لعل الآثار المدمرة وحجم التخريب الذي طال البنية التحتية في سوريا، إضافة لعدد الضحايا المجندلين الضخم فيما اصطلح على تسميته «الربيع العربي» تكاد تكون على كارثيتها وعبثها غير المنطقي قابلة للتجاوز والنسيان بطبيعة الحياة ذاتها، وما تكتنفها من تجدد وطي الصفحات القديمة وسعي لانطلاقات جديدة.
تساعد في ذلك ذاكرة مثقوبة لنا نحن المشرقيين لا تحتفظ إلا في زواياها المظلمة بالأحقاد الدفينة والعذابات القاسية. إن اجترار الاحقاد وإعادة قذفها في مستقبل أيامنا وقابل أيام أولادنا سيظل تحدي هذا الشعب بعد مصالحاتنا الواجبة المستعجلة، وعبرها فقط سيثبت السوريون جدارتهم بالهالة التاريخية المضيئة التي لطالما أحاطت بهم.
إن ما يدعى «القوة الناعمة» للسوريين سواء أكانوا في داخل ديارهم أم خارجها والقيمة الاجتماعية الاعتبارية للشخصية السورية، قد ساهمت فيها عوامل مختلفة متنوعة تتباين في مرجعيتها للتاريخ العريق الزاخر. إن الطبيعة الشخصية للسوري قد تتفرّد حسب الميزات البشرية الذاتية مثل كل الشعوب، بيد أن الميزات الجامعة التي وسمت شخصية السوريين قد استمدتها الأجيال المعاصرة بشكل شبه مؤكد من انعكاسات صدى العقود القليلة المنصرمة. فكانت «السياسة المعاكسة» للسياسات الرائجة في المنطقة والمقبلة بالأهواء الغربية من صوب الجزيرة العربية أو من مصر أو من العراق أحياناً أخرى تترك ملامح واضحة جلية على عين الخبير المتفحص.
حوصرت سورية في الثمانينيات إثر رفضها اتفاقية كامب ديفيد، وإثر مواقفها من حوادث تلك الحقبة خصوصاً الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980-1988)، فجاء العقاب ورد الحساب في لبنان، وفي حوادث حركة الإخوان وحربهم لاستلام السلطة، وأحيطت سوريا بحدود تتألف من سياج متراص من الخصوم الاعداء.
وقفت جموع السوريين في طوابير الانتظار على المواد الأساسية، فأصبح الصبر والعناد الأساس الصلب المتين الذي تبنى عليه باقي المكونات في الشخصية السورية.
انتظر السوريون بعض الوقت ليروا أنهم مستوحَدون في هذا العالم وليحصلوا على نتائج ناجحة من سياساتهم «المعاكسة»، فانتشوا بتعافي لبنان وفشل تفتيته ووضعه تحت الوصاية الصهيونية، وما استتبعه من نتائج أخرى (مقاومة وتحرير وردع). وظهر عبث الحرب الإيرانية ـ العراقية حتى لداعميها أنفسهم قبل أن ينقلبوا فيما بعد على حامي بوابتهم الشرقية. اكتوى السوريون بتجارب مريرة على الضمير الجمعي السوري قبل أن يكمل افتخاره الوطني والقومي، ويصل لخلاصة العقلاء: «ما حك جلدك مثل ظفرك».
تتابعت الحوادث وتراكمت المكاسب القيمية الاعتبارية للشخصية السورية عبر دعمها لمقاومات المنطقة في لبنان وفلسطين، قبل وأثناء وبعد وقوفها منفردة في هذا العالم المفتوح في وجه السطو الأميركي على العراق وفي دعم كل مقاومة له. مع تناسي السوريين أحقاد الماضي وإعادة نسج علاقات متوازنة مع العراق عندما وقع في محنته، تشكل نسق فكري ووجداني يرضي سواد جموع السوريين ويلبي رغبتهم الإنسانية، وكأنهم يكفرون عن أخطاء السياسيين التاريخية في البلدين عندما فشلوا (وهم القوميون المنحدرون من حزب واحد ومنبع إيديولوجي واحد) في تحقيق أي نسبة من التعاون المشترك في خطأ تاريخي تدفع المنطقة كلها آثاره حتى الوقت الراهن. أصبحت دمشق السند الحقيقي لكل مقاومات المنطقة فيما سمي «دولة المقاومة والممانعة».
