أن نتحدّث في النفسانيات ونحلّلها اليوم بعد تراكمات عريضة تعتاش على فسيفساء شخصانية مشتّتة، فلذلك عمل شاق وتفرّغ طويل، بيدَ أننا نكتفي بتلمّس مظاهر هذه المرضيات الطافحة على صفحة كل مشهد من حياتنا اليومية من الخلط والخديعة في الكلام والخطاب إلى الانفصال عن الواقع المأساوي الذي يحياه الناس إلى دوس الكرامات والعدوان على الحقوق إلى قتل العزة في خضم مشاهد مذلّة لا تثير أدنى اهتمام من قِبل فاسدين، أقلّ ما يُقال فيهم إنهم فجرة مستبدّون لا يكترثون لوجع الناس وجوعهم وآلامهم إلى فرز اجتماعي في البيئة الواحدة وهذا له تداعيات خطيرة تؤدّي إلى طبقية مستجدّة لها آثارها الماحقة على المستويات كافة فهل يلتفت المسؤولون إلى ذلك أم أن أمر الناس لا يعنيهم؟!
تايلر سبانغلر (الولايات المتحدة)

تنسحب المآسي المتتالية على هيكل المعرفة ومن ينتجها بوجه عام، إذ تخنقه مظاهر الترهّل والتسليع والتسطيح والتبعية العمياء في كلّ شيء حتى باتت المعرفة تستولد مشوّهة بشكل تافه ومبتذَل وتستنسخ من المنتديات وبعض المواقع التواصلية ومن أفواه البعض المستغرق في الجهل إلى أذنيه حتى باتوا خطرا فعلياً على أنفسهم ومجتمعاتهم.
في حين ما يتعطّش له الواقع هو الشغف المعرفي الغائيّ المحدّد للدور والمسؤوليات والدافع باتجاه الفعل المنتج والمتجذر إيجاباً لمحو كل التناقضات القائمة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، الماحي لكلّ وظيفية سياسية ومعرفية ودينية وثقافية فارغة لا روح فيها تتماشى مع السرعة والجاهزية المعلّبة.
هنا نتساءل في ظلّ هذا الصخب القائم عن دور الحوزات العلمية ومراكز الإفتاء والكنائس وغيرها - وما أكثرها - ولسنا في هذا المقام في وارد الكلام عن أهليّتها وكفاءتها وما تقدّم من نماذج وما تحوي فلذلك بحث آخر، لماذا استثمارها في الغياب عن دورها المطلوب في الحاضر؟
ألم يكن محمد «ص» يهوى الجلوس مع الفقراء يناضل ليل نهار ليرفع الظلم عنهم، تدمى قدماه ويُرمى بالحجارة، يخرج إلى الأسواق ينادي في الأزقة: «أيها الناس الفقر هو الكفر».
ألم يخرج أبو ذر الغفاري مطالباً حينها بحقوق الناس والفقراء؟ ألم يخرج علي «ع» مطالباً بالحقوق والعدل؟ إن رجل الدين لا بدّ أن يكون من الناس وللناس، ويجاهد بكلّ الطرق ليكون في قلب المطالبات بحقوقهم المهضومة لا أن يجلس في برجه العاجي متفرّجاً!
فلماذا لا تُجعل المساجد والكنائس أماكن للاعتصامات ورفع الصوت ضد الوضع القائم؟ فإذا لم تكن أماكن ومنابر من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم فما قيمتها؟ بيوت الله لا تُبنى وتتمرّد عملياً على الله وعباده.
هؤلاء مطالَبون كما غيرهم ممن يتصدّون للشأن العام أن يعلنوا بوضوح موقفهم ويتحرّروا من حساباتهم ويكونوا صوتاً للناس وينزلوا إلى الطرقات ولا يخرجوا منها، ويشكّلوا قوة ضغط حرّة في وجه فاسدين لا ينبغي السكوت عنهم، فهذا الحرام بعينه.
في تاريخ لبنان القريب أيام الانتداب إلى الاستقلال وما بعده كان المخاض عسيراً لولادة العلاقة الحيّة بين الناس وفصائل المقاومة للانتداب ومن يمثّلهم سياسياً ودينياً، وكانت الظروف قاسية وقاهرة والمشهد السياسي والاجتماعي متداخلاً ومتشابكاً، يخفي صراعات قوية تظهر في تحالفات إقطاعية ودينية وتقلّبات في المواقف من الانتداب أو الوحدة مع سوريا أو الاستقلال اللبناني كيانياً، ولم تكن الرؤية واضحة بما جعل المنتدب يستفيد من كلّ ذلك من أجل مصالحه ومشاريعه.
لماذا لا تُجعل المساجد والكنائس أماكن للاعتصام ورفع الصوت ضد الوضع القائم؟ فإذا لم تكن أماكن ومنابر من أجل إحقاق الحقّ ورفع الظلم فما قيمتها؟


لكن الحال اليوم على الرغم من قساوة الظروف داخلياً وخارجياً وعدم تبدّل الذهنيات حيث الإقطاع الديني والسياسي لا يزال موجوداً بلباس جديد قد تغيّر نوعاً ما، إذ عناصر قوة المقاومة وما أنجزته ميدانياً والعبور بالمجتمع إلى دينامية جديدة لا بدّ من حسن استثمارها وتوظيفها لتجسيد الفضاء الحر ثقافياً واجتماعياً وتوعوياً والانفتاح وقبول الآخر وتعزيز الحسّ الوطني، وهنا تكمن الشجاعة الفعليّة في تغليب الشعور العام على كلّ مصلحة شخصية أو حزبية أو طائفية ضيقة ورخيصة، وعدم الإسهام في تذويب وتآكل هذه الإنجازات وتصفيتها بأيدينا وجهلنا.
