أوسلو اللعين، منذ أوسلو اللعين بدأنا وما زلنا نحصد تبعات التنازل والتقليص. يعتبر البعض عودة منظمة التحرير الفلسطينية إنجازاً، بحكم الواقع في حينه، أو إنجازاً عامّاً ربما. كون ـــ ومن منطق الضعيف والضحية ـــ استحقاق جزء من الأرض أفضل من لا شيء. وفي المقابل، يعتبر جزء آخر أن أوسلو إنجاز مرحليّ، على وعي وإدراك ضمني أنه ليس بذلك، لكن نشوة التحقيق أفرزت سقفاً للكفاية لا يليق بنا. وهذا ما حدث فعلاً، حيث تجلّت تبعات هذا «الإنجاز» باعتبار أن جزءاً من حلم العودة قد تحقّق، أو أن مشروع شبه الدولة تحقق، عبر شكليات ورسميات ولوجستيات، كإقامة مجلس تشريعي وخلق رجالات «أمن» لحفظ «الأمن»، وزرع مؤسسات دولة فعلية غير فاعلة في ظلّ نظام سياسي مشوّه، إضافة إلى الاستثمار بمدينة على أنها بديل عن العاصمة، وغيره من التبعات المشوّهة على شاكلة ذلك الاتفاق المشوّه.
تجدر الإشارة، إلى أن تنازل الضعيف لم ولن يلغي المشروع الأتمّ للمستعمِر. ففي مقابل هذا «الإنجاز»، هناك مشروع موازٍ سار وما زال يسير منذ ما قبل هذه التنازلات، منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى اليوم. فدولة الاحتلال اليوم بين هل تحقق المشروع الصهيوني بعد إعلان إقامة الدولة أم أن إعلان الدولة كان وسيلة لخدمة هذا المشروع. وبين هذا وذاك، يسير المشروع بإقدام بين ممارسات تطهير عرقي كما في الشيخ جراح والخان الأحمر وسلوان وبين بؤر استيطانية كبؤرة أفيتار على جبل صبيح في بيتا وغيرها الكثير ممن هم في تكاثر مستمرّ.

أوسلو اللعين الذي أَعلَن عام 1993 ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، يتمثّل بإعلان الاعتراف بإسرائيل كدولة جوار، لها الحق في العيش بسلام وأمن إلى حين حلّ كامل القضايا «العالقة» عبر المفاوضات! أوسلو الذي استبدل البندقية بحمامة السلام وعرق الزيتون! افترض أساسيات القضية على أنها قضايا متبقية وعالقة، تلك الأساسيات المتمثلة بالقدس وعودة اللاجئين والحدود والمستوطنات وغيرها من المسائل التي لا يمكن اعتبارها بقايا بل أساسيات القضية، فتمّ اختزال القضية الفلسطينية بشبه دولة ليست ذات سيادة! إلى أن تلخّص الحكم الذاتي الانتقالي الذي تم الاتفاق عليه، بما يُعرف اليوم بالسلطة الوطنية الفلسطينية. والتي لم تجِد ضيراً من استخدام مصطلح سلطة لوصفها وتسميتها، لتتحول شيئاً فشيئاً وبشكل واضح إلى جهاز مُستخدم وتتمّ إدارته من قبل الاحتلال.

ولتفسير الحالة، بعد أوسلو، تاه الوضع الفلسطيني المتمثّل بمنظمة التحرير الفلسطينية بين مشروع بناء الدولة ومشروع التحرر الوطني الذي جاء لأجله. فانشغل الشقّ الأول للمشروع ببناء مؤسسات شبه الدولة، وذلك على اعتبار أن المشروع الثاني أكمل ببرنامجه الثوري التحرّري لتحقيق العودة وتقرير المصير. إلّا أن التضاد والتوتر المستمر بين المشروعين حال دون نجاح المشروعَين. وذلك نتيجة تبعات المؤسسات البيروقراطية وأسلوب الحكم من محسوبيات وفساد والذي أدى إلى عرقلة عمل من حاول أن يكون ضد مشروع أوسلو. بل ودفع هذا التواتر المستمرّ باتجاه اتفاقات «سلام» وتنازلات متتالية بشكل حال دون الحلم بتحقيق المشروع الثوري.

