لا يزال الحديثُ هنا عن كتابيْن جديديْن صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». والكتاب الأوّل أحدث ضجّة كبيرة في الأوساط الأكاديميّة وحتى الصحافيّة، وهناك مؤتمر عن الكتاب سينعقد في «مركز كمبردج للدراسات الفلسطينيّة» في جامعة كمبردج في بريطانيا (أشارك فيه مع الصديق كمال خلف الطويل وأهداف سويف، وريتشارد فولك، والمؤلف). والحملة على سعيد في الغرب تأخذ أشكالاً مختلفة، وهي لم تخبُ بعد وفاته. على العكس. فهناك من انتقى جملاً من سيرة برينان للتشنيع بسعيد، أو هناك من استخدم الكتاب لاستخدام سعيد في معارك سياسيّة آنيّة، أو لجعله أداة في حرب ضد أعداء أميركا. والهوس الصهيوني الغربي بسعيد ليس إلا دليلاً على تأثير سعيد، ليس السياسي فقط، بل الأكاديمي. إن كل المراجعة النقديّة للمناهج الأكاديميّة الغربيّة تنطلق من نقد سعيد في كتاب «الاستشراق» و»تغطية الإسلام» و»الثقافة والإمبرياليّة». وصحافة النظام السعودي والإماراتي تنهشُ هي الأخرى في جسم سعيد لسببيْن: 1) من أجل تبييض صفحة النظاميْن مع الصهاينة. يعلم النظامان المُطبّعان (سرّاً، أو جهاراً، لا فرق) أن نقد سعيد يسرّ الدوائر الصهيونيّة في الغرب، خصوصاً في واشنطن وتل أبيب. ومشاركة صحافة الخليج في نقد سعيد كانت من بوادر التطبيع الأولى. أراد النظامان تسجيل نقاط لمصلحة إسرائيل في صحافتهما. 2) لأن كتابَيْ سعيد «تغطية الإسلام» و»الاستشراق» عزّزا النقد العربي والمسلم والمهاجر في الغرب لسياسات حكومات الغرب، في الداخل والخارج. ويشارك النظامان الاعتراض الذي قدّمه صادق جلال العظم (وتشاركَ فيه مع الصهاينة في الغرب) من أن خطاب سعيد في الدفاع عن الإسلام والمسلمين كان خطاباً اعتذارياً وساهم في تقوية موقف الإسلاميّين (طبعاً، هناك مفارقة في موقف العظم، نظراً إلى مواقفه وتحالفاته وخطابه في سنواته الأخيرة، والذي اتخذ منحى طائفيّاً لا لبسَ فيه). وجريدة «الشرق الأوسط» نشرت مقالة لهاشم صالح قبل أيّام بعنوان «لماذا أحبُّ الاستشراق» (وأبرزت الجريدة إعلاناً عن المقالة في أعلى صفحتها الأولى، لتعميم الفائدة في الدعاية السياسيّة). وأطرف ما جاء في المقالة زعم الكاتب أن «سعيد ندمَ على فعلته تلك (أي نقد الاستشراق) في آخر حياته». طبعاً، لا يقول ذلك عن سعيد إلا من لم يعرفه، ومن يريد أن يستخدم جثة سعيد لغايات سياسيّة آنيّة (سياسات تنويريّة تابعة لمحمد بن سلمان في هذه الحالة).
