خلال مرحلة الحصار المتدرّج ضدّ ايران، كان الرسميّون في طهران يحافظون على واجهةٍ من التفاؤل والثّقة، ويطلقون تصريحات عن قدرة الاقتصاد على التكيّف مع العقوبات، وأنّ القطاعات الأساسية ستجد بدائل محلية أو من مصادر مختلفة، ولن تعيقها الاجراءات التجارية والمالية التي سعت الى عزل اقتصاد ايران وشلّه بالكامل. في الحقيقة، فإنّ الجميع يعترف اليوم بأنّه، بغض النظر عن الثمن الباهظ للعقوبات على الاقتصاد ككل (اذ أنها رفعت كلفة الأعمال في كل المجالات، وأنقصت النمو بعدة نقاط مئوية سنوياً)، فإنّ تكيّف القطاعات الإيرانية المختلفة مع الحصار كان متفاوتاً.
في بعض الحالات، كمشاريع الغاز والبتروكيمياويات والبنى التحتية، كان هناك نجاحٌ ملحوظ في استئناف النمو بالقدرات الذاتية (وإن مع تأجيلٍ في التنفيذ وبكلفةٍ مرتفعة)؛ فقد جزم المخططون الغربيون، مثلاً، أنّ توسّع الانتاج الايراني من الغاز سيتوقّف فوراً مع خروج الشركات العالمية، وايران ليست لها خبرةٌ في استخراج الغاز من تحت الخليج وبناء المنصات البحرية، ناهيك عن المصافي والأنابيب والبنى التحتية التي كان يتولاها الأجانب تخطيطاً وتنفيذاً. الّا أنّ الشركات الايرانية تقوم، تباعاً، بتدشين مراحل من حقل "بارس الجنوبي" نفّذتها بجهودها الخاصة، وقد اكتسبت خلال هذه التجربة خبرةً وقدرات حقيقية (يروي أحد المدراء الايرانيين، في مقابلة، الصعوبات التي اكتنفها "منحنى التعلّم" هذا، من استحالة استيراد أي مادة، بما فيها الأنابيب والصمامات، بحجة أنها قابلة للاستخدام العسكري، الى الفوائد الفاحشة التي فرضتها المصارف القليلة التي واظبت على التعامل معهم، حتى أن المرحلة 12 من حقل "بارس الجنوبي" قد كلّفت ضعف ما تستلزمه بالمقاييس العالمية ــــ وما زالت ماكينةٌ ضخمة لشركته تربض على رصيف ميناء في دبي في انتظار الإذن بالتصدير).
أمّا في قطاعاتٍ أخرى، كصناعة السيارات والنقل الجوي، فقد كان تأثير العقوبات أعمق وأشدّ، ولم تتمكّن الإجراءات المحلية من منع الإنهيار في انتاج السيارات من دون شريكٍ أجنبي (فهبط انتاج كان يلامس المليوني سيارة سنوياً الى أقل من مليون)، أو إيجاد حلٍّ للأسطول الجوّي المتقادم في ظلّ احتكار مزدوج اميركي ــــ أوروبي لصناعة الطائرات المدنية (حاولت ايران، في السنوات الماضية، الدخول في شراكات مع روسيا واوكرانيا لشراء وانتاج طائرات من تصميمهم، الّا أنّها لم تشهد نجاحاً، والروس والأوكران أنفسهم كانوا يخافون ركوب الطائرات التي تصنعها بلادهم).
لهذه الأسباب، لم يكن من المستغرب أن تتمّ الصفقات الأولى لإيران ــــ وبعضها، بلا شك، تم التفاوض عليه مسبقاً ــــ في هذه القطاعات بالذات، حيث الحاجة شديدةٌ وقد تراكمت عبر سنوات الحصار. شركتا "بيجو" و"رينو" قد عادتا بالفعل الى البلد، قبل أي مؤسسة أو مصرفٍ أوروبي، وقد تضمّنت الاتفاقات التي وقّعها الرئيسي الصيني في طهران تمويلاً صينياً لتحديث خطّ طهران ــــ مشهد للقطارات وكهربته. خبر التمويل لم يكن مفاجئاً، خاصة أن الشركات المنفذة صينية، الّا أن أهمّ ما فيه كان أنّ هذا القرض يأتي ضمن مبادرة "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير"، الذي تبني الصين عبره مجالاً اقتصادياً متصلاً (عبر شبكة مواصلات، وبنى تحتية، وأنابيب نفط وغاز) يمتدّ من حدودها الى اوروبا. وهذا الإعلان يمثّل التجلي العملي الأوّل لوضع ايران في قلب هذه الخطّة.
