لا يزال الحديث هنا عن كتابيْن جديديْن صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». وكتاب برينان المشغول بعناية وأناة يفتح الحديث مجدّداً عن إرث سعيد الغني. وكتب سعيد لا تزال رائجة كما كانت في حياته، إن لم تصبح أكثر لكثرة النقاش حولها ولأنها تصبّ في صلب النقاش الجاري في الغرب عن إعادة النظر في المنهج التعليمي من أجل تشجيبه من رواسب العنصريّة والتعصّب الديني. وكتاب «الاستشراق»، من دون مبالغة، مُستعملٌ اليوم في كل جامعة أميركيّة وفي أكثر من صفّ أو قسم. (إن تأثير جبران خليل جبران ـــ على سبيل المقارنة الاعتباطيّة ــــ على الثقافة والأكاديميّة الأميركيّة متخيلٌ بالكامل وهو من حياكة أقلام كتّاب جريدة «النهار» ونظريّات سعيد عقل (الذي، مثل الكنيسة، عادى جبران في بداياته قبل أن يتبنّاه بعد تحويله إلى أيقونة فينيقيّة طائفيّة. لا يمكن أن تجد كتاباً واحداً لجبران مقرّراً في أي جامعة، لا في قسم اللغة ولا في قسم تفسير الأحلام). وإعادة اكتشاف سعيد، أو الغوص في إرثه، يرفع من مرتبة سعيد. وهناك كتب وأطروحات عنه قيد الإعداد، وكتب أخرى في طريق النشر. ويتزامن كل ذلك مع تبنٍّ ثقافي عربي (باحتضان من أنظمة النفط) لمعاداة سعيد وللدفاع عن الاستشراق الغربي.
إدوار سعيد

والاستشراق الغربي باتَ مُعتنقاً إلى درجة كبيرة في الثقافة العربيّة: والليبرالية العربيّة ثابتة في ذمّها لإدوار سعيد وفي حماية الإرث السياسي للمستشرقين. الثقافة العربيّة السائدة باتت تحتفل بنقد صادق جلال العظم لإدوار سعيد أكثر من نقد سعيد للاستشراق. والطريف أن العرب في الصحافة السائدة يدلّلون على خطأ سعيد عبر الاستشهاد بمستشرقين في نقد سعيد. لكن نحن في زمن باتت فيه مجلة «المجلّة» السعوديّة (والتي كتب فيها إدوار سعيد في مرحلة) تنشر موضوع غلاف ضد إدوار سعيد وتستكتب الكاتب اليميني الصهيوني، جاشوا مورافتشك لذمّ سعيد. مشروع سعيد يبدو اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أكثر جذريّة مما صدر في زمانه لأنه استكشف دور الفكر الغربي السائد في دعم مشاريع الحروب في مناطقنا. كما أن سعيد ربط بين تاريخ الاستعمار وبين الفكر الذي روّج له الاستعمار.
لكنّ الثقافة السياسية والإعلاميّة السائدة اليوم تريد إنعاش ذاكرة الاستعمار (ها هي صحيفة «الشرق الأوسط»، تنشر في حلقات كتاباً جديداً ـــ مُكرَّراً ـــ لحازم صاغية وفيه ذمّ جمال عبد الناصر، الذي مات قبل أكثر من خمسين عاماً. أي أن صاغية لم يجد استبداداً حوله في العالم العربي اليوم إلا استبداد جمال عبد الناصر واستبداد الأنظمة التي تعادي آل سعود ـــ إنها الليبرالية العربيّة، يا صديقي وصديقتي). هناك مواقع وصفحات مُفردة فقط لإعادة كتابة تاريخ الاستعمار من أجل ربط ذاكرة مغلوطة بوعود مشروع الغرب الحربي في بلادنا. في لبنان، طالب البعض (أمام الإعلام العربي والعالمي) ماكرون بعودة الانتداب إلى لبنان. هؤلاء لا يعلمون كيف كانت التراتبية الطبقيّة والطائفيّة في عهد الانتداب، وكيف كان المُستعمر يولّي مصلحة الاستعمار على أي مصلحة أخرى. ومن أشنع ما لدينا من قوانين سارية في التقييد والحظر (الجنسي والسياسي وغيره) ليست إلا من موروث قوانين المستعمِر. حتى في فلسطين المحتلّة، فإن القانون الذي يستعين المحتلّ به في احتلاله هو من موروث قانون الانتداب البريطاني. وكتاب روبرت إروين، «المعرفة الخطرة: الاستشراق والمعترضون عليه» سيصبح الردّ العربي المُعتمد على نقد سعيد، وقد أفردت له جريدة «الرياض» مراجعة مُتعاطفة.
