من أسباب عدم قدرة العقل اللبناني على فهم السياسة في نظام مدني بمفهوم الحرية للجميع خارج الانتماء الديني الطائفي، هو الخضوع لعقدة الإحساس بالذنب. هذه العقدة التي تولد الكبت أو الانكماش الذهني مقابل الجرأة في عدم لجم العقل والوعي بالبحث عن انطلاقه إلى آفاق عقلية تكشف له آفاق توسّعه. وذلك في فهم حقوقه والإمكانات الهائلة التي وضعته فيها وأهّلته لها عملية الخلق من الله بتوكيله ومنحه القدرات الكافية، بأن اذهب، تكاثر وحصِّل ما استطعت من الازدهار. والازدهار هنا لا يعني المادي منه فقط، بل الفكري والتوسع المعرفي والمعنوي والاكتشاف للطاقات الهائلة المتوفرة له بلا محدودية في الكون في كلّ حقول المعرفة، من أجل إِغناء حياته بكلِّ الوسائل العلمية والمعرفية والفلسفية وغيرها، في غاية الله له للارتقاء بالإنسان إلى أعلى مرتبات التقدم والرقي. حيث يستطيع بعد التحرر من الذنب، رسم طريقة قيادَته لحياته وللآخرين وتقرير واختيار مصيره الذاتي ومن ثم في بناء دولته من دون أي إحساس بالنقص الناتج عن الإحساس غير الواعي بالذنب والمكبوت داخلياً لكن يتجسد في الضغط على الآخرين والنفس بعدم التقدُّم. الحاجز الذي يقف بين الإنسان والدولة المدنية العصرية في لبنان، أو بشكل أدق، أولئك الذين أسَّسُوا لبنان، هو "الكسل" أو التهرب أو التفرّد عن طريق التملّك الأناني المعقّد للاستفراد بقرار التفكير، " وُجِد لهم وحدهم" ، من ضنى الجهد الفكري لبذل الجهد، أو وعدم بذل الجهد الكافي خلال نموهم ومحاولة وصولهم إلى النضج الفلسفي. هذا الجهد الذي لو بُذِل، لقاد إلى أو شكّل النضج السياسي، أي فهم الرابط بين الله وسعة مداركه وغايته للإنسان عند خلقه له، والإنسان في موقع القيادة. هناك ما يقال إن الله يسهل اختيار القادة في الدول المُدرِكة لدوره في حماية مصيرها، لكي يساعد هذه القيادة في إيصال هذا الإنسان، كون المؤسس للدستور والمنوط لاحقاً بإدارة الدستور، هو الوسيط، في ترجمة طموحات الله للإنسان لتحقيق ذاته وغايته التي يريدها له، من خلال نُظُم سياسية تساعد الإنسان العادي في عقدٍ اجتماعيٍّ يُنَظِّمُهُ القياديُّ في موقع القيادة السياسية في الوصول إلى حقوقه التي مُنِحَت لَهُ في عملية الخلق. خلقٌ يُبنى مفهومه على الأساس السليم وليس المبتور، الذي يتمسك بالاقتناع بأن الناس خُلقوا جميعاً متساوين، وله مطلق الحرية، ضمن القانون لتحقيق غاية الله له في التكاثر والازدهار. لجأ من أَسَّسوا النظام اللبناني ووضعوا الدستور، إلى الهروب من الفَرض "المُتعِب" في توظيف العقل لفهم القصد من الخلق والدَّور، الرابط، الموكول إليهم ليلعبوا دور الوسيط الصالح بين الله والإنسان، وترجمة إرادة الله للإنسان في وضع دستور عادل على أُسس الحقوق الممنوحة للإنسان وغير القابلة للنقض، أو التصرّف أو الجدل، منذ عملية الخلق، كالحق في حرية الوجود والحياة والتفكير والاختيار والضمير، والتعبير والرقي والتقدم، ووهبه هذه الحقوق في دستور يكفل له التمتع بكل هذه الحقوق في إطار مدني يخضع لسلطة الله والقانون المحدد إطاره في الدستور في حماية الحياة والحرية والوصول إلى السعادة، وغير قابلة للتدخل من أي سلطة أخرى بما فيها الدين نفسه، لكي لا نقول الطائفة.
