إذا ما توصّلت «مباحثات فيينا» إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني -على ما ترجح الإشارات والتسريبات المتواترة- فإننا أمام انقلاب إقليمي يعيد ترتيب الأوراق وحسابات القوة وقواعد الاشتباك بين اللاعبين الكبار.عندما عادت الوفود التفاوضية إلى عواصمها بدا أن الهدف -هذه المرة- النظر في التوقيع على ما جرى التوصل إليه من مسودات أولية عبر مفاوضات أميركية إيرانية غير مباشرة، لا التشاور بشأن سير المفاوضات، كما جرت العادة في الجولات السابقة.
الانتخابات الرئاسية الإيرانية لا تمثل عائقاً حقيقياً يمنع المضي قدماً في إعادة إحياء الاتفاق النووي، لكنها تعطي رسائل لها مغزاها من توقيتها عن ميل أكبر للتشدد تحت نفس السقف الاستراتيجي.
تغيير مركز رئاسة الجمهورية من الإصلاحي «حسن روحاني» إلى المحافظ «إبراهيم رئيسي» لا يغير الحسابات الإيرانية العليا، التي يمسك بخيوطها المرشد الأعلى «آية الله علي الخامنئي».
هذا ما يعمل بمقتضاه الإيرانيون ويدركه الأميركيون.
قبل أول مؤتمر صحافي للرئيس المنتخب كان مستلفتاً أن يلتقي وزير الخارجية «محمد جواد ظريف» لفترة تقارب الساعتين. تبدّى في تصريحات «رئيسي» نوع من الدعم للمسار الحالي، لكنه أكد، وهذا له دلالته على توجهات الرئاسة الجديدة، أن إيران لا ترهن مستقبلها وخططها على عودة أو عدم عودة الاتفاق النووي.
في مناورات الساعات الأخيرة صدرت إشارات متبادلة أن ما لم يُحسم هو الأكثر أهمية وحساسية.
هناك قضيتان معلقتان، أُولاهما- إلغاء العقوبات الأميركية دون مماطلة وتجزئة. وثانيتهما- مستقبل المشروع الصاروخي الإيراني.
القضية الأولى، يصعب تجاوزها إيرانياً، فإذا لم تُرفع العقوبات الاقتصادية جميعها فما قيمة إحياء الاتفاق النووي للمواطن الإيراني العادي في ظل ما ظهر أثناء الانتخابات الرئاسية من أولوية تحسين الحياة الاقتصادية وخفض نسب البطالة بتوفير فرص العمل والتشغيل.
وإذا لم تُرفع العقوبات الأخرى، التي تشمل قيادات نافذة في النظام السياسي الإيراني على رأسهم الرئيس المنتخب، فمع من سوف توقّع الولايات المتحدة وثيقة إحياء الاتفاق النووي؟!
والقضية الثانية، الكلام بشأنها يتجاوز موضوع التفاوض، الذي هو إحياء الاتفاق النووي بكل التزاماته دون إضافة عليه، كما أنه يستجيب للضغوط الإسرائيلية بذريعة تهديد أمنها رغم ما تحوزه من ترسانات سلاح.
من منظور إيراني، فالمشروع الصاروخي إنجاز عسكري متقدم تراكمت خبراته ومستوياته ويردع أي اعتداء إسرائيلي محتمل، كما أنه من مقوّمات دورها الإقليمي بإمداد الحلفاء من مخزونه، وهذه مسألة تثير حساسيات مفرطة لدى أطراف عديدة بدواعٍ مختلفة!
مما يسهل تجاوز الألغام الماثلة قدر الإرادة السياسية المتوفرة.
الأميركيون يطلبون طي أزمة الاتفاق النووي وتداعياتها السلبية على العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، التي تسببت فيها سياسات الرئيس السابق «دونالد ترامب».
والإيرانيون يطلبون رفع العقوبات المنهكة وتحسين الأحوال الاقتصادية لمواطنيهم دون تنازل يتجاوز الصيغة الأصلية للاتفاق النووي، الذي أُبرم عندما كان الرئيس الحالي «جو بايدن» نائباً للرئيس عام (2015).
تلك مقدمات مشهد إقليمي جديد، لكنها ليست صلبه.
ما يحدث بعده أخطر وأهم، فهو يؤسس لانقلاب إقليمي كامل.
العنوان الأول للانقلاب الوشيك: العلاقات الإيرانية السعودية.
بالتوازي مع «مباحثات فيينا» جرت مباحثات سعودية إيرانية في سلطنة عُمان لحلحلة الأزمات المتراكمة بين البلدين.
لم تكن أول مرة تجري فيها مثل هذه المباحثات، لكنها أكثرها دخولاً في الموضوع.
من المستلفت أن سلطنة عُمان لعبت دوراً مماثلاً بين الولايات المتحدة وإيران تمهيداً للاتفاق النووي.
عندما وُقّع ذلك الاتفاق تبادل الرئيس الأميركي في ذلك الوقت «باراك أوباما» حديثاً هاتفياً مع الرئيس الإيراني «حسن روحاني».
هذه المرة، لن يحدث مثل هذا الاتصال بين الرئيسين «جو بايدن» و»إبراهيم رئيسي»، حسبما أشار الأخير في مؤتمره الصحافي الأول، غير أن كل شيء في السياسة الدولية قابل للمراجعة وفق المصالح والضرورات المتغيرة.