في صف التدريس، كان إدوار سعيد، كما يروي برينان، محافظاً، أي أنه لم يكن يؤمن بحق الطلاب في تعطيل الصفوف لأسباب التظاهر السياسي. ويروي أن سعيد دعا ذات مرّة شرطة الجامعة عندما دخل طلاب ثائرون إلى صفّه. وسلوك الأستاذ في الصف عرضة لمزاج الأستاذ ولموقفه من التعليم. قد أكون مُحافظاً لأنني لا آخذ مهنة التعليم على أنها مهمة للتلقين ضد إرادة الطلاب، أو أنها جزء من نضال الحزب الديمقراطي الأميركي، كما يراها الكثير من الزملاء التقدميّين هنا. وفصلَ سعيد بين دوره كمثقّف عام وبين دوره كأستاذ في داخل الصف. والتلقين السياسي المُباشر مُهين للطلاب ولعقولهم. يستطيع الأستاذ أن يؤثّر وأن يوجّه لكن من دون المباشرة، أو تسخير الصف لغرض الدعاية السياسية. والمهمّة سهلة هنا عندما لا تكون منحازاً أبداً لأي من الحزبيْن اللذين يتداولان السلطة.
وترد في الكتاب قصّة الأكاديمي الفلسطيني، حنّا ميخائيل (اسمه الحركة في حركة «فتح» كان «أبو عمر»). هذا درس مع سعيد في جامعة هارفرد لكنه ـــ خلافاً لنا كلّنا ـــ نبذَ التعليم الجامعي، أو هو فضّلَ عليه العمل السياسي المباشر (هناك كتاب جديد عنه من إعداد جهان حلو، بعنوان «غُيِّب فازداد حضوراً»). ترك ميخائيل أميركا وأصبح ناطقاً باسم «فتح» يجول في الغرب للدفاع عن وجهة النظر الفلسطينيّة. وميخائيل لم يؤسس للجنة الإعلام المركزي في حركة «فتح» فقط، بل زاوج بين العمل النظري وبين الممارسة العسكريّة، إذ هو تلقّى دورة تدريبيّة طويلة في فيتنام. وكان من ضمن مجموعة تختطّ مساراً يساريّاً ماركسيّاً في داخل «فتح» وشكّل مع رفاق له حالة ثوريّة في داخل حركة لم يردْها عرفات أن تكون ثوريّة. (كان إدوار سعيد شديد الإعجاب ـــ لا بل الانبهار ـــ بالتجارب العسكريّة، الحقيقيّة والخياليّة، لمثقّفين لبنانيّين ويساريّين. وكان بعض هؤلاء يبالغون في وصف تجاربهم لإبهار سعيد). ويروي برينان عن ظروف وفاة أبو عمر: «وبحلول عام 1976، كان ميخائيل قد تُوفي، ضحية لاغتيال في ظروف غير معروفة». لكن الظروف معروفة، لأن القوى الانعزاليّة ـــ مع حليفتها إسرائيل ـــ كانت تسيطر على الطريق البحري بين بيروت إلى طرابلس (كان «أبو عمر» مع رفاقه في رحلة في البحر من بيروت إلى طرابلس). ليس من لغز في ظروف الوفاة، إلا إذا كان برينان ينقل نظريّات لمعارفه في بيروت وهي تختار ـــ لسبب ما ـــ أن تبرّئ إسرائيل وأتباعها من المسؤوليّة.
