كان التقارب الأميركي الكردي البادئ ما بعد سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم « الدولة الاسلامية « في 10 حزيران / يونيو 2014، الذي تلاه إعلان زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي من على منبر جامع النوري شهر تموز / يوليو التالي لدولة « الخلافة «، أبعد مدى من حالة الاحتياج الأميركي لوقود بري لازم بالضرورة لمواجهة شعار « باقية وتتمدد « الذي أطلقه دينمو الإعلام في « تنظيم الدولة الإسلامية « ، فالتوجهات الأميركية كانت ماضية نحو اعتراف واشنطن بدولة إسلامية على أجزاء من سوريا والعراق ، الأمر الذي اعترفت به هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في مذكراتها المنشورة بعيد مغادرتها لمنصبها في العام 2014 ، والتغير هنا حصل ، وفقا لكلينتون نفسها ، بفعل الحدث المصري الحاصل في 3 تموز / يوليو 2013 الذي قلب المشهد الجيوسياسي رأساً على عقب ، ثم راحت أجزاء نقل الحركة ترسم حدوده بالنار والدم ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ، بعد التطورات الحاصلة في أعقاب هذا التاريخ الأخير ، الركون إلى تفسير أخذ حيزاً كبيراً آنذاك ، ومفاده أن واشنطن لم تكن تثق بالمعارضة السورية ذات الميول الإسلامية في أغلبها ، وعليه فإنه ما كان لها أن تراهن على حرب من ذلك النوع ، لكونها تفتقد بالدرجة الأولى إلى غياب « العداء الإديولوجي « ما بين طرفي النزاع ، أي المعارضة السورية وتنظيم الدولة الإسلامية ، هذا إن لم يكن التقارب في هذا السياق يحول أصلا دون حدوث مواجهات حقيقية يمكن أن تفضي إلى النتائج المرجوة منها وفقا للرؤية الأميركية نفسها . نقول لا يمكن الركون إلى ذلك التفسير انطلاقا من معطيات عديدة ، أبرزها أن التقارب الأميركي الكردي كان قد جاء في سياق انتهاء التحالف الأميركي مع « الإخوان المسلمين « العام 2013 ، والذي ارتسمت ملامحه منذ اغتيال السفير الأميركي في بنغازي 11 أيلول / سبتمبر 2012 عندما تأكد لواشنطن أن من قام بالفعل هم جماعات إخوانية كانت تتلقى دعما من هذه الأخيرة ، والمؤكد أنه منذ ذلك التاريخ راحت عرى التحالف تتفكك وصولاً إلى اتخاذ واشنطن وضعية « الداعم الصامت « لإسقاط حكم الإخوان في مصر الذي انتهى يوم 3 تموز / يوليو 2013 ، والوضعية إياها كانت قد أخذت واشنطن في ما بعد إلى رسم صورة لرجب طيب إردوغان هي أقرب لصورة محمد مرسي في مصر ، ثم أخذت الصورة المرتسمة تفعل آليات حركتها التي نتج عنها في تموز / يوليو 2016 محاولة تركية لاستنساخ السيناريو المصري الحاصل قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ ، و المؤكد هو أن الأيدي الأميركية لم تكن ببعيدة عن تموز التركي 2016 الآنف الذكر ، والقرب هنا يتعدى السياقات التي تشي به ليرقى إلى مستوى الأدلة التي أكدت ضلوع حركة « خدمة « التي يقودها الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة منذ نحو عقدين من الزمن في ذلك الانقلاب . لم تكن مصادفة أن يتزامن الانفكاك الأميركي الإخواني مع ولادة فكرة « الإدارة الذاتية « التي خرجت إلى العلن للمرة الأولى بعيد عقد « منظومة المجتمع الكردستاني « لمؤتمر في تموز / يوليو 2013 ، وفيه جرى انتخاب جميل باييك ، رئيساً لتلك المنظومة التي عملت على إنشاء هيئة تنظيمية لأفرع حزب العمال الكردستاني الأربعة ، التي كان