. هنا، يدرس ماركس أحداثاً فرنسية وقعت بين ثورة وانقلاب، استغرقت من الزمن أربع سنوات إلا شهرين، ويستنتج بأن فشل المسار الثوري كان هو الطريق إلى الانقلاب.كانت ثورة شباط 1848 في فرنسا فاتحة لموجة ثورية عمّت أغلب القارة الأوروبية. وقد انهار الحكم الملكي لآل أورليان الذين خلفوا آل بوربون في الحكم إثر ثورة تموز 1830، نتيجة لثورة شباط الفرنسية. وعلى إثر ذلك أُعلنت الجمهورية وأقيمت جمعية تأسيسية تمثلت فيها اتجاهات اشتراكية وجمهورية (الجمهوريون هم ورثة الجيروند في الثورة الفرنسية الذين تناقضوا مع الاتجاه اليعقوبي بزعامة روبسبيير، وكان الجمهوريون الذين أُطلقت عليهم تسمية «الناسيونال» نسبة إلى جريدتهم من أنصار جمهورية دستورية)، واتجاهات ملكية ضمّت «الاتجاه الشرعي» وكان ينادي بعودة الملكية لآل بوربون و»الحزب الأورلياني». وقد اتحد الملكيون منذ عام 1849 مع انتخاب (الجمعية الوطنية) تحت اسم «حزب النظام»، وظل اتحادهما مزعزعاً بحكم أن الشرعيين كانوا يستندون إلى كبار مُلاك الأراضي والكنيسة، بينما الأورليانيون يستمدون قوتهم من رجال المصارف والصناعة. في 10 كانون أول 1848 انتُخب لويس بونابرت رئيساً للجمهورية، وهو ابن أخي نابليون بونابرت، وكان شخصاً مغموراً وبلا مواهب، لكنه انتُخب لأن الفرنسيين بغالبيتهم أرادوا تذكير أنفسهم بأمجاد عمه، بعد اضمحلال مكانة فرنسا الدولية منذ هزيمة نابليون في معركة واترلو في عام 1815. ساند «الناسيونال» و«الأورليانيون» و«الشرعيون» ضرب الجيش للاشتراكيين في حزيران 1848. وبعد انتخاب الجمعية الوطنية تحالف لويس بونابرت مع حزب النظام الذي أخذ الأكثرية البرلمانية، ضد الناسيونال وضد حزب الجبل بزعامة لودرو رولان الذي جمع بين النزعة الاشتراكية والنزعة اليعقوبية الراديكالية.
ومنذ صيف 1849 وحتى انقلاب لويس بونابرت في 2 كانون الأول 185، عاشت فرنسا على وقع التناقض بين رئيس الجمهورية وبين الجمعية الوطنية التي تضمّ غالبية من الملكيين، ليختار لويس بونابرت الانقلاب بمساندة الجيش والإدارة على البرلمان الذي حلّه رئيس الجمهورية. ومن ثم منع الأحزاب وحكم بمراسيم، ومن خلال استفتاءات شعبية، نال فيها تأييداً كبيراً بحكم سأم الشعب من الصراعات الحزبية، وفشل الأحزاب في الحكم. كما أن الإدارة التي أصبحت سلطة تنفيذية تابعة لرئيس الجمهورية في قصر الإليزيه، قد نقلت فرنسا من أزمة اقتصادية عام 1848 إلى حالة انتعاش اقتصادي بانت ملامحه عام 1851. يمكن لحالة لويس بونابرت أن تكون مؤطّرة للحالة البونابرتية التي يقوم بها شخص بانقلاب ينفرد بعده بالسلطة بعد فشل الأحزاب عقب ثورة تقود إلى فوضى وصراعات حزبية تجعل الأحزاب عاجزة عن الحكم وفاشلة فيه، ما يتيح المجال لشخص «ما» أن يظهر بمظهر «المنقذ» من الفوضى، ومن ثم يقفز إلى السلطة وينفرد بها. في الثامن عشر من برومير، أي 9 تشرين الثاني 1799، قام نابليون بونابرت بانقلابه العسكري، وفي الثامن عشر من برومير، أي في 2 كانون الأول 1851، كرّر ابن أخيه لويس بونابرت ما فعله عمه، لكن من موقع رئيس الجمهورية الذي ينقلب على البرلمان.