التغيير يبدأ بإيجاد الجهة الصّالحة المخوّلة لوضع هكذا دستور يحقق وظيفة الرّابط بين الله والإنسان ويعطيه هذه الحقوق غير القابلة للجدل أو النقاش لأن الذي منحها يمثل أعلى السلطات، الله له المجد بكل عظمته، فمن هو القادر على النقاش وإيجاد حل أفضل مما اختاره هو للإنسان من خلال هذه الحقوق؟
إن الطبقة السياسية، استفادت من الخلل الذي ارتكبه مؤسِّسو النظام اللبناني وواضعو دستوره، وبِحُكْمِ لمْسِهِم لِسُلطتهم الممنوحة لهم مِن خلال مدخلِ طَوائفهم المتجذرة في مفهوم واضعي الدستور، نصّبُوا أنفسهم آلهة وبَرْمجوا الإنسان العادي على عِبَادَتِهِم والتوسل إليهم في الحصول على حقوقهم حتى غير الخاضعة للجدل، بالإضافة إلى كل ما يليها، وأصبحوا وسطاء، لهم نسبة ربح من مدخول الإنسان العادي لقاء "الخدمات التي استغلها المؤسسون ومن تلاهم من "مدراء" الدستور لتتحكم "بالشعبية" الانتخابية والتحكم بمركز الحكم أو المركز السياسي"، إذا لم تكن نسبة الربح مادية، أصبحت استمرارية في الحكم من خلال بناء علاقة تبادل الولاء مقابل الخدمة وربط وجوب إعادة الانتخاب باستمرارية الخدمة. هؤلاء لم يستعملوا ما أعطاهم الدستور من فسحة في الوصول إلى مراكزهم، كآلهة منزّهين عن الأنانية ناهيك عن لا أنانية الله، إنما جُبِلَت أنانيتهم، بما لا يقل عن أنانية وغرور نمرود وحتى طمع قايين في روايات الكتب السماوية، ونصبوا أنفسهم مُطلَقِي الصلاحيات في استعباد أبناء طوائفهم بالمباشر، وباقي أفراد الطوائف بغير المباشر. هناك قول يقول السلطة المطلقة، تُفْسِد في المُطلَق. الحكام في لبنان لم يعودوا آلهة حتى بالمعنى الإغريقي لمفهوم الإله، ڤينوس، زوس، أو جوپيتير، وما شاكل، إنما بطبيعة ما يجري بشكل علني وغير مبهم بعد الآن، قدرتهم على التناحر في ما بينهم ولا مردوعية التهالك للاستئثار بما استطاعت اليد الوصول إليه، أصبحوا أصناماً صماً، بكماً، عمياً، لا يريدون ولا يقوون، ولا يشاؤون الاستجابة إلى "صلاة" أو حتى تقديم الأضاحي، من "رعاياهم" ناهيك عن كلمة مواطنيهم، في تأدية أبسط واجباتهم، في "خدمة" حتى محازبيهم، وحماية حياتهم، حريتهم أو وصولهم إلى الرفاه والسعادة، إذا أردنا العودة إلى هذا المثال في صياغة الدساتير والحقوق. إنما يعيدونك إلى الاعتقاد بأنهم كالمؤسِّسين، يؤْثِرون عدم بَذْل الجُهد الكافي، لكي لا نقول "الكسل" في التفكير في طرق الخروج من الأزمة المتشعّبة، وتعقيداتها، ويُؤْثِرون وضع الحَطَب في الآتون ومراكمته وصولاً إلى إشعال عود الثقاب، من دون النظر إلى الخلف. كيف لا وهم في غالبيتهم خريجو مدارس بعض الأحزاب التي أوصلتهم إلى تولي مراكز أمراء الحرب. إذ قد اعتادوا على أوراق اعتماد بعضهم، والشيطان الذي تعرفه، أفضل من الملاك الذي لا تعرفه، برأيهم، فالأفضل أن يبقوا سوياً، بعد أن كانوا يتقاتلون أيام الحرب الأهليّة. والخطة المتفق عليها، والأسهل، أَبقُوهُم فُقراء، أَبقوهم جَهَلَة، عن رعاياهم، لكي يَسْهُلَ لهم قِيادهُم. فلماذا التعب في البحث عن الملائكة والعودة إلى الإصلاح ووضع دستور ملائكي يحقق غاية الله للإنسان في حماية الحياة والحرية