إدوار سعيد

ومن فوائد كتاب برينان أنه يدحضُ تلك الفكرة السائدة عن المثقفين الفلسطينيّين من أميركا، مثل إدوار سعيد وهشام شرابي بالتحديد، عن أنهم ما استفاقوا على القضيّة الفلسطينيّة إلا بعد هزيمة 1967. هذا غير صحيح في الحالتيْن، والكتاب يفصّل أن سعيد كان مشغولاً بشؤون العالم العربي طيلة حياته، وإن كان دوره في تأسيس «جمعية الخرّيجين الجامعيّين العرب الأميركيّين» قد كان نتيجة تضافر جهود أميركيّين عرب إثر الهزيمة المدويّة في عام 1967. (كم كنتُ أجد ـــ ولا أزال ـــ اسم الجمعيّة وحتى نطاقها مزعجاً، إذ إنها استثنت هؤلاء العرب الذين لم يتخرّجوا من جامعة، لكن هذا النمط المعرفي النخبوي كان سائداً في تلك الحقبة، ولا يزال). لكن سعيد في كتابه «سياسة الانتزاع» يشيرُ إلى أهميّة 1967على فكره السياسي وعلاقته بالعالم العربي ويجعلُ من تلك السنة مفصليّة في توثيق علاقته السياسية والشخصية بالعالم العربي، لكنّ الكتابات والمراسلات التي اطّلع عليها برينان تشير إلى أن سعيد كان مرتبطاً مبكراً. لكن سعيد قد يكون يعتبر ارتباطه الأول نسبياً أقلّ مما أرادَ، مقارنة مع الارتباط الذي تلا حرب 1967. والكتاب يظهر كم كان سعيد ملتصقاً بالتطورات السياسيّة في العالم العربي في كل مراحلها، خصوصاً ما يتعلّق منها بالقضيّة الفلسطينيّة. ها هو في رسالة شخصيّة في عام 1973 يشكو من «الرقابة الثقيلة» في لبنان على المطبوعات، ويتابع بإعجاب نموّ منظمة التحرير الفلسطينيّة السياسي والعسكري (سمحت أرملة سعيد، مريم، لبرينان، بالاطّلاع على أوراق سعيد الشخصيّة وعلى مراسلاته الخاصّة ويوميّاته).
يقول برينان لم يتعرّف سعيد عن كثب على قادة منظمة التحرير البارزين إلا في عام 1974. هذا غير صحيح. هو كان يعرف بعضهم من قبل، مثل حنا ميخائيل، «أبو عمر» (الذي سبق الحديث عنه) أو كمال ناصر، الذي كان يمتّ بصلة قرابة معه. وسعيد تعرّف إلى ياسر عرفات مبكراً قبل «أيلول الأسود» بقليل، وبوساطة من «أبو عمر» (لا يذكر برينان ذلك، ويظن أن ذلك لم يحصل إلا في الأمم المتحدة. وسعيد تحدّث عن ذلك في مقالة له عن «أبو عمر» في مقالة في «الأهرام ويكلي» وهي منشورة في كتاب «السلام ومعارضوه»). تعرّف سعيد إلى ياسر عرفات أكثر في نيويورك عندما ألقى الأخير خطابه الشهير في الأمم المتحدة (لم يستطع عرفات حتى في خطابه غير الطويل إلا أن يخطئ في التحريك، بالرغم من تشكيل النص). لم يكن لسعيد دور في كتابة الخطاب، الذي عمل على حياكته وليد الخالدي وصلاح الدباغ ومحمود درويش وشفيق الحوت. لكن سعيد، بمعاونة رنده الخالدي فتال، ترجم الخطاب إلى اللغة الإنكليزيّة. وهذا الدور لسعيد دشّن لصلة وثيقة بينه وبين عرفات وقيادة المنظمة، كما أنه أسّس لصداقات قويّة بين سعيد ومحمود درويش وشفيق الحوت. كان سعيد معجباً بياسر عرفات وأثنى عليه كثيراً عبر السنوات قبل أوسلو عندما أصبح من أبرز معارضيه (وقال لي سعيد إن عرفات كان وراء منع عدد من كتبه في الأراضي المحتلّة. بعد أوسلو اقتنع سعيد