الاعتداد بالنفس والاعتماد عليها والثقة بالخيارات الذاتية والاعتزاز الوطني مجبولة بعناد مميز، عُدّت الخصائص الواسمة للسوريين، قد لا تروق لبعض شعوب المنطقة لكنها كانت كفيلة بفرض الاحترام لهم. يذكر السوريون أن الزمن مر عليهم بسنوات كانوا فيها غير مرغوب بهم، وبات الجواز السوري عقبة مرور في معظم معابر العالم. لكنهم وفي كل مكان حلوا به كانوا منارة للتميّز والنجاح.
لم يمنع ذلك من وصف السوريين «بمفتعلي مشاكل» حين يُصطدم بالعناد السوري الجليل وعندما يُتوقع منهم المساومة والتنازل.
أضافت الدراما السورية في العقد الأخير جوانب أخرى بعضها حقيقي وبعضها مختلق، فتضخمت الهالة المنيرة للسوريين، وترسخت القوة الناعمة لهم لتصبح الشخصية السورية من أكثر شخصيات العرب جاذبية وعبر لهجة الفنانين السوريين أنفسهم عبرت الاجندة التركية للمنطقة. وغدت النساء السوريات الأكثر سحراً ويتربعن على سلم النساء العربيات من حيث الذكاء والجمال. تكسرت خلال السنوات الثلاث المواكبة «للربيع العربي» هذه الصورة النمطية وانشرخت بندوب غائرة قبيحة في الوجه وبجانب كرتي العينين ومحيط الفم وغمازتي الخدين، وغارت أعمق الندبات بعيداً هناك بجانب تامور القلب وشرايينه. وأصبح من المتعذر على أمهر الجراحين إخفاء ما اعترى الشخصية السورية الاعتبارية القيمية الجامعة من مآس وكوارث. ما نفعت السوريين قراءةُ الشعوب المجاورة، وأصروا على اجتراع آلامهم ذاتها بدرس يكرر في المنطقة المرة تلو الأخرى. ما سمعوا نصائح الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين وهم بين ظهرانيهم وانسدلت بينهم وبين مظاهر «ديمقراطية» الرجل الأبيض، وغيبت العقول وسيطرت الاحقاد وتضافرت عوامل الخارج مع نقاط ضعف داخلية ليكون للسوريين درسهم الخاص، درس آخر مكرر في الفوضى والتخريب. لن تشفع الشعارات الكبيرة مثل القضاء على الاستبداد والدكتاتورية وتحقيق تداول السلطة لتبرير التدهور الكارثي الدراماتيكي الحاد الذي أصاب الأرض السورية بما فيها ومن عليها. فتخربت معظم البنية الأساسية من مكتسبات للدولة السورية العميقة ولسواد شعبها من الطبقة الوسطى.
لكن الآثار الغائرة التي ستترك أخاديدها المؤلمة في الشخصية السورية ستعود في معظمها لسيل الصدمات النفسية والاجتماعية المتراكم الرهيب والمتشكل من تحوّل ملايين السوريين إلى قوافل لا تنتهي من اللاجئين والنازحين. وما استتبع ذلك من قصص ذل ومهانة وظلم اجتماعي لثورة خرجت تحت شعار «الشعب السوري لا يذل» فتحطمت الصورة الوردية لحياة السوريين وتحولت سوريا من أكبر مضافة للنازحين واللاجئين العرب الى أكبر مصدر لسكان الخيم في العصر الحديث.
امتلأت سهرات العالم بمشاهد السوريين المعذبين والمذلين في الحصول على أبسط الخدمات أمام الظروف العاتية وأمام آلة قمع النظام الرهيبة، كما تصور على الدوام. واكتملت صورة المهانة والقهر بمئات القاصرات في الخيم اللواتي لم يجدن إلا البغاء المقنّع على شكل عقود زواج موقتة من بعض الميسورين العرب «المجاهدين»، أو عبر مناظر السبي لبعض النساء في غزوات حرب الثورة الدائرة.
ما زلت أعتقد أنه فكر شيطاني قذر ذلك الذي دخل حرم البلاد العربية الشامخة في العراق وبلاد الشام، فاغتصب الرجال في أبو غريب واستباح أعراض الشام بيد الرعاع الجهلة.
لتتنكس الرؤوس الشامخة ولتتهدل الأشناب المشرئبة في صفحات وجوه رجال العروبة وليغرقوا في ذل أبدي لا يغادرهم في زمن قريب ولن تكفي كل الانتصارات -إن حدثت على ندرتها - لانتشالهم من مستنقعاتهم الشخصية الأسنة.
* كاتب سوري