والوصول إلى السعادة. أليس هذا متعباً؟! هذا عمل متعب! الوصول السهل خير من التعب والاجتهاد في إعداد النفس والتعب على بنائها من خلال مؤسسة المدرسة والثقافة المسؤولة المتزنة التي تراعي وجود الآخرين. الوصول السهل من خلال كسر القانون واستعمال القوة في التقدم، وليس مقياس المثابرة في إعداد النفس وتربيتها على الفضائل والتنافس الحر. هذا الكسل الفكري، والذهني، من كثرة الاعتياد على نمط ما يشبه لعب التلامذة خارج الصفوف، وغياب المدير المنظم ذي الشخصية القوية والرَّهبة المصاحبة لها التي تزرع المثول للقيم الصادقة مع النفس والله والإنسان الآخر. اعتادوا اللهو والتلهي في ما بينهم وَنَسُوا واجِبَاتهم، تجاه أنفسهم، وأهلهم ووطنهم، وفضّلوا اللهو والفشل والرسوب والسقوط والتمتع والاعتداد به من دون نظرة رقابة ذاتية على أنفسهم، بعد أن قطعوا حبل الحياء. تراهم الآن ينتظرون أستاذاً من خارج البلد، غريباً، ليأخذوا منه الإذن أو "النصيحة" في ما يجب أن يفعلوا لينقذوا "أنفسهم" أو "بلدهم" ! فضّلوا إطفاء نور عقلهم، واختبأوا خلف أصابعهم، بأن الخطأ في الدستور وليس فيهم وأن ليسوا هم من صنعه. إن على الإنسان فقط أن يكون جامداً غير متحرّك بدل أن يكون مرِناً يتفاعل مع الطبيعة وعلومها، ليطوّعها لإرادته من أجل تطوير نفسه وحياته. يختارون من الطبيعة ما يناسبهم، وهو أقرب إلى ممارسات الكائنات الحية من المرتبات الدنيا غير البشرية. البقاء واستفراد الآخرين، والتزعم عليهم لغايات شخصية، والبقاء في مستنقع العصبية والغرائز. لم يقل الدين ذلك. الأديان جميعها تنادي بالكَدِّ من أجل حياة أفضل، والتقدم والرقيّ بها إلى مصاف الألوهة، إذ ما معنى "أنّا خلقنا الإنسان على صورتنا ومِثالِنَا " الله لا يدعو إلى الغريزة والقتل ! بل من أهم الوصايا العشر، «لا تقتل، ولا تشتهي ملك جارك». لو قُدِّر لفرويد أن يخترق ضميرهم بنظرته الحادة لأدركوا كم يشبهون الأطفال المشاكسين الذين ينتظرون ليدير الأستاذ ظهره لكي يشاكسوا، وبنظرة حادة يعيدهم إلى الخجل. هل من فرويد يستطيع إثارة الخجل فيهم بعد أن وصلت المشاكسة إلى حدودها الخطرة الآن في التمثل بالشيطان بلا اكتراثيّته بتوبيخ الله، وطرده من النعيم إلى جهنم، ومباهاته، بعدم الاكتراث حتى بالرقص على حافة الهاوية. ألم يبقَ بعض الحياء والخجل من الفشل؟

على من بقي في هذا الوطن المتروك لمصيره، ممن يرون ببصيرتهم الصادقة ولكن الحكيمة في التعامل مع هكذا حالة مرضية أن يعملوا على تحريك موضوع تطوير الدستور وسدّ الثغرات العديدة التي أوصلت البلد إلى أيدي هكذا طبقة سياسية. فأمير الحرب، يُخْضِع مدير المدرسة "الدستور والقضاء والقانون في حالتنا" إلى سلطة "مسدسه؛ ميليشيته" فلا يعود المدير مديراً، ذا سلطة. في الواقع تقفَل المدرسة، أي مؤسسة الدولة، ولا يعود هناك حاجة، برأي "الأمير" إلى الدرس والثقافة، فهو المثَقَّف والمُثَقِّف، وأنتم "رعاياي" ايمتى شئتم آتوا إلي وأنا اثقفكم، ولا حاجة لكم للتفكير حتى، أنا أفكر عنكم، وأجد الحلول التي تناسبني لكم. لا حاجة ان تتعبوا في التفكير في مستقبلكم ولا حتى مستقبل أولادكم.

أَين قانون كُن نفسك؟! أين قانون ديكارت، أنا افكر إذاً أنا موجود ؟! أين قانون شيكسپير، أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة ؟! عصر النهضة ودعائه للإنسان لاكتشاف الحقوق الممنوحة له من الله عند خلقه وقبل عصيانه نتيجة السقطة الأولى؟! وبأنه صاحب القرار في اختيار وعيش مصيره وله كامل الحريات التي تعطيه احترامه ككيان حر في التفكير والاعتقاد والتعبير والاجتماع في ظل قوانين تكفل له الحرية في اختيار نهج وطريقة وعيش ما يعتقد بأنه يوصله إلى المعرفة وفهم أسرار الحياة والحصول على الحكمة وتحقيق نفسه كإنسان كامل، والسماح للآخر بالتمتع بالحقوق نفسها، وليس مأخوذاً كرهينة لتأمين المستقبل السياسي لزعيمه ! فيصبح كالزومبي مسلوب الإرادة والقرار، وعقله وقلبه بل روحه في يد زعيمه ! لماذا ممنوع على من هو أهل لتبني قوانين الملائكة المنزّهين، من الوصول إلى المراكز السياسية لخدمة الجميع وليس فقط الأزلام والأتباع والرعايا، وحتى الأزلام هم دمى في يد المستزلِم ؟!

العودة إلى الملائكية! من أفسد الإنسان وأوقعه في حفرة الفساد؟! الشيطان؟! مَن وكلاء الشيطان الآن الممسكون بزمام الأمور، ولا يريدون تولية الملائكة!؟ تبرز الحاجة الآن من قبل كل من لا يزال يملك صورة مدير المدرسة صاحب الشخصية القوية، من الاجتماع على فكرة "البدء في التفكير" مجدداً للوصول إلى المخرج من الموت المحتوم في ظل هكذا طغمة. العودة إلى الدستور ! ولو كان في سبات عميق حتى الكوما. لجنة أطباء في مستشفى تجتمع لتشكل فريقاً يعيد إحياء مريض دخل تلك الكوما. في دستورنا النائم نوماً عميقاً عن كل الحريات التي وهبها الله لخلقه، ويتغطّون بالطائفية التي غدت كالأصنام في عبادتها، التي حرّم الله عبادتها. لم تعد تأتي بالنفع إلا لمروّجيها ومهرّجيها. لنبدأ من الحالة التي كان فيها آدم قبل السقوط ! ونُسْقِط الذنب، ومن هو الذي لا يخطئ؟! وجُلّ من لا يخطئ. كلنا متساوون في الحقوق والواجبات ليس في الكلام بل في النص والدستور. لِتُلغَ الطائفية. لماذا يحق للزعيم مصادرة حقوق رعاياه جميعهم، والاستئثار بحقوقهم المشروحة أعلاه جميعها له لوحده؟! فلتُلغَ الطائفية وليبقَ الحق في العبادة أحد أعمدة الحقوق غير القابلة للتصرف، أو النقض، أو الجدل، مع حفظ حق الآخر في العبادة أيضاً من دون الفصل بين الله والإنسان الذي أعطي حق الاتصال مباشرة بالله، عن طريق "ونفخنا في أنفه من روحنا" أي روح الله. بذلك أعطى الله آدم، وذريته، الحق في الوصول إلى الألوهية، إذا ما تنزّه عن الخطيئة وأسقط الذنب، ويصبِح حقاً وواجباً عليه التقدم والتطوير اللانهائي لحياتِه، ويُصبح خطيئةً تلكّؤه عن هذا الواجب، ووجب الثواب أو استحق العقاب.

لحسن الحظ هناك من أسس للجنة "أطباء" توفِّر هذه الحاجة القانونية، ليصمت الخبيثون. إنها المادة ٩٥ من الدستور الحالي. لا بد من سلوك هذا الطريق لإصلاحٍ شاملٍ معمّق، وتصحيح الخلل في دستور عفا عليه الزمن، ١٩٢٠ - ٢٠٢١. مئة عام ونيف ولم يُمس حرف لتغيير حرف واحد في روح هذا الدستور الذي صار مِسخاً. إنسان عادي وسليم الجسد والعقل، لكان فارق الحياة منذ زمن بعيد فكيف بحفنة أوراق جُمِعت على عجل لا تصلح لقيادة عربة يجرها بعيران.

إلى كل المثقفين المحافظين على صورة مدير المدرسة صاحب الشخصية القوية والضابط لقوانين المناقب والأخلاق والقيم الصادقة والرفيعة، أَلا هبُّوا إلى ملاقاة بعضكم وانفضوا الغبار عن كتبكم ومجلداتكم، وهلمّوا لكتابة دستور جديد يبدأ مرتكزاً إلى المادة ٩٥ من الدستور الحالي. واطردوا الكسل والإحساس بالذنب، الذي يكبِّل الجميع الآن، الذي تذرّع به المؤسسون لكي لا يقوموا بدور كان مطلوباً منهم وأصبح الآن في غاية الإلحاح والحاجة إليه والعربة على حافة الهاوية ولا من يضع حجراً في طريقها لإيقافها عن الانزلاق إلى الهلاك المحتم. أسوأ من ذلك، وُضِعَت هذه المادة في أعقاب الجهود إلى إيقاف حرب مُدبّرَة، نُصِبَت كفخّ للإيقاع بهذا البلد الواعِد، فابتُلِع الطُّعم ودارت رحاها على أيدي الجيل المؤسس نفسه ليلتزمها الجيل الحالي ويبلع المثقال والصنّارة والخيط، والقصبة بعد قليل! واحد وثلاثون عاماً مرّت على وضع هذه المادة في دستور الطائف، ولا معين على تنفيذها ويوماً بعد يوم يكبر الثقب في السفينة والغرق القريب يتهددها، ولا حياة لمن تنادي. واليد المخوّلة سد الثقب تتوانى عن واجبها وتفضل كالنعامة دفن رأسها في التراب كي لا ترى، والسفينة تمتلئ ماء وشارفت على الغرق. أي سر فيك؟! يا من أوكلت تطبيق المادة ٩٥ تلك؟! ولماذا؟ ماذا ستقول الأجيال القادمة عنك إذا ما بقي بلدك وهو الآن ليس فقط إلى الغرق وإنما أيضاً في فك الثعبان.