باييك نفسه قد خاط قماشتها في العام 2004 عندما خرجت إلى العلن تركيبة رباعية شكل كل منها الطبعة المحلية لحزب العمال الكردستاني ، فكان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في سوريا ، وحزب الحياة الحرة في إيران ، وحزب السلام والديمقراطية في تركيا ، وحزب الحل الديمقراطي في العراق ، التي كانت كلها تدار من جبال قنديل في شمال العراق وبجهاز تحكم آلي يمسك به باييك نفسه . من الناحية التاريخية، يمكن القول إن هناك نوعين من الوجود الكردي في سوريا؛ الأول قديم ، وهو يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي عندما جاءت أفواج هؤلاء مع حملة صلاح الدين الأيوبي التي قادته إلى تحرير القدس العام 1187 م ، وعندما انهارت الدولة الأيوبية مضى هؤلاء إلى الانغماس في المجتمعات التي يعيشون فيها وصولا إلى ذوبان هويتهم التي سرعان ما اتخذت طابعا جديدا يتساوق والمزاج العام السائد في المحيط ، حتى لم يتبق من تلك الهوية سوى روايات يجري تناقلها بالتواتر ومفادها التذكير بالجذور الكردية لتلك العائلات ، والثاني جاء عبر موجات النزوح التي أعقبت فشل ثورة الشيخ سعيد بيران على نظام مصطفى كمال أتاتورك العام 1925 ، حيث تشير وثيقة فرنسية مؤرخة في 1926/10/18 تحت رقم /204/ في أرشيف إدارة المخابرات الفرنسية ، وقد ترجمها الباحث الكردي خالد عيسى الذي سبق له أن شغل منصب ممثل العلاقات الخارجية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ، وهي تقول بالحرف « بغية التأثير على الأكراد اللاجئين في الأراضي السورية لا يكتفي الأتراك بأن يرسلوا إلى هؤلاء الرسائل والمبعوثين وتقديم الوعود لهم ، إنهم ( أي الأتراك ) ينشرون في كل مكان خبراً يقول إن الفرنسيين مجبرون بموجب الاتفاقية الأخيرة على توقيف كل الأفراد المطلوبين لتركيا وتسليمهم إياها « ، ومن الواضح أن الوثيقة تصف الوجود الكردي في الشمال الشرقي من سوريا بـ» اللجوء « ، والصورة تتكشف بوضوح عند محمد كرد علي الذي زار تلك المناطق العام 1936 عندما كان يشغل منصب وزير المعارف السورية ، وفي أعقاب تلك الزيارة رفع تقريرا إلى رئاسة الجمهورية أشار فيه إلى « تجمع اللاجئين القادمين من تركيا إلى الحدود السورية « والذين قال إن « جمهرتهم من الأكراد « ، وقد أوصى بنهاية تقريره السابق الذكر بمنحهم أراض في جنوب البلاد ووسطها وعدم إبقائهم متجمعين في منطقة واحدة على الحدود . من الممكن تلمس النزعة الانفصالية لدى هذا الوجود الكردي الجديد منذ بداياته ، فبعيد إعلان هنري غورو ولادة « الاتحاد السوري « على أساس فيدرالي في 28 تموز / يوليو 1922 ، سعى العديد من النخب الكردية لاقتناص الفرصة لتحقيق « خصوصية « لذلك الوجود ، وفي العام 1930 تقدم /20/ وجيها كرديا على رأسهم نجيب برمدا النائب عن منطقة حارم في إدلب آنذاك ، بطلب إلى المفوض السامي الفرنسي، يتضمن منح الكرد وضعية خاصة أسوة بباقي المناطق السورية ، وقد وثق ذلك الطلب في ديوان المفوض تحت رقم / 6501/ تاريخ 15 نيسان / أبريل 1930 . لم يتحقق للأكراد مطلبهم ذاك ، بل سارت الأشرعة السورية في مسار مختلف يتساوق مع حقائق الجغرافيا والتاريخ ، سارت الدولة السورية نحو المركزية بعد الاستقلال بما يتوافق مع تلك الحقائق ، ونحو المركزية العروبية ما بعد 8 آذار / مارس 1963 الأمر الذي كان أشبه بفعل « الطمر « للطموحات الكردية التي قررت الدخول في مرحلة « السبات « بانتظار حدوث متغيرات تسمح بنبشها من المطمر ، وبعيد سقوط بغداد 9 نيسان / أبريل 2003 بدا لهؤلاء وكأن المنتظر قد حدث ، وفي هذا السياق كانت أحداث آذار / مارس 2004 التي بدأت في القامشلي إثر شجار حدث في أعقاب مباراة في كرة القدم بين فريق « الجهاد « ذي الصبغة الكردية وفريق من دير الزور ذي الصبغة العربية ، حيث سيمتد اللهيب بعدها بوتيرة متسارعة إلى دمشق ، لكن سرعان ما اكتشف موقدو النار أن كم الحطب المتراكم لا يبدو كافيا لإثارة حريق كبير يتناسب وحجم الطموحات ، إلا أن الوقائع ستشهد تغيرا كبيرا ما بعد آذار السوري من العام 2011 ، فالحدث الأخير كان من بين تداعياته تفكك روابط المركزية في بناء الدولة ، بعيد خروج العديد من المناطق عن سيطرة هذي الأخيرة ، ولوهلة بدا أن دمشق ، التي قررت سحب قواتها من مناطق الشرق السوري ، لتبقي هناك على قوات رمزية فقط ، لدواع هي محض استراتيجية في طريقة إدارتها للصراع ، تثق بحليفها الذي رعته منذ قيامه والذي نقصد به هنا حزب العمال الكردستاني الذي ولد في العام 1978 ، و من ثم أعلن ، من على الأرض السورية ، عن إطلاق شعار « العمل المسلح « لإقامة دولته الكردية على الأراضي التركية في آب / أغسطس من العام 1984 ، والجدير ذكره هنا أن زعيمه عبد الله اوجلان الذي اعتقل في شباط / فبراير 1999 بعملية استخبارية شاركت فيها كل من الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية لدعم نظيرتيهما التركية في ما ذهبت إليه ، كان قد قال في حديث له مع نبيل ملحم ونشره هذا الأخير في كتاب حمل عنوان « سبعة أيام مع آبو « أواخر التسعينيات من القرن الماضي ، قال إنه « لا مسألة كردية في سوريا ، ولا مطالب كردية لأراض في سوريا « وعلى الرغم من أن تلك التصربحات كانت قد أثارت موجة غضب في أوساط القوميين الأكراد ، إلا أنها كانت تلامس حقائق التاريخ وكذا حقائق الجغرافيا ، التي حاول ال PKK فيما بعد طمسهما عبر النسج على منوال تيودور هرتزل الذي قال بـ» اسرائيلية كل أرض تطأها قدم اسرائيلي « .مع انزلاق الأزمة السورية نحو التدويل الذي تأكد ما بعد الفيتو الروسي الصيني الأول تشرين أول / أكتوبر 2011 ، والذي شكل سدا أمام محاولة تكرار السيناريو الليبي البادئ ربيع هذا العام الاخير في سوريا ، بدا أن المسألة الكردية ستكون خنجرا في ظهر دمشق ، ظهر ذلك في مواقف التكتلات الكردية الوازنة تجاه كل من الحكومة والمعارضة السوريتين على حد سواء ، إذ لطالما اجتمع الاثنان على توصيف المطالب الكردية بالانفصالية ، وعليه فإن تلك التكتلات لم تفوت فرصة واحدة في العمل لتعميق الخندق الذي حفرته مع باقي المكونات السورية في فعل لا يمكن وصفه إلا بما «فوق انفصالي « يطمح إلى إنشاء كيان تناحري يحتذي بالتجربة الإسرائيلية كنموذج أمثل له ، وفي قرارة نفسه أن المنطقة من الوهن ما يجعل قيام « إسرائيلَين « فيها أمر متاح بالتأكيد . لم تتأخر المؤشرات في ترسيخ هذه النتيجة السابقة ، فبعد صدور القرار 2170 العام 2015 عن مجلس الأمن، تأكد للأكراد أن واشنطن لم يعد من هم لها يفوق هم محاربة داعش ، وفي الغضون كانت الاستراتيجيات الكردية قد خلصت إلى نتيجة مفادها أن ركوب « أسانسير « ذلك القرار سوف يوصل إلى « سدرة المنتهى « التي تعني هنا حلم قيام الدولة .