أن عرفات عصيّ على الإصلاح). لكن سعيد يقول في تذكّره للقائه الأول مع عرفات إن الأخير ترك عنده انطباعاً بأنه «ممثل وحيوان سياسي بامتياز وليس له إلا علاقة سطحيّة بالحقيقة» (كتاب سعيد، «السلام ومعارضوه»، ص. 79). أيّد سعيد عرفات لسنوات واعتبره رمزاً القضيّة وأنه أنشأ مؤسّسات في داخل منظمة التحرير. حاول سعيد أن يؤثّر على عرفات وعلى قيادة المنظمة، لكنه كان يجد تمنّعاً. لكن هذا الدور لسعيد في تلك الفترة (في أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات)، تبلور أكثر خلال سنوات إدارة جيمي كارتر، عندما اقترحه أنور السادات، السيّئ الذكر، رئيساً لحكومة فلسطينيّة في المنفى من أجل تسهيل التفاوض بين منظمة التحرير وبين أميركا. وتناقض هذا الدور التسووي لسعيد مع موقفه اللاحق الذي تبلور بعد أوسلو ضد الحلول التسووية مع العدوّ الإسرائيلي. كما أن سعيد أصبح حادّ النقد لسياسة تقديم التنازلات للإدارات الأميركيّة، وسخر من عرفات في إشارته إلى كلينتون بـ «صديقي بيل» ـــ باعه صديقه هذا في قمّة كامب ديفيد، بعد أن ألقى اللوم عليه، فيما كان قد وعد عرفات بأنه لن يلوم أي طرف لو تعثّرت القمّة. ويذكر برينان دور صديق سعيد، إقبال أحمد (الباكستاني الأصل).
كان سعيد شديد الاهتمام، أو لنقل، كان مفرط الاهتمام، بصورة المقاومة الفلسطينيّة في الغرب، وخصوصاً في الولايات المتحدة


إقبال أحمد كان من أعزّ أصدقاء سعيد، وهو (أي أحمد) مجهول من العرب. لم يكتب أحمد كثيراً، لأنه كان مشغولاً أكثر بالخطابة والنشاط السياسي. هذا رجل عندما كتب أطروحته في جامعة برنستون في الستينيّات جال في شمال أفريقيا وساهم في دعم الثورة الجزائريّة. هذا رجل تعرّض لمضايقة وطُرد من جامعة كورنيل بسبب مواقفه المؤيّدة (مبكراً) للثورة الفلسطينيّة. لكن إقبال أحمد (الذي التقى بياسر عرفات أكثر من مرّة) كان شديد النقد لتجربة منظمة التحرير والفساد المستشري في صفوفها. أذكر أن أحمد كان يذكّرنا بأنه حذّر عرفات أكثر من مرّة من الفساد المستشري في صفوف المنظمة في لبنان ومن الاستعراضيّة المنفّرة لمنظمة التحرير في لبنان—وكان يزور لبنان بانتظام. (أذكر أن سعيد طلب مني مرة في أوائل التسعينيّات الاتصال بأحمد لمساعدتي في الحصول على وظيفة لي في جامعة «هامشر»، حيث كان أحمد يعلّم، وتجاوب أحمد وحاول المساعدة). سعيد، في المقابل، كان مقتراً في نقد المنظمة قبل أوسلو. أو أنه كان ينتقدها لعدم تجاوبها مع نصائحه باتباع اللين والمرونة وذلك لكسب اعتراف أميركي بمنظمة التحرير. بهذا، فإن قيادة المنظمة كانت على حقّ في تجاهل دعوات سعيد في ذلك الحين (طبعاً، عاد عرفات وقبل أسوأ بكثير مما كان معروضاً عليه في الماضي، مع أن كل المعروض على قيادة المنظمة في تاريخها من الإدارات الأميركيّة كان سيئاً للغاية، ومضراً بحق الشعب الفلسطيني). وبرينان يظنّ في الكتاب أن سعيد هو الذي أطلق وصف «الختيار» على عرفات للتحبّب. لكن برينان لا يعرف شؤون السياسة في العالم العربي.
لكنّ برينان يكشف جانباً آخر من نقد سعيد لعرفات، وكيف أنه ذات مرة حثّ صديقه الصحافي اليساري الراحل، ألكسندر كوبرن (كم خسرناه) من أجل أن ينتقد عرفات لإصراره على ارتداء الكوفيّة وإطلاق لحيته وعلى لباسه العسكري. لكنّ هنا جانباً أثّر على مواقف سعيد من القضيّة الفلسطينيّة قبل أوسلو. كان سعيد شديد الاهتمام ـــ أو لنقل، كان مفرط الاهتمام ـــ بصورة المقاومة الفلسطينيّة في الغرب، وخصوصاً في الولايات المتحدة. صحيح أن عرفات كان ثقيل الدم في المقابلات، خصوصاً تلك التي كان يصرّ أن يجريها باللغة الإنكليزيّة (وكان سعيد وغيره يلحّون على عرفات بأن يمتنع عن التحدّث بالإنكليزيّة لأنه كان متعثّر النطق فيها). وصحيح أنه كان لعرفات عادة ذميمة في المقابلات الصحافيّة (بالعربيّة والإنكليزيّة) عندما كان يردّ على السؤال بسؤال آخر، ثم يضحك، ظنّاً منه أنه أفحم السائل. لكن الظن أن صورة عرفات التي كان الغربيّون يرونها منفّرة، هي التي كانت وراء الموقف السلبي من حقوق الشعب الفلسطيني هو فكرة سطحيّة ومغلوطة. والكثير من زعماء العدوّ كانوا منفرين تليجينيّاً، وكان إسحق شامير وإسحق رابين فظّيْن مع الصحافة الأميركيّة لكن هذا لم يؤثّر على نظرة التعاطف الأميركي مع الصهيونيّة. ثم، لماذا نجعل من إرضاء الرجل العنصري الأبيض هدفاً للقضيّة؟ ثم، لو كانت القضيّة منتصرة وباهرة في نضالها، لما كان هناك تأثير لصورة القائد. لم يكترث لا ماو تسي تونغ ولا هو شي منه لصورتهما في إعلام الغرب وهما يقودان ثورتهما المسلّحة، ولباس غيفارا وكاسترو أصبح موضة عالمية، مثل جاكيت ماو. إن صورة عرفات بالكوفيّة واللباس العسكري واللحية غير الحليقة لم تكن سبب نفور الغرب من القضيّة الفلسطينيّة. كانت صورة عرفات هذه، على مسرحيّتها واستعراضها وتهريجيّتها، من أقل مشاكله. مشاكل عرفات الحقيقيّة كمنت في خداعه ونفاقه وبهلونيّاته وكذبه وتنازلاته الجمّة، إضافة إلى هوسه بالحوز على الرضى الأميركي. كان جورج حبش يختلف جذريّاً، في صورته التي يظهر فيها في الإعلام وأمام الملأ، عن عرفات ومهرّجيه، لكن هذا لم يكسبه تعاطفاً غربياً. كما أن غسان كنفاني أو جمال عبد الناصر أحسنا التحدّث بالإنكليزية والردّ على المزاعم الصهيونية لكن هذا لم يكسب تعاطف الجمهور الغربي. أنا أفهم موقف سعيد من صورة عرفات الاستعراضيّة وكانت تثير الامتعاض عند كثيرين من العرب هنا، لكن كنتُ دائماً أقول لهم: وهل أن صورة العربي في الغرب كانت ستكون مختلفة لو أن بيلا حديد أو تيم حسن (أو أي ممثل شهير وسيم) مثّل منظمة التحرير بدلاً من عرفات؟ هذه عوامل لا تأثير فيها على أسباب نفور الغربيّين ـــ أو الكثير منهم ـــ من قضيّة الشعب الفلسطيني وثورته التي أجهضها ياسر عرفات.

