تعقيباً على مقالة الدكتورة صفية سعادة الوارد في صحيفة «الأخبار»، «الدولة الوطنية في مواجهة دولة الطوائف» تاريخ 3 حزيران 2021، والتي نكنّ لها كل مودّة واحترام، نقول ليس الدين كمجموعة معارف واعتقادات أو قناعات معينة ترتكز في وعي الفرد والجماعة وتسير جنباً إلى جنب مع الإنسان منذ ولادته إلى مماته وتتوالد في لاوعيه ويترجمها مواقف ومشاعر متوازنة وغير متوازنة وغير مفهومة منفصلاً تماماً عن هذه الذات القلقة والمعذّبة في وجودها الحائرة في أمر دنياها وما التخبّط إلا متنفس عن مكبوتاتها أو عجزها وتمردها، لأنها لم تعثر على هويتها أو لم تصل بعد إلى علاجها ولم يرقَ بعد وعيها إلى الإجابة على إشكالاتها.سأنطلق من بدايات البحث بتجرّد قدر الإمكان، وإن كان التجرد بذاته أمراً مستصعباً ينبعث من مبدأ هو الآخر إشكالي بامتياز، كيف يمكن تخليص الذات من المؤثرات والرواسب العقيدية والثقافية والنفسية حتى تكون موضوعية أو متجردة بالكامل؟!
فلنحقّق كبريات المسائل وصولاً إلى تثبيت المشتركات التي لطالما تكون صعبة بالنظر إلى صخب الواقع وما حدث ويحدث فيه من تجارب ومواقف سياسية تختصر آلام وآمال كلّ فرد وجماعة دينية وغير دينية.
فلنتحرّر بداية من التابوهات التي تعدُّ الدين رجعياً ومتخلفاً ومقيداً لحركة فكر الإنسان وآليات تعامله مع قضايا الحياة المختلفة، ولنفصل بين الدين كدين وبين الممارسات الدينية العقيمة والوحشية والرجعية في الاعتقاد والممارسة، فإذا كان الدين مجموعة أفكار وطروحات تهدف في نهاية المطاف إلى تهذيب النفس ودفعها إلى ترجمة هذا التهذيب مزيداً من التحرر والمسوؤلية ابتغاء إيجاد قوالب وآليات سياسية تنظم طاقات الإنسان وتعمل على حفظ حقوقه وفق ميزان العدل والقسط والحكمة في التصرف، فهذا شيء ملتصق تماماً بذات الفرد ومن طبيعته الأصلية ويشترك ذلك مع كل فكرة وطرح مدني وإنساني غير معنون بالعنوان الديني.
من هنا فإن فصل الشعور الديني المؤمن بالعدل وبدولة عادلة والساعي إلى تحقيق الدولة العادلة هو تماماً كفصل الإنسان عن ذاته كما قال المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
فالدولة المدنية تعبير حضاري حر بطريق غير مباشر عن طموحات الإنسان والجماعة الحرة وعن جوهر الأديان التي تنتمي إليها الطوائف التي لا بد وأن تكون نعمة لا نقمة كما قال الإمام السيد موسى الصدر، بمعنى أن تدفع هذه الطوائف أبناءها إلى التلاقي والانفتاح والتعاون من أجل بناء مؤسسات تبني وطناً لطوائف إنسانية تغني الواقع ولا تنحره وتسهم في تدميره.
فعلينا أن ندرس المسائل بعمق ولا نعيش الرهاب والعقدة من الدين أو من غير الدين بأن نخضع كل الأمور للحوار الهادف، من أجل تذليل العقبات وإيجاد أرضية صالحة تؤسس لجيل منعتق من مقيدات التبعية والجهل التي حاول كثيرون ولا يزالون أن يربّوا أجيال الطوائف عليها بغية استمرار مواقعهم ومراكزهم، فدمّروا نعمة طوائفهم وباتت لعنة على أبنائها.
لست في هذا المقام داعياً للطائفية بالمعنى الضيق، ولكن ما أودّ قوله إنه بقدر ما تكون الطائفة مساحة تخلق فضاءات من التحرر للتلاقي والتواصل بقدر ما تكون قوة دافعة في الواقع من أجل تحقيق مؤسسات تلبي الطموحات، فليس الفهم الديني المتنوع طائفياً سوى جدلية حرة ومستنهضة لإرادات سوية تؤمن بعدالة ومساواة بين بني البشر على تنوعهم، هذه الجدلية التي تخرج علاقة الإنسان بالسماء من عنق الزجاجة وتجعلها بارزة واضحة أكثر في المشهد السياسي اليومي في المعاملات والمواقف والتنظيمات الإدارية والسياسية التي تُبرز مستوى هذه العلاقة الأرضية- السماوية التي تجعل الإيمان مظهراً للعدالة الاجتماعية والسياسية التي تتجلى فيها محبة الله التي تعني كثيراً، ولا ينبغي التعقد منها فهي مدنية وإنسانية بامتياز وليست غيبية تقبع في زنازين مخيال البعض المتوحش والرجعي.