وينقل برينان من رسالة كتبها سعيد (وحصل برينان على رسائل سعيد الخاصّة) كتبها من بيروت في عام 1972، عندما أمضى عاماً دراسيّاً في المدينة. ويصف سعيد بيروت في ذلك الحين ويصف التناقضات فيها والنزاعات، لكن الغريب أنه يرى في ذلك الوقت ـــ وفي عزّ صعود اليسار اللبناني ـــ أن أوصاف اليمين واليسار لا تسري على الحالة السياسيّة. لكنّ تصنيف اليسار واليمين يسري دائماً، بالرغم من هامشية اليسار في مرحلة ما. ومقولة أن تصنيف اليسار واليمين لا تسري باتت مقولة يفضّلها اليساريّون السابقون المنضوون في رحم حركات اليمين والرجعيّة في العالم العربي. يريد هؤلاء نسف تصنيفات اليمين واليسار لأن ذلك يضعهم في موقع مضاد لموقعهم السابق. لكنّ سعيد لم يضيّع البوصلة أبداً في نظرته إلى الصراع في لبنان. كان شديد العداء لحزب الكتائب ولآل الجميّل ولأي صلة بهم. وينقل برينان من رسالة أن سعيد وصف الحزب بالفاشية وأنه يريد كسر النقابات العمّالية وأن أمين الجميّل يرى في نفسه «شاهاً لبنانيّاً» (حافظ سعيد على عدائه لأمين الجميّل، وكان في الثمانينيات يستفظع تلك القصّة التي رواها لي أكثر من مرّة، عن أن نواف سلام ومحمد مطر زارا الجميّل في بداية عهده وطالباه بتوزيرهما بالنيابة عن جيل جديد من المسلمين، وكان سعيد يضحك وهو يروي ذلك ـــ للأمانة، نفى سلام ذلك لي عندما سألته عن الحادثة آنذاك). وأحبُّ في الفلسطينيّين (في لبنان وخارجه ـــ باستثناء طبعاً عصابة أوسلو في رام الله) أنهم في أكثرهم لم يغفروا بعد للكتائب مجازرهم وإجرامهم، فيما هبّ قادة الحركة الوطنيّة الذين رفعوا شعار «عزل الكتائب» لإصدار صكّ البراءة للكتائب والقوات اللبنانيّة بمجرّد أن تقدّمت جحافل الغزو الإسرائيلي في لبنان في عام 1982. وحتى القوى التقدميّة الحالية في لبنان، مثل الحزب الشيوعي، لا ترى غضاضة في «التنسيق» في شؤون الثورة المزعومة مع قادة الحزب الفاشي هذا.
إدوار سعيد يبدو اليوم، أكثر من أيّ يوم مضى، أكثر جذريّة مما صدر في زمانه، لأنه استكشف دور الفكر الغربي السائد في دعم مشاريع الحروب في مناطقنا


وفي العام الدراسي الذي قضاه سعيد في بيروت في فترة 1972 ـــ 1973، تعاملت إدارة الجامعة الأميركيّة في بيروت وأساتذتها مع هذا الأستاذ اللامع (حتى في ذلك الوقت) بكثير من الفظاظة والاستعلاء والتجاهل. ورفضت الجامعة عرض سعيد أن يعلّم صفاً دراسياً واحداً. وينسب برينان هذا السلوك إلى الغيرة من قبل أساتذة الجامعة (ومن المعروف أن الجامعة رفضت توظيف أحمد زويل عندما نال شهاداته). وحتى في سعيه للحصول على بطاقة مكتبة الجامعة، كانوا يضعون العقبات أمامه. ويقول سعيد عن ذلك في رسالة لزميل في مصر في عام 1972 عن الجامعة الأميركيّة في بيروت ما يلي: «أعتقد أنه مكان ضارّ ولا أملَ منه. وللحفاظ النسبي على قواي العقلية لا أريد أي صلة به. ليس هناك من أحد ـــ ولا أحد على الإطلاق، حرفياً ـــ يقوم بعمل مثير للاهتمام. وكل من هو جيّد ـــ مع أن المسكين المسنّ (كان شاباً في حينه)، حليم بركات يُعتبر معتدلاً مقارنةً بصادق جلال العظم ـــ يوضع على الرف، أو يُخصى، أو يُطرد، ودائماً بالقليل من الإنفاق». والوحيد الذي دعاه لإلقاء محاضرة في الجامعة كان شارل مالك. لكن هذه المعلومة التي ترد في الكتاب تتعارض مع ما ذكره برينان من قبل أن سعيد قطع علاقته نهائيّاً مع شارل مالك بعد عام 1967. كم كان قطع الصلة مع مالك هذا صعباً على سعيد وعلى غيره (لكنّ سعيد كان مرتبطاً بمالك بحكم الصلة العائليّة، فيما شرابي سمح لمالك في عام 1974، أن يستدعيه إلى مكتبه عندما كان أستاذاً زائراً في الجامعة، وأن يقرّعه على ماركسيّته. لماذا سكت هؤلاء على مالك خصوصاً بعد دوره الفتنوي الرجعي في عام 1958؟)
وهذه السنة في بيروت كانت مهمة لسعيد لأسباب أخرى، إذ إنه عمّق صلته باللغة العربيّة التي لم يكن يجيدها كتابة أو إلقاءً (بغير العاميّة) لكنه أجادها محادثةً وكان يفضّل الحديث بها حصراً مع العرب، مع الاستعانة ببعض المفردات التي تعصى عليه. ودرس سعيد اللغة العربية، مع أستاذ اللغات السامية الانعزالي، أنيس فريحة (وكان صديقاً لعائلته). لا نعلم ـــ أو أنا لا أعلم ولا يذكر برينان شيئاً عن ذلك ـــ إذا ما كان سعيد قد تناقش مع فريحة في آرائه حول العرب والعروبة والعربيّة. لكن سعيد ضاق ذرعاً بالدروس ووجدها «من دون جدوى». وقرأ سعيد ابن خلدون للمرة الأولى في تلك السنة في بيروت.
