بدءاً، أودّ الإشارة إلى أن هذه المقالة بمثابة استكمال لمقالي السابق «عودة عن خطأ السنوات المبكرة: لم يحتضن اليمن ملوك بني إسرائيل» («الأخبار، 25 حزيران/ يونيو 2021)، لإثبات الأخطاء الهائلة التي احتواها بنائي التاريخي لنقل المسرح الجغرافي لـ«بني إسرائيل» إلى اليمن، وأعود لأؤكد حقيقة علمية، أنه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط «الكتاب المقدس» بها، وأي ادّعاء بغير ذلك هو غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق.في نيتي أن أقدم في هذه المقالة توضيحاً لما ارتكبناه من أخطاء بحق تاريخ اليمن.

المنهج اللغوي
في محاولتي «الطفولية» لنقل المسرح الجغرافي «المُتخيل» للكتاب المقدس إلى اليمن، عمدت إلى حشد الكثير من الأسماء الجغرافية الواردة في كتب الجغرافيين والرحّالة العرب، والتي تتشابه مع الأسماء الواردة في «الكتاب المقدس» وشروحه، لإثبات أن هنا كان المسرح الجغرافي، ليس هذا، فحسب، بل استخدمت طرق «القلب والإبدال للحروف»، في حالة الفشل في العثور على الاسم، أو العجز في إجراء المطابقة بين المسميات.

انتهاك الجغرافيا اليمنية
في مؤلفي «كنعان وملوك بني إسرائيل» (دمشق، خطوات، 2005)، وجهت اتهاماً إلى كل من أستاذ اللاهوت الأميركي إدوارد روبنسون، والقس الألماني المتحدث بالعربية إيلي سميث، والاتهام هنا، هو، خلال بحثهما (1838م) عن المواقع التي وردت في «الكتاب المقدس»، في رحلة دامت ثلاثة أشهر، «اهتدى روبنسون وسميث إلى العشرات من المواقع الكتابية التي كانت مغلّفة ومتناثرة في أرجاء المسرح القديم للبلاد، وقد وصفا التحولات اللغوية التي أفضت، باعتقادهما، إلى قلب أسماء الأماكن العبرية القديمة إلى أسماء عربية حديثة. فقد زوّر روبنسون عشرات المواقع القديمة بمساعدة سميث الذي وضع أثناء عمله مبشّراً قائمة بالأسماء العربية لقرى فلسطين. فقرية (عناتا)، لم تكن في ما يبدو، إلا (عنتوت) الكتابية، مسقط رأس النبي إرميا؛ و(جباع) كانت هي (جبعة) إحدى مدن بنيامين؛ و(مخماس) بدت مناسبة تماماً لساحة معركة شاؤل في (مخماس)؛ و(بيتن) كانت (بيت إيل) محطة توقف إبراهيم وموقع حلم يعقوب الشهير؛ وممَّا لا شك فيه أن (الجب) كانت هي (جبعون) الكتابية حيث قام يوشع بتجميد الشمس في مكانها». وقرية السموع كانت اشتموع؛ والجش هي التسمية العربية للاسم العبري جوش هالاف.
على خطى لروبنسون وسميث، عن قناعة «طفولية» بأن الأسماء المذكورة في «الكتاب المقدس» وشروحه، تتضمن أصداء في أسماء المواقع اليمنية


على الرغم من النقد اللاذع الذي وجّهته إلى روبنسون وسميث، إلا أنني سرت على خطاهما، ولكن في اتجاه اليمن، وبحثت عن المواقع المذكورة في «الكتاب المقدس»، عن قناعة «طفولية» بأن الأسماء المذكورة في «الكتاب المقدس» وشروحه، تتضمن أصداء في أسماء المواقع اليمنية. وبدأت بنثر الأسماء التوراتية طولاً وعرضاً، وانتهكت الجغرافيا اليمنية، بمنهج أقل ما يقال عنه إنه يتسم بالتعسف.
اعتمدنا على الذاكرة الجمعية اليمنية، كمحور أساسي للبحث عن الموقع وإسقاط الاسم «التوراتي» عليه، وكذلك على الفولكلور وغيره.