فالعدل تحققه من خلال آليات ومؤسسات ودولة، ومهما كان عنوانها مدنياً إنسانياً، فالمهم تحقيق العدل والمساواة، عندها تذوب العناوين والشعارات وتصبح غير ذات قيمة، فمأساتنا أننا نذوب في العناوين والشعارات ونتقاتل عليها ولا ننظر إلى العدل في كلّ ذلك، حتى بتنا أناساً أكثر تعصباً وأنانية، حرقت ماضينا وأكلت حاضرنا وجعلت مستقبلنا أكثر غموضاً وظلاماً.
إن التمزق الذي نحياه هو ذاتي لأننا لم نصل إلى مصالحة حقيقية مع أنفسنا وقناعاتنا وأقحمنا مزاجياتنا وعصبياتنا الطائفية المقيتة في أدق تفاصيل الحياة


القضية كيف نربي مواطناً عادلاً وكيف نحرك العدل قيمة ونوجد له تشريعات جديدة في حياتنا في أوطان اختلطت فيها الأمور وتداخل الديني والسياسي المصلحي إلى حدّ بعيد؟!
إن التمزق الذي نحياه هو ذاتي لأننا لم نصل إلى مصالحة حقيقية مع أنفسنا وقناعاتنا وأقحمنا مزاجياتنا وعصبياتنا الطائفية المقيتة في أدق تفاصيل الحياة مما أدى إلى إرهاقها وجعلها عبئًا على الجميع .
إنّ الفهم الديني كما العلماني المدني الحُرّين المتحررين شكلان يختزنان قناعات إنسانية تريد أن تعبّر عن طموحاتها عبر خلق دولة في نهاية المطاف ترتقي إلى مستوى هذه المشاعر الحرة ونماذج العيش الكريم الذي يحفظ الحقوق والكرامات ويحمي العقول والنفوس من كل ملوثات ومقيدات.
فالأنماط المدينة للدولة هي تعبير آخر عن جلالة المعاني التشريعية للطوائف الحرة المبرزة لأصالة أديانها واعتقاداتها، فلا خلاف إذ ذاك سوى في التسميات والانتماءات التي استغرقنا بها على حساب المعاني والقيم المحركة لنا.
فالفصل فلسفياً وعملياً هو تجزئة وتشتيت وتقسيم وتعبير عن عقدة وخوف ورهاب، فيما مصالحة الإنسان مع ذاتها ومكاشفتها والتفاعل القيمي الحي مع التراث والهوية يعجّل أكثر في ولادة دولة غير طائفية بغيضة.
من السهل التنظير انطلاقاً من خلفية دينية أو علمانية للقضايا واستحضار الشواهد وحشد الزخم التاريخي وأحداثه في خدمة هذا التوجه الفكري أو ذاك، لكن الأصعب توليد رؤى وأفكار وأساليب توفيقية تصنع مشتركات وتوحّد الطاقات وتسير جنباً إلى جنب كي تخلق عدلاً مع الذات بغية ترجمته عدلاً في الموقف وصنع القرار، وصولاً إلى بناء مؤسسات ونظام دولة هو في النهاية تعبير عن معركة الإنسان اللحظوية مع وجوده كيف يشرّعه وينظمه ويحفظه ويعمل على نمائه المستمر خالقاً هوية إنسانية عالمية جامعة متحررة من ثقل الزمان وحواجز المكان.
إذا كان الغرب إلى الآن يعيش العقدة الدينية نتيجة ممارسات تاريخية معينة جعلته مندفعاً أكثر من أجل تطوير مؤسسات وأنظمة حكم فاعلة تعوض عقدة النقص والانتقام من المعاناة التاريخية، فإنّ هذه الأنظمة والسياسات وإن نجحت كثيراً في ميادين مختلفة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فإنها تخفي أيضاً وجوهاً بشعة من عنصرية واستكبارية تتجلى في تعاملها مع قضايا الشعوب المستضعفة والفقيرة، وهي لا تتورّع عن فعل أي شيء غير مشروع من أجل تثبيت سيطرتها وتفوقها وجشعها وأنانياتها.