الحالة البونابرتية كما وضعها وشرحها ماركس أصبحت كلاسيكية في دراسات علم الاجتماع السياسي. حاول تروتسكي تطبيقها على ستالين كشخص وسطي انفرد بالسلطة بعد أن قام بتصفية الاتجاه اليساري في الحزب البلشفي (تروتسكي) في عام1927، والاتجاه اليميني (بوخارين) في عام1929. في كتاب تروتسكي: «الثورة المغدورة» نجد ميول تروتسكي نحو تشبيه الحكم الستاليني بحكم الترميدور، خصوصاً في الفصل الخامس المعنون «الترميدور السوفياتي». وكان هذا تلميحاً إلى الحالة الترميدورية لحكم ستالين التي يمكن أن يأتي جنرال وينقلب عليها، كما فعل نابليون بونابرت ضد حكومة الترميدور، وقد أتت بعد تصفية اليعاقبة الذين قاموا بتصفية الجيرونديين. في العام التالي لصدور كتاب تروتسكي المذكور، أي عام1937، قام المارشال ميخائيل توخاتشيفسكي بمحاولة انقلاب فاشلة ضد ستالين، وهو الذي يشبهه إسحق دويتشر بنابليون بونابرت في كتابه عن ستالين. في كتابات أخرى لتروتسكي هناك تردد في إسباغ البونابرتية على حكم ستالين.
على الأرجح أن عبد الفتاح السيسي، بعد وصول الثورة المصرية إلى طريق مسدود بين 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، تنطبق عليه الحالة البونابرتية. جنرال مغمور يصعد بسرعة بعد إقالة وزير الدفاع حسين طنطاوي، ورئيس الأركان سامي عنان من قبل الإسلاميين في أغسطس 2012، ليصبح وزيراً للدفاع. في شتاء 2012 يفرط التحالف الذي أوصل محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية في 30 يونيو 2012 بعد أن ابتعد الناصريون واليساريون والليبراليون عن الإسلاميين، واتجهوا للتعاون مع الدولة العميقة، أي الجيش والأمن والإدارة، ضد الإسلاميين. اجتمع هذا مع فشل الإسلاميين في الحكم واستئثارهم بالسلطة ومع تغيير رأي واشنطن بالإسلامين، إضافة إلى دعم إقليمي قوي من دول الخليج لإسقاط حكم الإخوان في مصر، لكي تتهيأ أجواء نهاية حكم الإسلاميين. لم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من انقلاب يقوم به جنرال يُسقط الإسلاميين من الحكم ويظهر بمظهر «المنقذ».
سارت تونس بين يومَي 14 يناير2011 و25 يوليو 2021 في المسار المصري نفسه، مع «رَوْتَشات» ناتجة عن براغماتية راشد الغنوشي واعتداله، واتجاهه منذ صيف 2013 إلى عدم احتلال الإسلاميين واجهة السلطة مع بقائهم في دور فاعل فيها. نسجّل هنا الفشل الاقتصادي وتغير المناخ الدولي نحو عدائية للإسلاميين بخلاف 2011، إضافة إلى تصميم إقليمي من دول الخليج على إنهاء «الاستثناء التونسي» واغتيال آخر ديمقراطية أفرزتها انفجارات المجتمعات العربية الخمسة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن وسوريا). هذه العوامل وغيرها، هيّأت الأجواء أمام سيسي تونسي، في ظل انقسام مجتمعي في تونس بين الإسلاميين والمعادين لهم. هكذا كرّر قيس سعيد ما فعله لويس بونابرت الذي كان رئيساً مدنياً مثله، مستنداً في خطوته الانقلابية على البرلمان والحياة الحزبية، إلى شارع قوي، وإلى الجيش والأمن والإدارة... إضافة إلى الدعم الإقليمي من دول الخليج، والدولي من واشنطن وباريس... وليس مهماً هنا، لكنّه لافت للنظر، أن الليبراليين واليساريين التونسيين لم يصبوا الماء في طاحونة الديكتاتور الجديد، كما فعل نظراؤهم المصريون في 3 يوليو 2013.
البونابرتية هي حالة من حالات الثورة المضادة...
* كاتب سوري