باليقين فإن اللاعب الأميركي حاضر في مباحثات عُمان بالمتابعة والتخطيط لما بعد إحياء الاتفاق النووي.
ثمة ضغوط أميركية على مركز صنع القرار في السعودية لتخفيض التوتر مع طهران تحسباً لانسحاب متوقع لقواتها من أغلب تمركزاتها في الشرق الأوسط.
بدورها تترقّب الرياض مجريات مباحثات فيينا لضبط بوصلة حركتها في المستقبل المنظور.
إذا ما أخفقت تلك المباحثات في التوصل إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي، فلن تتحرك مباحثات عُمان خطوة واحدة إلى الأمام.
بصورة أو أخرى، السعودية في حالة انتظار لتعرف موضع خطوتها المقبلة.
على نحو مختلف فإن طهران تطلب عودة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية الآن وفوراً، بغض النظر عن مصير مباحثات فيينا.
وزير الخارجية «محمد جواد ظريف» أعلن استعداد بلاده لإرسال سفير للرياض في اليوم التالي شرط استعداد الطرف الآخر لهذه الخطوة... والرئيس المنتخب أكد المعنى نفسه.
تلك التصريحات أقرب إلى رسائل اختبار للنوايا والمواقف والسياسات بالقرب من انقلاب إقليمي وشيك يرادف إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران الثرية بمخزونها النفطي. بحسب معلومات مؤكدة فإن طهران تطرق الأبواب المصرية كلما كانت هناك فرصة دون أن تكون هناك استجابة في العلن الدبلوماسي تلبي دعوات الحوار وطي صفحة الماضي.
هناك قنوات اتصال أخرى تشمل «الحوثيين» دون أن يكون الأمر معلناً بالنظر إلى حساسية الخليج من مثل هذا الاقتراب.
رغم أن دول الخليج تربطها علاقات دبلوماسية كاملة مع طهران بعد إطاحة الشاه «محمد رضا بهلوي» فإنها تفضل ألا تكون للقاهرة علاقات مماثلة.
في أوقات سابقة حول عام (2015) كان التقدير العام في القاهرة عند مركز صنع القرار أن الحديث مع إيران ضروري لكن «هذا ليس وقته».
الفرصة الآن سانحة، إذا كان السعوديون يفتحون حواراً شبه معلن مع الإيرانيين فليس هناك ما يمنع مصر من أن تفتح في العلن الدبلوماسي مثل هذه الحوارات.
إذا لم تتحرك مصر الآن وتزيح الحواجز وتعلن عن حضورها الإقليمي وتتحدث مع الأطراف الرئيسية الأخرى، فما معنى أي تحرك تالٍ.
الدول تكتسب هيبتها وقوتها من قدرتها على المبادرة وامتلاك عناصر القوة باتساع مفهومها.
رفع منسوب الدور الإقليمي المصري يساعد دون شك في إدارة أزمة السد الإثيوبي، التي تعترض وجودها نفسه.
طلب التوازن الإقليمي طبيعي ومشروع ويحقق المصالح المصرية، كما الخليجية.
أحد محفزات السياسة الخارجية السعودية للحديث مع إيران العمل على وقف نزيف التورط في الأزمة اليمنية بتفاهمات دولية وإقليمية.
الإيرانيون يطلبون طي صفحة الخلاف مع السعودية وعيونهم على مصر لأسباب استراتيجية بالنظر إلى ثقلها التاريخي والجغرافي في محيطها.
لا بد أن تدرك القاهرة أنها تتمتع بقبول الأطراف اليمنية أكثر من أي طرف إقليمي آخر، وهذا يعود للدور الذي لعبته في الخروج باليمن من ظلمات القرون الوسطى إلى مشارف العصور الحديثة وأن تتحرك وتحاور على هذا الأساس بما يضمن لليمن وحدة أراضيه وسلامة شعبه وإعادة بناء دولته.
إنهاء الأزمة اليمنية مسألة أمن قومي مصري بالنظر إلى دور باب المندب في استراتيجية البحر الأحمر.
بذات القدر فإن الأمن القومي المصري في كل حساب استراتيجي يستدعي إنهاء الأزمة السورية.
بالنسبة إلى إيران، سوريا مسألة حياة أو موت تفوق في أهميتها الاستراتيجية مستقبل المشروع النووي نفسه.
الحديث مع إيران حول أية تسوية مقترحة للأزمة السورية بقدر أدوارها على مسارحها مسألة لا يصح أن تغيب تحت أي ظرف بما يضمن وحدة التراب السوري وسلامة الدولة نفسها من أي تفكيك محتمل.
للحديث مع إيران ضروراته، رغم أية تحفظات طبيعية ومشروعة، فهي إحدى الكتل الرئيسية في الإقليم مثل مصر وتركيا.
هناك فارق جوهري بين ما هو راسخ في حقائق التاريخ والجغرافيا وما هو عابر بالاستيطان والسلاح كإسرائيل.
على مدى سنوات طويلة دعوت دون توقف إلى الحديث مع إيران للبحث عن المشتركات الممكنة وكيفية حلحلة الأزمات الماثلة، والعمل في الوقت نفسه على تخفيض التوتر مع تركيا بقدر ما هو ممكن ومتاح.
هذه حسابات مصالح استراتيجية آنَ وقت المبادرة فيها.

* كاتب وصحافي مصري