من هنا يجِب أن يبدأ التغيير. نفض الذنب وطرده عن الإرادة الحرة الواعية لحقوقها وحريتها في اختيار قدرها كما أراده لها الله وليس الإنسان، إلا بما يمثله من وسيط في ترجمة غاية الله للإنسان الآخر وحقه في بناء حياة واعدة ومستقبل زاهر له ولأولاده. إنها خطوة أكثر من مطلوبة الآن والوطن في حاجة ماسة إليها لإيقاظه من الكوما التي هو فيها، أدخله فيها دستور لم يعد يصلح كدليل سائح في هذا العالم الغاية في التعقيد والدهاء. بعض الدساتير تتعدّى صفحاتها الآلاف، لكثرة الشروح والحالات والظروف لتسد الثغرات، وتتحسّب لكل الطوارئ، بينما نحن، دستورنا كتيب صغير من الحجم الصغير، تُرِكَت تسعون بالمئة من الحالات للتفسير بناءً على اتفاق شفهي، غير مكتوب حتى. أي دستور تكون قوانينه شفهيّة. من صلب مؤهلات ومزايا المشرّع وواضع الدساتير، عمق معرفته بطبيعة النفس البشرية، الميّالة إلى السوء، إن لم يكن الشر. إذاً لماذا التساهل في ترك أحكام الدستور عرضة لتفسير قول شفهي لم تُحدد مقاصده في قول مكتوب بتفصيل العالم في كل احتمالات الخروج عن المسارات الواقعية لكل حالة وسد الثغرات المتوقعة في احتمالات حدوثها. ذلك يحمي القرار من أن يخضع للمزاجية التي تصبح متاحة "للزعيم" في التسلح بها للوصول والتفرد بما تصل إليه يداه، ويُسَيْطَر، على الاحتمالات، والمدد، والأزمنة، وحدود تفرد الأقلية الحاكمة، بقرار الأغلبية المحكومة، ومصالح الطرفين بالقياس والمقارنة بينهما، واختيار الخيار الإكثر إفادة، والأقل ضرراً للطرفين، وتأمين استمرارية الحكم، بدل الاستِئثارِ به ووضع العراقيل. وإلا كيف يعقل أن عند كل منعطف يبدأ شد الحبال، وعض الأصابع، والمراوغة؟ أليس من آليات توضع في دساتير الدول المحترمة، لضبط هذا الدوران المفرغ، والناس ينتظرون الخلاص عند كل تفصيل وشيطان التفاصيل؟! الدساتير وُضِعَت منذ بدأها واضعوها، لحل أزمات التفاصيل. عدم توقع التفاصيل، هو الذي يُلغي الحاجة إلى الدستور، والعكس صحيح. تأليف حكومة في أحلك ظروف حكم مارس الحكم في لبنان، لا يوجد نص واضح يخرجه منها. الثلث المعطل، عدد الوزراء، التكليف، مدة التكليف، الكتلة المشكلة، من هِي الأكثرية، هل الأكثرية تؤلف وتشكِّل؟! متى وكيف؟ ما هو دور الأقلية؟ هل تقبل وكيف تحاسِب في حال نجحت الأكثرية في التأليف وكم مدى تأثيرها في إعطاء أو نزع الثقة أو الشرعية عن الحكومة، ونجاحها أو فشلها في إدارة دفة الحكم وإيصال الناس إلى حقوقهم وطموحاتهم؟! لا يُحكم قوم لهم احترام حكامهم من خلال المزاج أو الاتفاق الشفهي حيث لا وجود للمُتَّفِقِينَ بَعد أن غَيَّبَهُم المَوت وَتَغيَّرَت الأزمِنَة والظُّرُوف وتَضَاعَفَت المخَاطِر، إنما بهبة الله للإنسان التي أنعم عليه بها، وهي العقل، وهو الذي أعطي له ليستعمله ويفكر من خلاله لتدبير أمور حياته بعقلانية واتزان وسلام وصولاً إلى السعادة والرفاه، وليس العنف السياسي والتناحر الغرائزي. لِمَاذَا اختُرِعَت الكَلِمَة المكتوبَة والحَرف، وَنَحْن