وكتب سعيد مقالة في مجلّة «مواقف» لأدونيس في تلك السنة. وكانت تلك أوّل مساهمة لسعيد للجمهور العربي (لكنّ المقالة حتماً كانت مترجمة عن الإنكليزيّة مع أن برينان لديه انطباع مغلوط هو أن سعيد كان يكتب باللغة العربيّة). ويضع برينان المقالة في سياق مقالات «النقد الذاتي» التي تدفّقت بعد هزيمة 1967. لكن برينان عندما يذكر كتاب صادق جلال العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، لا يذكر أنه قرأه في ترجمته الإنكليزيّة الصادرة عن دار الساقي (الرجعيّة). كما يفوت برينان أن يذكرـــ وهذه أشنع عند قرّاء الإنكليزيّة—أن فؤاد عجمي كتب مقدّمة الترجمة الإنكليزيّة للكتاب (كان العظم على علاقة وطيدة مع عجمي في سنة 1992 ـــ 1993 التي قضاها في واشنطن في «مركز ويلسون». وفؤاد عجمي روّج للعظم في كتابه «المأزق العربي»، وكان دائم الاستشهاد به). ويذكر برينان باستخفاف أن غسان كنفاني امتعضَ من موضة كتب «النقد الذاتي» واعتبرها جزءاً من «المهرجان المازوشي والتعظيم الذاتي»، ويضع المؤلف العبارة بين مزدوجين كأنها من صياغة كنفاني. لكنّ مراجعة كنفاني في «الأنوار» في عام 1968 (وهي مجموعة في كتاب «فارس فارس»، الصادر عن دار الآداب) لم تتضمّن تلك اللغة أو العبارة. كان نقد كنفاني أعمق من ذلك واستشفّ في الكتاب لغة تحقير ذاتي استشراقية ورفض التنميط التعميمي عن عقل عربي ثابت الوجود، يختلف عن عقول شعوب الأرض. ثم إن التحوّل الذي لحق بمواقف العظم عبر السنوات كان متناسقاً تماماً مع التحذير الذي أطلقه كنفاني. لكنّ هذه الإشارة إلى الكتاب في سيرة سعيد تتوافق مع هذه الموضة في وسط اليسار الأكاديمي الغربي للاستعانة بالعظم (حيّاً وميتاً) ضد سعيد وضدّ نقده للاستشراق. هؤلاء يتمنّعون أحياناً عن نقد كتاب سعيد ضد الاستشراق فيحتاجون إلى ناقد محلّي (يميني، مثل عجمي، أو يساري سابق، مثل العظم).
ومقالة سعيد في «مواقف» (وقد نُشرت في كتاب «إدوار سعيد: مقالات وحوارات»، لمحمد شاهين) تقتفي آثار لهجة التشنيع الذاتي التي أطلقها العظم بعد الهزيمة، والتي أصبح لها مريدون كثيرون، ويمكن اعتبار كتاب فؤاد عجمي الأول، «المأزق العربي»، إضافة على نمط تفكير كتاب العظم، مع إمعان في التحقير الذاتي وفي جعل النضال العربي للحرية ولفلسطين مشروعاً يائساً (ومن المعروف أن عجمي هذا انتهى في صف المحافظين الجدد في واشنطن، ونال هو وبرنارد لويس وساميْن رفيعيْن من جورج بوش نفسه تقديراً لخدماتهما في التأجيج للحرب ضد العراق، وضد كل من تشنّ أميركا الحرب عليه).
