«... لنقل إلهُ الحبّ في القلب...أين، إذاً، إلهُ الاحتقار؟
إن احتقاري للذي يحصل يكفي لتجفيف كلِّ البحار»
محمد العبد الله، «بعد قليل من الحبّ...»


قد يتبادر من خلال العنوان أن ترسُّخ قدرة منظومة السلطة في القبض على مصائر لبنان وشعبه (وما قاد إليه ذلك من أزمة كوارث مدمّرة متواصلة)، يحتاج إلى ثورتين، على الأقل، وليس إلى ثورة واحدة فقط. هذا صحيح، مبدئياً، بشكل مطلق. غير أن المقصود هنا الإشارة الى ما يشهده الوضع اللبناني، حيال تلك الأزمة، من بروز ثورتين متداخلتين بمضمون وبأهداف مختلفة إزاء عملية التغيير المنشودة لإيجاد حلّ لتلك الأزمة الطاحنة التي سببها نظام البورجوازية الكبرى، بواسطة أداته وهي سلطة منظومة التحاصص الطائفي، ومن خلال الفساد والنهب والهدر والإفلات من المحاسبة والتبعية...
طاولت الأزمة بأتونها الملتهب، وعبر مآسٍ وخسائر كوارثية، الأكثرية العظمى من اللبنانيين. هي سحقت الطبقات الفقيرة. أبادت، تقريباً، الطبقة الوسطى، بكامل درجاتها. حتى فئة الـ 1 في المئة من أصحاب الملايين والمليارات ممن جنوا ثرواتهم بالسرقة والنهب، تأثرت سلبياً، بما طرأ على رخائها، من عدم الاستقرار والتوترات الأمنية والاجتماعية ومن سوء الظن من قبل الناس بها مقروناً بالشتائم دائماً، وبالمطاردة أحياناً،... ما حال دون قدرتها، نسبياً، على التمتع بثرواتها (على صعيد المظاهر والوجاهة والبهورة والفشط...).
في امتداد ذلك، كان تحرك قسم واسع من ملايين المتضررين أمراً طبيعياً (والعكس غير طبيعي!). وقد بدت حركة الاحتجاج واعدة في البدايات. هي جذبت لفترة، مئات الآلاف في العاصمة والمناطق. لكن، منذ البدايات أيضاً، تبين أن ثمة قوى مؤثرة خارجية وداخلية تدير، بالتداخل مع حركة الاحتجاج العفوية والطبيعية، وبمحاولة استخدامها بشكل تصاعدي، حراكاً آخر يحمل أجندة سياسية داخلية وإقليمية مترابطة، ما لبثت أن تبلورت تباعاً، وبشكل مباشر، لتبلغ مستوى بارزاً وحاداً ومؤثراً في المرحلة الراهنة. تبين، فعلياً، لكل متابع أن في ساحة الاحتجاج ثورتين: الأولى شعبية: داخلية بالدرجة الأولى، حرّضتها الخسائر المخيفة التي أصابت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ودفعت ولا تزال المزيد منهم إلى درجة الفقر والعوز والجوع والقلق والقهر ومخاطر هائلة في حقول الصحة والبيئة والتعليم والخدمات والأمن....
بيد أن ثوار هذه الفئة افتقروا، إلى أبسط عناصر وشروط النجاح في تحركهم: البرنامج والأولويات والخطة والقيادة! ليس الأمر على هذا النحو في "الثورة" الأخرى التي كانت تتقدم فيما تتراجع الأولى، وعلى حسابها بالتأكيد. والواقع أن عمومية الشعارات (ومنها "كلن يعني كلن")، وكذلك غياب البرنامج والأولويات والقيادة، كانت أمراً مقصوداً لكي تُخلي "الثورة الشعبية" (الأولى) بشعاراتها العامة ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية... المكان "للثورة الثانية"، بشعاراتها السياسية المباشرة وبقيادتها التي كان السفراء (السفيرات!) أبرز نجومها، وبأولوياتها التي ما لبثت أن تبلورت في شعار "الحياد الناشط" الذي أطلقه البطرك الراعي. و"الحياد" هذا، وهو، في الحقيقة، الاسم الحركي للتطبيع مع العدو بعد إنهاء المقاومة وسحب سلاحها ومحاكمتها بالمسؤولية عن أزمة الانهيار الجهنمية التي يعاني من أهوالها ملايين اللبنانيين!