لا يختلف الحال كثيراً عند الإسلاميين والدينيين الذين لم يثبتوا إلى الآن نضجاً كافياً في الأداء السياسي على مستوى الحكم، ولم يتصالحوا بعد مع هويتهم وتراثهم فانعكس ذلك تخبطاً ومزيداً من التمزق والانقسام، فيما غاب الوطن والوطنية وباتت الدولة مزرعة لتقاسم النفوذ وشكلاً ينفّس فيه زعماء الطوائف عن أحلامهم وعقدهم ورغباتهم.
في لبنان هذا الوطن الجريح من يا ترى يتجرأ على خلق دولة مدنية ويعمل لها بجد وإخلاص متخلّياً عن عصبيته المذهبية والطائفية. إننا نحيا ونقتات على الرهاب المانع من التحرر ونستعمله سلاحاً فعّالاً لتحشيد الأتباع وتجييش العصبيات التي تنتصر لهذه الجهة الحزبية والطائفية أو تلك. فالطائفي المتحرّر فعلاً والمدني المتحرر فعلاً هما إنسان واحد متوحّد على تراتبية منفتحة تبدأ من قيمة العدل في كل شيء، لاغية لكل الدوائر المغلقة وصولاً إلى صنع هوية وطنية إنسانية راقية في أنظمتها، تلغي كلّ قمع وتهميش واستضعاف واستقواء من الخارج، بل تطوّر نظام عيش يبني تحضراً يحمي الكفاءات والطاقات ويستثمرها في وجهتها الصحيحة، ولا يقدم جهلاً وتعصباً في ثياب تحضر كما نشاهد اليوم.
إن الشعور الطائفي البغيض المؤمن بأحجام هذه الطائفة وتلك ويفصّل الدولة على قياسه لطالما شكل عنصراً صاعقاً مفجراً لكل مسعى جدي من أجل عدالة للجميع، فخوفنا من بعضنا البعض كجماعات وطوائف لا يزال مستحكماً ومانعاً من أية فرصة حقيقة للتخلص من هذا الرهاب الطائفي المذهبي البغيض الذي يسجن الوطن بأسره ويُمعن فيه قتلاً واغتراباً.
كلّما كانت الجماعات والأفراد واعية ومتحررة كلما اقتربت من بثّ الروح في أحزاب وحركات تقتات على الحس الطائفي والمذهبي الضيقين، وكلما اقتربت من دفع الأمور نحو إيجاد قوانين انتخابية جديرة بصناعة هوية وطنية حقيقية، لا تعمّق الجراحات ولا تنظّم المخاوف وتكرّس لغة الأحجام ولغة الطوائف الكبرى وغيرها، وهذا غير واضح المعالم أقله في الفترة القادمة، لأن الطائفيين من كل المشارب لن يتخلّوا عن عقليتهم وحساباتهم بهذه السهولة، فما نشهده من معارك اليوم هو من أجل تثبيت مصالح الغد.
إنّ الشعب الذي يخاف من نفسه ومن الآخرين لن يكون له أمل في التغيير ما لم يغيّر من روحيته وذهنيته ويخرج من رهابه ويتربى على وطنية جامعة وعلى إنسانية لا تقبل التعصب، وغير ذلك سنبقى ندفع جميعناً الثمن من واقعنا مزيداً من الاندحار والتقهقر والتفجر والانهيار.
هذا النظام الطائفي البغيض هو فعلاً قاتل ومجرم ولا بد سريعاً من النظر في هذه التركيبة الطائفية المتخلّفة التي لم تعُد تنفع إلا للقائمين عليها فكفانا قهراً وظلماً!
إن إرساء دعائم الدولة الإنسانية وسمّها ما شئت من تسميات هي حلم يراود الإنسان في مشرقنا وفي أفريقيا ودول أميركا اللاتينية، وحتى في أميركا نفسها فهذه طبيعة البشر التي تسعى منذ القدم إلى من يأخذ بأيديهم ويحميهم من أنفسهم ويحفظ حقوقهم وإن اختلفت الوسائل وتعدّدت المسميات التي تتغير من زمن إلى آخر، إذ تبقى قصة الإنسان في صراعه مع ذاته وقلقه، وكيف يقضي على توحشه وينتقل إلى تحضرٍ لطالما خشي منه.
* أكاديمي وحوزوي