وتساءل سعيد في تلك المقالة، وبلهجة استشراقية، عن سبب غياب حس «الفعالية والتقدّم والعلم والحيويّة الثقافيّة» عند العرب (أترجم هنا عن النصّ الإنكليزي الذي استشهد به برينان). ويضيف سعيد في تشخيصه للحالة العربيّة في رسالة إلى صديق حميم له (سامي البنّا) ويقول: «المجتمع (العربي) ليست لديه ذاكرة، أو حس البعد (أو استشراف للمستقبل، وليس من قدرة للتخطيط) وليس هناك استقرار غير حالة التوازن». ويضيف أن الحركة التي تصف الفرد العربي هي دائريّة، وأن «الترداد يُظّن أنه جِدة، خصوصاً أنْ ليس هناك من حس للتقدير». وقرّر سعيد أن ليس للعرب فكرة عن صنع الثورة. ويقول: «إن الواقع لنا (نحن العرب) ليس إلا لغة». لكنه يضيف أن الحال هو كذلك في الغرب، لكنّ هناك وعياً في الغرب لذلك. لكن سعيد في الرسالة المذكورة يقترب من المنهج الاستشراقي عندما يقرّر أن العرب فقدوا لغتهم عندما أصبحت لغة الله، وأنها غير متغيّرة. طبعاً هذا التعميم لا يسري وليس هناك من يقرّ به من قراء العربيّة. ليست اللغة العربيّة في القرن الماضي كما هي يوم، حتى لغة الجرائد تغيّرت كثيراً عما كانت عليه، وتغيّر الشعر أيضاً، الذي كان من المفترض أن يكون انصياعه للعروض دليلاً على تحجّر الثقافة العربيّة وعلى تخلّف لغتهم. ومطب النتاج الرائج لـ «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، أنه وضع سياق النقد في خانة الاستشراق الغربي التقليدي، ومن هنا المفارقة أن سعيد نفسه في هذه المساهمة في مجلّة «مواقف» (التي كانت ترحّب بهذا النوع من النقد، والذي لا يزال أدونيس يحبّذه في تعميماته الخالية من العلميّة والدقّة) اعتبرَ أنه يجوز الكلام عن «عقل عربي» ـــ حتى برينان نفسه لاحظَ ذلك ولاحظ أن ذلك شبيه بنهج شارل مالك، المؤثّر على سعيد في سن مبكرة. وبهذا، فإن صادق جلال العظم نفسه ـــ وقبل سنوات من نقد كتاب سعيد عن الاستشراق ـــ أدّى خدمة جليلة للاستشراق من خلال منحه صبغة يساريّة محليّة.

هشام شرابي

ومثل هشام شرابي في الفترة نفسها، فكّر إدوار سعيد جديّاً (أعلم ذلك للمرّة الأولى) بترك جامعة كولومبيا والانضمام إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت. وبالرغم من سوء معاملة الجامعة لسعيد في تلك السنة التي قضاها مستفيداً من منحة «غوغنهايم»، أراد سعيد المشاركة السياسية في الميدان اللبناني ـــ الفلسطيني. وشرابي كان على وشك الاستقالة من جامعة جورجتاون للالتحاق بالجامعة الأميركيّة عندما اندلعت الحرب، وعاد شرابي خائباً إلى واشنطن. وأذكر في آخر لقاء لي معه في بيروت قبل وفاته بقليل، أنه قال لي عندما سألته عن تأقلمه مع العيش في لبنان: هي أسعد أيام حياتي. أتمنّى لو أنني أتيتُ إلى هنا من قبل. وتجذّر هشام شرابي وكان دائم الإطلال على محطة «المنار» وكان شديد المناصرة للمقاومة.
يقول برينان (وهو قابل أرملة سعيد، مريم) إن سعيد كان يفكر جديّاً في ترك جامعة كولومبيا في تلك السنة لولا أن مريم حثّته على الإقلاع عن الفكرة. وانطباعي عن سعيد أنه زاد عروبة وعربيّة عبر السنوات، تماماً كما يحدث للكثير من الأكاديميّين العرب (أو كان يحدث، لمن كان في ذلك الجيل). كان حنا بطاطو شديد التأثر بجمال عبد الناصر في سنواته الأخيرة، وأمرّ الآن بتجربة مشابهة من حيث الحنين للزمن الناصري. وقال لي حليم بركات رداً على سؤالي له قبل بضع سنوات: إن المرحلة الحالية هي أسوأ ما نمرّ به. لكنّ انجذاب سعيد لبيروت كان منطقيّاً: إدوار سعيد كان شديد النفور من الجو الصهيوني في نيويورك (أو في أي جامعة نخبويّة في أميركا) كما أنه كان شديد الاهتمام بتجربة المقاومة الفلسطينية آنذاك (ولا يمكن التقليل من تأثير تجربة «أبو عمر» عليه).
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@