محمود درويش

لكن برينان يُسيء كثيراً إلى سمعة إدوار سعيد وإلى إرثه السياسي والثقافي عندما يوحي بأن العرب (مَن؟ كل العرب؟ بعض العرب؟) كانوا يريدون اغتيال سعيد بسبب مواقفه السياسية. ويذكّر برينان أن «عدداً من حلفائه» تعرّض للاغتيال أو التهديد. لكنّ برينان لا يذكر أن حلفاء وأصدقاء وأقرباء سعيد الذين تعرّضوا للاغتيال قُتلوا على يد عصابات إسرائيليّة، وليس على يد عرب. أما «أبو عمر» الذي سبق ذكره، فهو قُتل على الأرجح على يد ميليشيات إسرائيل في لبنان. ثم يزعم برينان أن سعيد لم يذكر في عزّ الحرب الأهلية عبارة «عمليات استشهاديّة» في إشارة إلى السيارات المفخّخة، وأنه عارضها. ويوحي بأن رفض السيّارات المفخّخة هو من الكبائر عند العرب (لكن أوّل سيارة مفخّخة في تاريخ العالم كانت في نيويورك في عام 1920، وهناك من يقول إن محاولة اغتيال السلطان عبد الحميد في عام 1905 كانت الأولى، وأوّل سيارة مفخّخة في الشرق الأوسط كانت من صنع الصهاينة، طبعاً). ولم يكن موقف سعيد ضد السيارات المفخّخة معروفاً في سنوات الحرب الأهليّة لسبب بسيط: لم يكن إدوار سعيد معروفاً في سنوات الحرب الأهليّة، كما أن اسمه لم يرد عند العامة قبل ذكره من قبل السيّئ الذكر، أنور السادات، عندما زكّاه لرئاسة حكومة فلسطينيّة في المنفى في عام 1977. ويذكر برينان أن سعيد في رسالة لفريد هاليداي (الذي انقلب من اليسار إلى الدعوة للحروب الإمبريالية قبل وفاته) قال إنه اتُّهم بالخيانة والتنازل والاستسلام والعمالة للإمبريالية الأميركيّة. لكن هذه الاتهامات سيقت ضد سعيد ليس أبداً بسبب ذمّه للسيارات المفخّخة، بل لأنه قدّم طرحاً سياسياً استسلامياً، ولأنه طالب بتلبية مطالب الإدارة الأميركيّة للحصول على اعتراف بمنظمة التحرير. هذا كان مكمن الاعتراض على سعيد من قبل الكثيرين في العالم العربي. وقد رويتُ أنني رأيتُ إدوار سعيد للمرأة الأولى في أوائل الثمانينيات في «معهد الدراسات السياسيّة» اليساري عندما ألقى محاضرة، ورددتُ عليه بغضب شديد لأنه سخر من الكفاح المسلّح وشبّهه يومها (للجمهور الأميركي) بـ «فظائع نظام الخميني». وجرى سجال غير قصير بين سعيد وبيني يومها لكنه عاد ونفى أنه ذمَّ كفاح الشعب الفلسطيني. لكن فكرة أن سعيد كان هدفاً لمحاولات اغتيال هي غير موثّقة، مع أن تزكيته من قبل أنور السادات بالذات جعلته عرضة للنقد في العالم العربي. وعندما يقول سعيد في رسالته لفريد هاليداي إن مجلّة «الهدف» شنّت «حملة مجرمة ضده» لم يكن يعني أن «الهدف» دعت إلى قتله، لكن الأمر اختلط على المؤلّف وظن أن «الهدف» دعت لاغتيال سعيد.
