في ذكرى استشهاد الدكتور مصطفى چمران رجل العلم والمعرفة والزهد والعرفان والجهاد، تمرُّ في الخاطر ذكرياتُ معرفتي الأولى بشخصه أوائل عام 1980 في جامعة تبريز التي كانت حينذاك معقلاً للحرب، تجتمع فيها أحزاب اليسار الأميركي آنذاك - بتعبير الإمام الخميني - بمختلف تسمياتها وشعاراتها التي كانت تطلقها ضدّ الثورة الإسلامية الحديثة الولادة. كان من الغرابةِ بمكان أن أشهدَ على تلك الشعارات المعادية تحديداً لشخص الشهيد چمران والتي كانت تطلقها كل تلك الأحزاب المناوئة آنذاك. لقد ارتبط ذلك العداء بالأوضاع السياسية والعقائدية والثقافية في جنوب لبنان وفلسطين. فكانت تلك الشعارات غامضةً وغير مألوفةٍ لنا نحن، طلاب الجامعة آنذاك. غير أن الانخراط في الفعاليات الثقافية والتعرف إلى لبنان تحديداً، علّمني لاحقاً حقيقة هذه الشخصية المحورية ودورها المحوري في مقارعة الظلم والاحتلال والطغيان.
لقد كان الشهيد مصطفى چمران شخصيةً لا يحدّها زمانٌ ومكان ولا قومية ومذهبية. هو الذي «طلّقَ بالثلاثة» لذّاتِ حياتِه التي كان ينعم بها في الولايات المتحدة الأميركية حسب تعبيره، وآثرَ الانسلاخ عن تعلقات الدنيا رغم علومه ومناصبه المهنية هناك، ليعود إلى ديار أبي ذر الغفاري ـــ بتعبيره زمن الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان ـــ جبل عامل الذي لطالما كان البقعة المظلومة عبر التاريخ وصولاً إلى ابتلائها اليوم بالكيان الغاصب. كان واضحاً تأثر الشهيد بشخصية أبي ذر المحورية والتي كان لها الدور البارز في تبليغ رسالة محمد(ص). لعله كان مقدّراً أن يكونَ من الجمهورية الإسلامية رسولٌ إلى لبنان في ذلك الوقت، رسولٌ يرافق الإمام موسى الصدر في مؤازرة المستضعفين والمحرومين والفقراء، وتأسيس بنيان المقاومة. كانت ثروتُه من الله أن يعينَ الفقراء ويكون بقربهم ومنهم، فقيراً زاهداً غنياً عن كل ما هو دنيويّ. لقد تعلّم الكثير، كما كان يقول دائماً، من هؤلاء المستضعفين المظلومين، ومن أطفال الشهداء ونسائهم. لقد كان قدوةَ الثوار والمجاهدين، وخَلَّد اسمه وعمله ولمع نجمه كمؤسس لمدرسة عاملية مقاومة رغم عودته لخدمة مسيرة الثورة في بلاده، وحتى بلوغ الشهادة في «دهلاوية» خوزستان... دفاعاً عن وطنه.
إن ثقافة الشهادة والمقاومة التي وصلت إلينا من هذه الشخصية الفَذَّة، لا تختصرها كلماتٌ ولا سطورٌ من كتابه «لبنان»، وإنما بين طبقاتِ كلامه وخلف قشور ما ترك لنا. فليس عادياً أن يعتبر چمران بأنّ تاريخ ميلاده هو اليوم الذي وطأت به قدماه أرضَ عامل. وليس معهوداً أن يعتبر نفسه عامليّاً أباذرياً بالفعل والعمل.
إنّ مشوار الشهيد چمران من بداية حياته حتى الشهادة، يشهدُ على دوره الذي قدّرَ له أن يفيَه حقّه من أجل الثورة الإسلامية، وتأسيس بنيان المقاومة في إيران ولبنان وصولاً إلى القدس.
«أنا الصرخةُ التي بقيت حبيسةً في صدر جبل عامل القريح طوال قرونٍ من الظلم والطغيان، أنا الأنينُ الموجعُ في حناجر المعذبين الذين أهلكهم تعذيبُ الطغاة والمستثمرين عبر التاريخ».
عاد هذا العارفُ الزاهدُ الغنيُّ ليستشهدَ فوق تراب الوطن، معرفاً بنفسه لأبناء بلاده حين قدومه: «لقد جئتُ من جبل عامل، الأرض التي بلغَ فيها أبو ذر، صديق الرسول، برسالة الإسلام الأصيل للمرة الأولى، أنا ممثلُ المحرومين والمستضعفين في جنوب لبنان الذين تحرقهم نارُ الصواريخ والقنابل الإسرائيلية في هذه الأيام...».
إنه العالِمُ المثقف الدكتور العارف الزاهد، المعلّمُ المبلّغ؛ مصطفى چمران الشهيد.

* المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا