ضجّت الصحف في الفترة الماضية حول خبر مفاده أن «الأحوال الشخصية في السعودية تمنع تسمية المواليد بأسماء معينة»، وجاء في تفاصيل الخبر منع التسمية بخمسين اسماً متنوعاً. وكثير من تلك الأسماء منتشر بين المسلمين بكثرة من دون أدنى نكير من أي مرجعية دينية ما يدل على إباحتها، لكن الخطير في الموضوع هو تبني السلطات لتلك الفتوى الخلافية وإلزام الناس بها انطلاقاً من الدين!
لن أناقش الحكم الفقهي ذا الأبعاد العقائدية للمسألة، مع العلم أن التحريم قائم على وجهات نظر واجتهادات خاصة نابعة من البيئة والأعراف، (تماماً كقضية قيادة المرأة للسيارة)، وإنما سأتكلم عن عقلية التحريم التي تتناقض مع التوجه العام للإسلام، فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» [الأعراف:32]، وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»، وقال في حديث آخر: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألو عنها».
التحريم قائم
على وجهات نظر واجتهادات خاصة نابعة
من البيئة والأعراف

هذا هو منهج التشريع الإسلامي باختصار، والذي يقوم على تقليص دائرة المحرمات والواجبات وتوسيع دائرة المباحات، وبالتالي فقد قصد الشارع أن يذكر الأولى ويسكت عن الثانية قصداً لعدم تناهيها أو استيعابها بسبب كثرتها وتجددها باستمرار. وقد لفت نظري في خضم الفتاوى التي تجتاح العالم الإسلامي مسألة التشدد في الفتوى والجنوح غالباًَ إلى التحريم ثمّ تبني السلطة هذا التحريم في مسائل خلافية.
فالإسلام أسس لقاعدة «الإباحة» الأصلية في آيات وأحاديث كثيرة، أي إنّ الأصل في الاشياء الإباحة ما لم يثبت دليل صريح صحيح على تحريمه، وأنكر على المشركين واليهود تحريمهم ما أحل الله ثم نسبته إليه، فكانت إحدى أهداف الرسالة المحمدية: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50]، ولأجل ذلك قال: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام: 119]، ثم ناظرهم بقوله: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) [الأنعام: 150]، وأنذرهم بقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل: 116].
هكذا كان النبي في تشريعه، أبعد ما يكون عن التحريم العشوائي، بل إنه نهى أصحابه عن «كثرة السؤال» والخوض في تفاصيل الأمور حتى لا تكثر عليهم الواجبات والمحرمات، ولو تتبعنا أفعاله لوجدنا من ذلك الشيء الكثير، منها الحادثة المشهورة التي روتها عائشة: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداًَ وهذا عيدنا»، فانظر إلى فعل أبي بكر رضي الله عنه وإلى جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انظر إلى الفتاوى التي تحرم الموسيقى مطلقاً في هذا الزمان وكأنها هي الرأي الرسمي للإسلام. مع العلم أن كل نص جاء في تحريم الموسيقى والمعازف إما صحيح غير صريح، وإما صريح غير صحيح، كما قال ابن حزم.
فمنهج الفتوى، عند كثيرين اليوم، لا يقيم وزناً للقاعدة الأصولية التي تقول إن «الأصل في الأشياء الإباحة»، ثم يبحثون عن أدنى سبب للتحريم، ويوجهون الآيات والأحاديث إلى المنع تحت دعاوى «عدم الوقوع في الشبهات» أو «سد الذرائع»، فأصبح الشك في تحريم أي مسألة بحد ذاته من دواعي تحريمها، ولا ينقص المسلم إلا التشبه بالمجتمع الصحراوي بحجة أن النبي بعث في الصحراء! هذه العقلية تؤدي إلى أحكام هي من تشريع البشر لا من تشريع الله، بشر باتوا يتوهمون أنهم يمثلون الله على الأرض ويتحدثون باسمه، في فتاوى لا أوّل لها ولا آخر، ولو أن الأمر وقف عند هؤلاء فقط لكان الأمر عظيماً، إلا أن خطره يتعاظم إذا تبنته السلطات وأجبرت مواطنيها على الالتزام به باسم الدين وباسم الله.
إذا كانت تشريعات الدولة تخص مواطنيها، فالكلام باسم الله يخص جميع خلقه، من كل الطوائف والأديان، نعم من كل الطوائف والأديان وليس فقط المسلمين، لأن الله دعا في القرآن الكريم كل الناس إلى الإيمان، فنادى في عشرين آية «يا أيها الناس»، وأوكل هذه الامة بدعوة الناس بالحسنى. وصورة الإسلام مهددة اليوم بسبب الممارسات «التحريمية» في مجال الحريات الشخصية وحقوق المرأة وغيرها، وكان العلماء إذا أرادوا الحكم على أمر بالمنع يقولون كقول الإمام مالك: «أكره كذا» أو «لا يعجبني»، حتى لا يقول «هذا حكم الله» فيخطئ في نسبته إلى الله تعالى، ولمناسبة الكلام عن الإمام مالك نذكر الحوار الذي دار بينه وبين أبي جعفر المنصور عندما أراد الأخير أن يوحد الفتوى في العالم الإسلامي آنذاك، فقال: «قد أردت أن أجعل هذا العلم علماً واحداً، أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعملون به، فمن خالف ضربت عنقه»، فأجابه مالك قائلاً: «إنك إن ذهبت تولهم عما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفراً، فأقر أهل كل بلد على ما فيها من العلم، وخذ هذا العلم لنفسك، فقال لي: ما أبعدت، هذا القول». وقال له في مناسبة أخرى: «إنك إن تحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب، وإنما الحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تفرقت أصحابه في البلدان، وقلد أهل كل بلد من صار إليهم، فأقر أهل كل بلد على ما عندهم»، قال العلماء تعليقاً على قوله: فانظر إنصاف مالك وصحة دينه وحسن نظره للمسلمين، ولو كان غيره من الأغبياء المقلدين والعتاة المتعصبين والحسدة المتدينين لظن أن الحق في ما هو عليه، ومقصور على من ينسب إليه، وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد، وأثار بذلك الفتنة وأدخل الفساد.
فها هي اليوم عقلية التحريم تنتصر على سماحة الإسلام.
* كاتب لبناني