لا اسم آخر للثورة الثانية سوى "الثورة المضادة". وهي النموذج اللبناني لما انتهت إليه ثورة الشعب السوداني المغدورة، والتي سقطت قيادتها العسكرية، عن سابق تحضير وتدبير، في أحضان واشنطن وتل أبيب، وكان قرارها الأول: التطبيع مع العدو الصهيوني!!!
كان في خطة قوى "الثورة المضادة" تلك (الخارجية خصوصاً والداخلية الملتحقة بها)، قبل تفجُّر الأزمة وأثناءها، تعميق تلك الأزمة إلى الحد الأقصى والأقسى، وبالتالي، دفع المعاناة الشعبية إلى درجة لا تُطاق. وهي، لهذا الغرض، جاهرت بحصار لبنان وبمنع كل أنواع المساعدات عنه. وهي، بالمقابل، أغدقت الدعم، بسخاء كبير، على منظمات، غالبها مستحدث، ومعظمها بات يعمل ضمن الأجندة الأميركية والغربية، وبتمويل وتوجيه مباشر منها. أما إدارة التعقيد والتصعيد والانهيار والنهب المالي والنقدي، فقد تولاها رجل واشنطن الأول في الإدارة اللبنانية: رياض سلامة الذي أُغدقت عليه الألقاب ورُسمت من حوله الخطوط الحمراء. بذلك، وبتواطؤ أرباب النهب والصفقات، الرسميين، استمر أميناً على تنفيذ الخطة الأميركية: منذ البدايات (في تأسيس النموذج الاقتصادي)، إلى النهايات، في إدارة الانهيار وقطع الطريق على الخيارات البديلة عبر التهديد بالانهيار الشامل للطبقة البورجوازية الحاكمة نفسها التي كان منظماً لنهبها وشاهداً على ارتكاباتها، والتي أدمنت التبعية والالتحاق وخيانة المصالح الوطنية...
تغذية الأزمة وتصعيدها، ومنع الحلول، ولو الترقيعية، هي من صنع واشنطن وحلفائها الغربيين والإقليميين. المستفيد الأول هو العدو الصهيوني. ذلك هو ملخص أهداف الثورة المضادة في لبنان.
استفاد مهندسو الثورة المضادة من أخطاء السلطة القائمة (الأكثرية خصوصاً) بسبب الجشع والفئوية والقصور. استفادوا أيضاً من عجز قوى التغيير القديمة عن التشكُّل في مشروع وطني شامل للتغيير يوجهه برنامج ذو أولويات وقيادة موحَّدة وخطة.
قوى الثورة المضادة تضع اللبنانيين أمام خيارين أحلاهما كارثي: الاستمرار في الموت والخراب والجوع وكل المخاطر... أو الخضوع للمشروع التآمري الذي يستهدف الإنجاز الأكبر للشعب اللبناني في المقاومة والتحرير، بعد إخضاع اللبنانيين وإغراقهم في الصراعات والفوضى والضياع و... فضلاً عن الإفلاس والإفقار والتجويع وكل أنواع الخراب والفوضى والتفتيت.
من هنا يبدأ التحليل، ومن هنا يبدأ الاستنتاج. أول كل ذلك، بالضرورة، المباشرة بإجراء عملية فرز عاجل ومصيري، لمنع قوى الثورة المضادة من مواصلة التضليل والخداع حول دورها وأهدافها. سيشكل ذلك صحوة وعيٍ وكفاحٍ، ولو تأخرت، تضع التيار الوطني في موقعه الطبيعي والصحيح من الصراع: مبادراً وموحّداً وفاعلاً.

* كاتب وسياسي لبناني