ولكن أهمّ هذه "الصفقات الأولى"، بالمعنى التجاري، كان تسريب الصحف الغربية أن الرئيس روحاني سيوقّع، خلال زيارته الى باريس يوم الأربعاء، اتفاقاً لشراء 127 طائرة ايرباص مدنية، وقد حدّدت صحف ألمانية وسويسرية بعض طرازاتها، قائلة انها ستتضمن 8 طائرات اي ــــ 380 عملاقة (يبدأ تسليمها عام 2019)، و16 طائرة اي ــــ 350 حديثة، اضافة الى 20 من طراز اي ــــ 340 بعيدة المدى، قد تكون مستعملة أو من مخزون "ايرباص"، لأنها خرجت من الانتاج، الا أنها رخيصة وجاهزة للتسليم الفوري.
الطّيران المدني هو أحد المجالات التي تجلّت فيها وحشية العقوبات، وجوهرها الضغط على حياة الناس لاستخراج تنازل سياسي؛ فقد قُتل آلاف المدنيين الايرانيين على مرّ السنوات الماضية كنتيجة مباشرة لمنع صيانة الطائرات الايرانية أو بيع قطع الغيار، ناهيك عن الطائرات الحديثة. فأصبح الايرانيون ــــ والطيران الداخلي وسيلة أساسية للنقل في بلاد صعبة جغرافياً ــــ يخاطرون بركوب طائرات غير آمنة وأثريّة (بالمعنى الحرفي للكلمة، اذ يسافر العديد من هواة الطيران الى ايران خصيصاً لـ "تجربة" ركوب البوينغ-707 و727 والـ "جمبو" القديمة، نجوم عصر الطيران في السبعينيات)؛ بعد أن كانت ايران تملك أحد أكبر الأساطيل المدنية في المنطقة وأحدثها 1980.
عقد "ايرباص"، الذي سيخرج طائرات "بوينغ" المتبقية في ايران من الخدمة، قد يعني نهاية الشراكة القديمة بين "بوينغ" والخطوط الايرانية التي استدارت، بالكامل، صوب الصانع الأوروبي ــــ رغم أنّ قانون العقوبات الأميركي يستثني، تحديداً، صناعة الطيران من الحظر، بغية تمكين "بوينغ" من المنافسة والبقاء في السوق الايرانية الضخمة (يقال إن هناك محادثات مع "بوينغ"، الا أن الايرانيين لن يلتزموا بأي صفقة كبيرة مع شركات اميركية قبل انتخاب رئيس جديد، والتيقن من أنّه لن يكون دونالد ترامب، مثلاً، ويعلن الحرب على ايران).
بحسب مصادر ايرانية، قد يكون أمام هواة الطيران أشهر قليلة متبقية لتجربة الـ "جمبو" الكلاسيكية، التي كانت أيقونة الخطوط الايرانية لعقود وما زالت تشغّل أربعةً منها، قبل أن تستبدلها بالايرباص ــــ 340 وغيرها. بالتوازي مع رفع العقوبات، اتّخذت واشنطن اجراءاتٍ تضمن ردع أكبر عددٍ من الأوروبيين من زيارة ايران: أي مواطن اوروبي أو استرالي يسافر الى ايران ــــ او سوريا أو السودان أو العراق ــــ سيُمنع من دخول الولايات المتحدة من دون تأشيرة، كما هو المعتاد، وسيُجبر على التقدم شخصياً بطلب مسبق ودفع مئات الدولارات رسوما. لهذا السبب، قد لا تتمكن ايران من جذب ملايين السياح بسرعة وسهولة؛ ولكنّ هذه الصفقات، على الأقل، ستحمي أبناء البلد من موتٍ مجّاني ذاقوه لسنواتٍ تحت الحصار، حتى صار مجرّد الطيران الآمن ترفا.