عمل التحول في دور السلطة الوطنية الفلسطينية أو المؤسسة الأمنية الفلسطينية على تجريم النضال الفلسطيني وتجريم المقاومة الفلسطينية المواجهة للاضطهاد المُمأسس عليها من الاحتلال. فكانت هذه الممارسات عبارة عن تبعات لهذا الاتفاق كما ذكر سابقاً. وتطورت بعد شبَح شبه الدولة وعطاءات الدول المانحة التي فرضت شروطها الخاضعة كل الوقت. فاشتملت هذه المنح على إصلاحات لقطاع الأمن الفلسطيني والذي أدى بدوره إلى تطوير وسائل جديدة لحماية المحتل الإسرائيلي، بل وتوفير مساحات آمنة يستطيع المحتل التحرك ضمنها وذلك للاستمرار قدماً بتنفيذ مشروعه الاستعماري. فأدّى دور السلطة «الوطنية» الفلسطينية المتماهي والمتعاون مع متطلبات المستعمِر إلى ترسيخ الوضع الراهن، بالإضافة إلى تقديم تجاوزات طوعية لصالح الاحتلال بحق أمن الفلسطينيين وانتهاك لحقوقهم بكلّ رعاية ومباركة.

ليس بالعجيب أن تتحول «حركة تحرر وطني» إلى واحدة من الأنظمة الدكتاتورية على شعبها بعد التحرر، إلّا أن «السلطة» الفلسطينية ذات النفس القصير، وكونها افترضت أنها تحررت ونالت مرادها بشبه الدولة الذي حققته، استبقت الأحداث ومارست حقها بالسلطة والقمع قبل التحرر. بل وتحالفت مع الاحتلال لتصبح واحداً من رجالاته، منذ الاعتراف بدولة الاحتلال كبلد جوار، إلى التنسيق الأمني، الذي تخلله تسليم مناضلين واغتيالهم ومحاكمتهم بعد استشهادهم، كالشهيد باسل الأعرج. إلى أن وصل بها المطاف إلى طلب أدوات قمع من الجانب الإسرائيلي لقمع المتظاهرين الفلسطينيين! بالإضافة إلى السماح بالتعديلات المستمرّة على مصطلحات كتب المنهاج الفلسطيني خصوصاً في مدارس القدس. فيتمحور دور السلطة اليوم بالرابطة بين السلطة الاستعمارية والسكان المحليين الأصلانيين. وذلك لتسهيل عمل الاحتلال بل وتسهيل التواصل بين المستعمِر والأصلاني عبر وسيط يفهم الطرفين. إضافة إلى القيام ببعض المهمات الاستعمارية التي تُطلب منهم، على غرار غيرها من حالات الاستعمار المحيطة السابقة والحالية.

إن كل ما تقوم به السلطة «الوطنية» الفلسطينية، هو تكرار لسيناريوات أنظمة قمعية محيطة، دون أي تجديد وإبداع حتى، بل هي كلاسيكيات الديكتاتور، أو من يعتقد نفسه كذلك. سيناريوات مُعادة كاعتقال بسبب رأي، تشهير، سرقة هواتف صحافيات ونشر صورهن الخاصة! استخدام أساليب وأدوات قمع استعمارية استشراقية بحق فتيات فلسطينيات بأيادٍ فلسطينية لا استعمارية! بالإضافة إلى إشعال نعرات داخلية لتحوير البوصلة المنحرفة أصلاً، إلى إصدار قرار يمنع موظفي الحكومة من إبداء رأيهم! كلاسيكيات قمعية بائدة لا تليق بشعب حر يسعى لتحرير فلسطين كل فلسطين!

الغريب، هو تعويل «السلطة» وتوقعاتها من هذا الشعب، فلا يمكن التعويل على شعب حي! ذي وعي وكرامة وعزة! شعب أعاد الاحتلال لدوائره القديمة الذي اعتقد أنه تجاوزها! شعب توحّد على كلمة بإضراب شمَلَ كامل فلسطين بدون تفريق وتقسيم عمل عليه الاحتلال و«السلطة» على حد سواء لتفتيت قضية الكل وكي الوعي! لكن يبدو أن «السلطة» الفلسطينية، ليست ذات وعي كافٍ، كالعادة، لاعتقادها أن الشعب الفلسطيني الذي لم ينجح الاحتلال في قمعه، قادرة هي على قمعه! كما ويبدو أنه «السلطة» وصلت إلى آخرها لتصل إلى مرحلة تقتل فيها رجلاً حرّاً كنزار بنات على كلمة حرّة! وتعتقل فيها نخبة من العقول والمناضلين والأساتذة والباحثين والمعتقلين المحررين الذي قدموا لفلسطين أكثر مما قدمت هي لها! فالحقيقة الوحيدة الواضحة هي أنه ومع كلّ اعتداء تقوم به السلطة الفلسطينية، تثبت اقترابها من النهاية!

*باحثة فلسطينية