وفي عام 1977 انتُخب سعيد عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني. وكلمة انتخاب ليست دقيقة في ما يتعلّق بالتعيينات في المجلس الوطني الفلسطيني. كان قادة الفصائل يتفاهمون في الغرف المغلقة على أسماء التعيينات، وفق كوتا التنظيمات المختلفة، ثم تُعلن نتائج الاقتراح الديمقراطي. وانتخاب سعيد في عام 1977 كان في أوجّ ضلوع سعيد في جهود مع الإدارة الأميركيّة لكسب اعتراف أميركي بمنظمة التحرير. وها نحن بعد عقود من حصول الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير ندرك أكثر من أي وقت مضى أن ثمن الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير كان باهظاً جداً، ومهيناً أيضاً، وأتى على حساب الكرامة الوطنية والحقوق التاريخية. الاعتراف الأميركي تطلّبَ أولاً أن يتلو عرفات بياناً كُتبَ له بالإنكليزية وأُرسل عبر الفاكس، من أجل أن يدين وينبذ (أصرّت إدارة ريغان على صيغة الإدانة والنبذ معاً) الكفاح المسلّح ويصفه بالإرهاب. أنهت تلك التلاوة لعرفات زمن محاججة العرب للتعريف الأميركي الصهيوني للإرهاب، الذي ليس إلا مقاومة الاحتلال الصهيوني والاحتلالات الأميركيّة في بلادنا. تزكية سعيد في حينه في المجلس الوطني الفلسطيني كانت برغبة من القيادة الفلسطينيّة للاستعانة بقناة اتصال مع الإدارة الأميركيّة (كان سعيد زميل دراسة في برنستون، مع هودنغ كارتر، الذي كان الناطق باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة في عهد كارتر). ويقول برينان إن سعيد كان قريباً من الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، لكن سعيد لم ينتمِ إلى أيّ من التنظيمات. والجبهة الديمقراطيّة كانت تستهوي دعاة التسوية السلميّة التنازليّة مع العدوّ، لأنها كانت أوّل من طرح فكرة الدويلة الفلسطينيّة في الضفة والقطاع، وهي أجازت الحوار مع الإسرائيليّين بحجّة أنه من الضروري كسب «القوى الديمقراطيّة الإسرائيليّة» (من هم هؤلاء؟) ومن المعروف، أن حملة الجبهة الديمقراطيّة لمخاطبة الرأي العام الاستيطاني الإسرائيلي لم تطل كثيراً، إذ جاءت عمليّة ترشيحا في أيار 1974 لتجعل من الجبهة، ومن حواتمه شخصياً، هدفاً للعداء الصهيوني المُستحكم. لكن برينان يخطئ، كعادته في الحديث عن السياسة في العالم العربي، عندما يقول إن الجبهة الديمقراطيّة كانت تمثّل أقصى اليسار في الساحة الفلسطينيّة (كانت هي في الحقيقة في «الحلول التسووية» تمثّل اليمين، واستعان بها عرفات لعرض طروحاته التسووية على الساحة الفلسطينيّة)، وعندما يقول إنها لم تكن شيوعيّة بصورة صريحة، فيما كانت هي الفصيل الأكثر تمثيلاً للاتحاد السوفياتي وعقيدته في الساحة الفلسطينية. ويخطئ برينان أيضاً عندما يقول عن صديق سعيد الحميم، شفيق الحوت، إنه لم يكن شيوعياً. الحوت كان دائماً يقول لجورج حبش ممازحاً: أنا كنت شيوعيّاً عندما كنتَ أنتَ قوميّاً، وأصبحتُ أنا قوميّاً عندما تحوّلتَ أنت إلى الشيوعيّة. ويضيف برينان أن سعيد كان متوجّساً من احتضان «فتح» لـ»الإسلام السياسي». لم يكن هناك إسلام سياسي ليتحدّث المرء عنه، إذ إن انطلاق المقاومة الفلسطينيّة جرى في عصر القوميّة العربيّة واليسار العالمي العلماني. صحيح أنه كان لبعض قادة «فتح» جذور إخوانية، لكن «فتح» مثّلت تجربة مختلفة تماماً عن الإخوان، وعرفات نبذ الطائفيّة في الساحة الفلسطينيّة وإن كان استخدمها لأغراضه في الساحة اللبنانيّة.
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@