لِسُخْرِيَةِ القَدَر مَن يُفَاخِر بأنّ الحرف خَرج من شواطِئنا. فقط في كُتُبِ التاريخ. ماذا عن الذي يصنع التاريخ؟! ألا من حاجة إلى ذلك، أو لا منفعة خاصة من ذلك! هذه الطرق لا تصلح لعَيشِ البشر في مدن تخضع لعقد اجتماعي يفضل التعاون البناء على عنف الطبيعة خارج المدينة، ربما في عصر العيش في الغابة. ولنذكّر فقط بقول ثوماس هوبز؛ الحياة في حالة الطبيعة، تكون دنيئة، متوحشة، وقصيرة. ماذا بعد من دناءة وتوحش وقِصَر؟! مُنِع بفضل الله داعش من الإجهاز عليه، فجِئتُم تقومون أنتم بإتمام الوظيفة. ماذا بعد في محاولة تصوير إلى أي درجة بلغت اللامبالاة بدفع الحكام بالحياة إلى هذه الحدود من المجازفة فيها لكأنّها لعبة ميسر على أرواح رعاياهم. شكراً لتفهم القارئ تقبّل هذه الصورة القاتمة لما وصل إليه هذا البلد الضحية، ضحية الكسل من قِبل مؤسسيه، ومدراء دستوره بعدهم، أي حكامه الحاليين. يعجز المرء عن تخيُّل مدى اللاإحساس واللامبالاة ممّن يدعي المسؤولية ونصَّبَ وينَصِّب نفسه أو أنفسهم رعاة وخدماً لمصالح أبناء هذا الشعب.

آن الأوان لإخراج هذا البلد ذي التاريخ العريق، لكن مسلوب الإرادة لاسترداد إرادته، وإرادته في إرادة أبنائه، بدأ بحرية الفرد فيه والحقوق غير القابلة للتصرف أو الجدل أو النقض الممنوحة له من الله في آدم في عملية الخلق، أن اذهب، تكاثر وازدهر. وذلك لإخراجه من براثن الموت وأيدي كل وكلاء الموت، والشيطان المنتظر لحظة الموت. بعدها لن ينفع أي جهد إلى أن تقوم القيامة. ماذا تنتظرون؟! هلمّوا إلى عملية البناء على أسس عادلة وصحيحة، لا مكان للأوهام فيها، إنما للحقيقة كما أرادها الله للإنسان بالحقوق غير القابلة للإنكار أو الجدل، التي منحها له بعد إتمام عملية الخلق، وليس بعد تدخل الشيطان في تقرير مصيره. ويكمل وكلاء الشيطان الحاليون التدخل ليلَ نهارَ إلى الآن! لِتترك الطبيعة تعمل بنفسها، بحرية الإنسان الناضج والباحث عن نفسه كما شاءها الله له، وليس "زعيمه ". الوضع يحتاج إلى مجموعة مثقّفين تكون جزءاً أساسيّاً من لجنة بند إلغاء الطائفية السياسية المنصوص عنها في المادة ٩٥ من الدستور الحالي والتي شكّلت الجزء الأخير من التعديل الذي حصل في الطائف. أدخِلت هذه المادة لمعالجة أسباب الحرب الأهلية، وتفادي نشوب حروب لاحقة، لكنها وضِعَت على الرَّف. هل من حاجة أقصى إلى اللجوء إليها في أحلك الظروف التي نعيشها اليوم والتَّخَلِّي عن عقَد الذنب والإنكار الخطأ، والذهاب في طريق الإصلاح والبناء العصري للدولة وتحرير المواطن من سلطة الضغط الفكري إلى حرية الانطلاق إلى المعرفة والتحرر، الحق في الحياة، الحرية، والوصول إلى السعادة؟!

كُلُّ مَا يُقَال غَيْرَ ذَلِك هُوَ اسْتِمْرارٌ لِلْحَرْبِ الأَهْلِيَّةِ التِي انْتَهَت فِي عَام ١٩٨٩/ ١٩٩٠ حَرْبِيّاً، لَكِنَّهَا اسْتُؤْنِفَت بَعْدَ الحرَاك الشَّعْبِي، لَكِنْ منْ دُون تراشق مدافع أو رَصَاص، بل بالقتل الصامت والدهاء الخبيث.


* مهندس لبناني