الأدلة الأثرية
كان لعلم الآثار أهمية كبرى في نفي الحدث «التوراتي» عن فلسطين، وأما في اليمن فكان بلا أهمية تُذكر في إثبات نفس الحدث، كان الغرض الأساسي هو التأكيد على وجود مواقع «الكتاب المقدس» معتمداً على نهج خطر، أشرت إليه سلفاً، ولم نتقيد بالوصف الوارد في «الكتاب المقدس» للمكان، ولا بالمسافات والاتجاهات، لم نلاحظ، أيضاً، أن أسماء الأماكن لا تظل ثابتة عبر العصور، وفي أحوال كثيرة تتغيّر الأسماء.
كانت المعضلة الرئيسية التي واجهتنا، ولم نستطع التغلب عليها، عندما نجد موقعاً ما يتشابه اسمه مع موقع في «الكتاب المقدس»، ولكنّ المكتشفات الأثرية تشير إلى أن الموقع حديث نسبياً، وما يزيد الأمر صعوبة أننا لم نبذل عناء للكشف عما ورد عن هذا الموقع في السجلات التاريخية والأدلة الأثرية بدقة، عبر طرح سؤال علمي، وهو، هل هناك أدلة أركيولوجية تشير إلى أن الموقع متزامن مع الموقع المذكور في «الكتاب المقدس» أم لا؟ هل تم اكتشاف بناء قديم يعود إلى نفس الفترة الزمنية؟ وهل عُثر على نقوش تذكر هذا الموقع بنفس الاسم المذكور في «الكتاب المقدس»، ويتزامن مع الحدث «التوراتي»؟
علاوةً على ذلك، استعنّا بالنقوش المسندية لإثبات أن اليمن احتضن تجربة بني إسرائيل، ولكنها جميعها نقوش متأخرة غير متزامنة مع الحدث «التوراتي»، ولا تُعتبر دليلاً على أن اليمن احتضن تجربة بني إسرائيل.
كانت اهتماماتنا محددة بشدة، فقد كرّسنا أنفسنا لرسم جغرافية «الكتاب المقدس» في اليمن، وبخاصة بعد أن افترضنا مسبقاً صحة «الكتاب المقدس»، وخطأ جغرافية الحدث.
لكن في السنوات الأخيرة؛ بدأت هذه الفرضية ــ من وجهة نظري ــ تتداعى تدريجياً؛
فالسمة الرئيسية، في الخطاب «التوراتي»، هي الصمت المُطبق للسِّجِل الآثاري، ما يوحي بأننا نتعامل مع ماضٍ مُختَرَع لم يُعثر له على أثر حتى الآن.
في خضمّ كل ما سبق، أطرح التحدي العلمي التالي على كل من يزعم أن «اليمن احتضن تجربة بني إسرائيل»: أين النقوش العبرية من العصر الحديدي؟ لماذ لم يترك لنا أيّ من الملوك الأربعين، الذين تسلسلوا منذ شاول إلى صدقيا، أثراً يذكر فيه اسمه! أين أسماء المدن التوراتية في نقوش اليمن؟ أين المدوّنات الكتابية والبقايا الأثرية التي تشير إلى أن بني إسرائيل وُجدوا في اليمن؟
باختصار، لن أكون شريكاً في ترميم الرواية «التوراتية»، التي حطّمتها مجرفة الأثري، بالبحث لها عن جغرافية «متخيلة»، ولن أقبل باختراع تاريخ يمني على مقاس التوراة، خلافاً لما تبوح بها السجلات الأثرية، فاليوم يجب أن يتوقف «الكتاب المقدس» عن تغذية تاريخنا، وعلينا الخروج من بوتقة «الكتاب المقدس» باعتباره تاريخاً. فـكما قال عالم الآثار «الإسرائيلي»، أستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب البروفيسور، زئيف هرتسوغ، «التوراة: لا إثباتات على الأرض».
* كاتِب وباحِث فلسطيني