فليست المقاومة لعبة أو مجرّد تعبير عن ترف في القتال، إنها فعل حضاريّ متجذّر في الوجدان الحر لها غاية بالنهاية وهي حفظ حقّ الإنسان والمجتمع في عيش كريم يليق بهما. لم يكن الدين بعيداً عن الحياة العامّة ولكن جرى جعله شيئاً وظيفيا فارغاً. فمنذ متى كان الأنبياء والصالحون في مكان والناس وحدهم في مكان آخر؟ فمحمد مشى في الأسواق وكان يجالس كل الناس ويجلس حيث ينتهي به المجلس تواضعاً والتصاقاً بالناس، لدرجة أنه لم يُعرف في المجلس حتى قيل: «أيّكم محمد؟». والأمر نفسه مع السيد المسيح الذي ساح في البلاد ملتصقاً بالناس مواسياً لهم ومُحذّراً من العلماء الكذبة المعتاشين على الدين المتنصّلين من مسؤولياتهم، حيث يقول: «إنّ شرّ النّاس لرجلٌ عالم، آثر دنياه على علمه، فأحبَّها وطلبها وجهد عليها، ولو استطاع أن يجعل الناس في حيرة لفعل، وماذا ينفع الأعمى نور الشّمس وهو لا يبصرها، كذلك لا ينفع العالم علمه إذا هو لم يعمل به، فتحفَّظوا من العلماء الكذبة الّذين يخالف قولهم فعلهم».
كي لا يُقال بأني متحامل، فإنّ هناك كثيراً من رجال دين وكهنوت وطلاب علم وعلماء يعملون ويجاهدون وقد لا يجدون قوت يومهم، وهم أناس مخلصون، لكن اللعنة تلاحقهم لأنهم غير محسوبين على هذه الجهة أو تلك.
لطالما كانت الحوزات العلميّة في مراحل تاريخيّة معيّنة تشكّل مركز ثقل اجتماعي وضغط سياسي في إيران والعراق، حاولت التأثير في مجريات الأحداث السياسية رافضة كلّ أشكال التسلّط والظلم، ولكنها كانت تنطلق كرد فعل محكوم بفتاوى هذا المرجع أو المجتهد أو ذاك، وتجد لها صدى شعبياً، فيما المطلوب تنظيم وتنسيق وآليات عمل مؤسساتية فاعلة ومواكبة لتحديات الواقع، يشرف على ذلك رجال مخلصون، ثقاة، بعيدون عن التعلّق بالدنيا لا يُثقلون الحياة بالأزمات، ولا تزيد أنانياتهم من العفونة السياسية والثقافية البغيضة.
فما نرجوه حركة حوزوية ودينية عامة إسلامية ومسيحية متحرّرة وأكثر إلتصاقاً وإحساساً بهموم الناس.
الحاجة ضرورية إلى حركة شعبية جدّية تؤسس لاسترجاع الحقوق عبر الضغط ورفع الصوت في الفضاءات الحرة لا فضاءات زعامات وجهات، حركة تتعرّف بوعي إلى حدود قوتها الذاتية، وفي الوقت عينه تتعرّف إلى مكامن الضعف والخلل في الأسلوب والعمل والحركة وعدم التغاضي عن ذلك.
نجد اليوم أهل سياسة على امتداد عالمنا العربي والإسلامي أُسقطوا إسقاطاً على الحياة السياسية، جرّاء اتفاقات وصفقات وتسويات وتوريث عائلي ولم يأتوا من قلب معادلات معرفية طبيعية إلّا ما ندر منهم، وتالياً لم يكابدوا سوى القلق على مصالحهم الضيقة طائفياً وحزبياً، مستغرقين في جهل مركب، لا يتقنون سوى توظيف اللحظات الداخلية والخارجية لتكريس نزعتهم السلطوية المريضة، فهم في قطيعة وعداوة مع أيّ نوع معرفيّ هادف يعمل على نماء الوعي المجتمعي، إذ يخافون من كلّ ذلك ولا يناسب أوضاعهم، فالمعادلة لديهم هي أن مجتمعاً جاهلاً يدوم خيرٌ لهم من وعي يقلب مصائرهم ويُبعدهم عن التحكّم بالرقاب والبلاد.
من جهة الناس فقد اعتادوا الخنوع والخضوع واستسلموا لهذا الواقع المتشظّي وفقدوا وجهتهم وتخلّوا عن مسؤولياتهم، وبدل أن يكونوا الفاعلين والمؤثّرين في صنع الأحداث باتوا أرقاماً وأحجاماً يُتلاعب بمصائرهم ووجودهم.
ما يُثبت مسيرة تضحيات المجاهدين والشرفاء والناس البسطاء في أيّ مجتمع هو ما يحفظ ثمارها مزيداً من تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة ونبذ الظلم ورفع الحرمان، وإلا نكون كبالون كبير وجميل منتفخ من أية نكزة ينفجر وهذا ما لا نتمنّاه.
* باحث وحوزوي