كانت القراءة الكردية في العمق ترى أن قيام « عازل جغرافي - ديموغرافي « ما بين تركيا من جهة وسوريا وباقي المنطقة العربية من جهة أخرى ، وهو يمتد من بلدة السمراء أقصى الغرب السوري عند شواطئ المتوسط إلى بلدة عين ديوار أقصى الشرق عند مثلث الحدود السورية العراقية التركية ، هو أمر يمكن أن يتساوق والمصالح الأميركية ، وكذا الإسرائيلية ، ولربما كان ذلك كافيا ، وفق نظرة المنظرين للفكرة ، لنجاحها ، وبغض النظر عن الضربات التي تلقاها ذلك المشروع عبر تركيا التي كانت تنظر إلى الأكراد السوريين الواقعين تحت تأثير الـ PKK بقلق بالغ ، بغير المنظار الذي كانت تنظر به إلى أكراد شمال العراق الواقعين تحت تأثير ثنائية « البرازانية - الطالبانية «، حيث أظهرت هذي الأخيرة قابلية للرضوخ للإملاءات الإقليمية التي تفرضها المصالح ، وعليه فقد وافقت أنقرة ، العام 2003 فصاعداً ، على قيام حكم ذاتي كردي في شمال العراق في مقابل ضمانات صارمة على التسلح ، وكذا مقابل إغراءات اقتصادية مغرية ، نقول بغض النظر عن تلك الضربات التي جاءت على مرحلتين أولاهما في عفرين شباط / فبراير 2018 التي أنهت الآمال بالوصول إلى شواطئ المتوسط ، وثانيهما في « نبع السلام « تشرين أول « اكتوبر 2019 التي أبعدت « قسد « عن الحدود التركية ما بين تل أبيض في ريف الرقة ورأس العين في ريف الحسكة ، هذه الضربات كانت تعجيلا فقط بوأد مشروع هناك الكثير من الموانع التي تقوم بوجه تحقيقه ، أبرزها أن الوجود الكردي ، في ثقله الأكبر ، عبارة عن شريط حدودي ضيق ، ثم إن الحقائق الديموغرافية في « روج آفا « تبدو صادمة .
كانت القراءة الكردية ترى أن قيام «عازل جغرافي ـــ ديموغرافي» بين تركيا من جهة وسوريا وباقي المنطقة من جهة أخرى، هو أمر يمكن أن يتساوق مع المصالح الأمريكية


في دراسة أجراها 107 باحثين سوريين ، أكثر من نصفهم من الأكراد ، ما بين أيلول / سبتمبر 2011 وحزيران / يونيو 2012 ، وهي طالت المناطق الخمس التي تتكون منها محافظة الحسكة مع ريفها ، والدراسة من الدقة بحيث ذهبت الأرقام الواردة فيها إلى ذكر الآحاد ، وفي الدراسة يرد أن الأكراد ، الذين يعتبرون القامشلي عمقهم الأهم ، لا يشكلون فيها نسبة تزيد على 40 % ، أما وجودهم في مدينة الحسكة فهو لا يزيد على 10 % ، وفي رأس العين 28 % واليعربية 6 % ، تل براك 30% ، تل تمر 3.5 % ، تل حميس 7.8 % ، تل براك 30% ، المالكية والدرباسية حوالى 75% ، أما الشدادي ومركدة والعريشة والهول فهي خالية تماما من الوجود الكردي.
تأسست « الادارة الذاتية « رسميا في كانون الثاني / يناير 2014 ، ثم حدثت عليها تغييرات حتى اتخذت شكلها الراهن أيلول / سبتمبر 2018 ، الأمر الذي تزامن مع استفتاء شمال العراق الذي سرعان ما تكشف وهنه وسقوطه سريعا ، وهو الاستفتاء الذي كان جميل باييك قد دعا شعوب المنطقة إلى اعتباره « مشروعا يؤسس لوحدة سوريا وليس مشروعا انفصاليا أو تقسيميا « ، كان ذلك أشبه بمن يوجه خطابه إلى تجمع في « العصفورية « ، والمؤسسة السابقة الذكر منذ ولادتها وقعت تحت سيطرة قيادة جبال قنديل ، وهي ، بكل المقاييس، بعيدة في توجهاتها عن « السورنة « ولا تمت إليها بصلة ، ولذا فإن ذلك المشروع هو لعبة سياسية كبيرة تفوق حجم الأكراد وطاقاتهم ، والحامل الاجتماعي لها غير مدرك لأبعادها ، ولا مدرك أيضا للحمولات التي ستترتب على أكتافه عندما يبدأ الضباب بالانقشاع ، هذا الذي يمكن تلمس النسائم الأولى لانقشاعه في هذه المرحلة .
المشروع الكردي في سوريا محكوم بالفشل عبر عوامل الجغرافيا والتاريخ ، والأكراد « لهم الريح « ، وفقا لتوصيف محمود درويش ، لأنهم لم يقرأوا تاريخهم ولا هم استوعبوه ، فمشروعهم الذي قام كومضات زمنية لخمس مرات في القرن العشرين ، لم يكن يقوم على مشروعية التاريخ ومشروعية الرسوخ على الأرض ، بقدر ما كان يعتد بدور وظيفي خارجي كانت ترسمه مصالح دولية، حتى إذا ما تغيرت هذي الأخيرة زالت معها البنى الكرتونية التي قامت أصلا ، بشكل آني ، وفقاً لتلك المصالح .

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا