التصدي البطولي لغزة أولاً وقواها المقاومة دائماً نجحت في تحقيق تغيير نوعي في ذات الأمة التي تكالبت عليها قوى الضد من استعمار مباشر ورث الدولة العثمانية شرقاً وربض على جسدها غرباً، بعد قرن من الصراعات تصدت فيه القوى القومية، واليسارية والإسلامية، لمشاريع الغرب التي تجلت في تقسيم الوطن العربي عبر الدويلات التي نعرف، والتي أصبحت جزءاً من المشكلة التي تعاني منها الأمة، هذه الدويلات التي استخدمت ثروات الأمة، وبوجه خاص النفط والغاز، لتكريس هذه التجزئة والدفع دائماً للحيلولة دون وحدتها وتقدمها من جهة، ودون تطور هذه الدولة القُطرية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من جهة أخرى. وذلك بعد تحالفها الاستراتيجي مع القوى الاستعمارية التي عززت من استبدادها عبر طبقة سياسية توارثت السلطة، فأفسدت الإدارة، وأعاقت التقدم في الاقتصاد، وبالنتيجة حالت دون تطورها نحو الدولة المعاصرة.الثورة الفلسطينية بانطلاقتها في النصف الثاني من القرن الماضي كرد فعل على واقع حال الأمة الذي تجلى في عدم قدرة قواها على مواجهة اغتصاب فلسطين، بعد أن مزقها الفرنسيون والبريطانيون وولّدوا الأنظمة الرسمية العربية المتحالفة مع الغرب، هذه الأنظمة التي استخدمت القضية الفلسطينية كشعار اختبأت خلفه، بما فيها التي أعلنت الكفاح المسلح لتحرير فلسطين!؟ والمنبثقة من خلفيات قومية ويسارية أو إسلامية، رغم نجاحها في المعارك المتعددة التي خاضتها ضد أعدائنا وكيانهم المسخ (إسرائيل)، في إشغال الرأي العام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، إلا أن هذه التيارات خاضت أيضاً معارك بينية بين فصائلها انعكاساً لمعارك بينية خاضتها الأنظمة الرسمية، ما أحبط كل جهودها في مواجهة تحديات كثيرة، كالحريات، والأزمات الاقتصادية والوحدة التي ستبقى حلماً عصيّاً على «التحقق» في ظل واقع الدول القطرية التي أسهمت في جعل هذا الشعار مستحيلاً!
رغم الخسائر الجسيمة التي لحقت بالأمة من جرّاء هذه السياسات التي اتبعتها الأنظمة العربية، والتي تجلت في إخراج مصر من المعركة، وبعدها العراق ثم ليبيا، إضافة الى العدوان الدولي الفاشل على سوريا، فقد كان لنجاح الثورة في إيران التي دعمت الثورة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص حماس والجهاد، أن أسهم في تجاوز محاولات الغرب تحجيم قوى المقاومة في الأمة، وكان لتعزيز تحالفها مع سوريا واستمرار دعمها لحزب الله في لبنان والمقاومة الإسلامية في غزة على وجه الخصوص وباقي فصائل الثورة الفلسطينية، الأثر الافضل في عودة المواجهة مع العدو الصهيوني على وجه العموم عبر العقدين الماضيين، رغم الخسائر المادية والبشرية التي لحقت بالأمة، إلا أن المقاومة في فلسطين التي خاضت معارك عديدة منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمن، كانت تخرج دائماً أكثر صلابة وأكثر خبرة عسكرية، حتى كانت معركتها الأخيرة، التي ولأول مرة هي من قررت إنذار العدو ومهاجمته عسكرياً وإعلامياً ونفسياً، بعد أن استباح ساحات المسجد الأقصى وحاصر ساكني حي الشيخ جراح لإخراجهم من منازلهم استكمالاً لمخطط مدروس واستمراراً لما حصل قبل ما يزيد على سبعين عاماً من قبل القوات البريطانية المتواطئة مع العصابات الصهيونية بإنشاء الكيان، الذي وضع العديد من القوانين والتشريعات والإجراءات المختلفة، التي كان هدفها تهجير الفلسطينيين من وطنهم وإحلال أكبر عدد من اليهود الروس الأوروبيين والأفارقة مكانهم استناداً إلى رواية صهيونية أنكرها علماء «إسرائيل» اليوم أنفسهم وكمخطط للاستيلاء على فلسطين، كل فلسطين.
لقد كشفت معركة سيف القدس عن بيئة فلسطينية، عربية ودولية، غير متوقعة عند الكثير من أبناء الأمة على وجه الخصوص، تتويجاً لنضال ومقاومة مستمرة قادتهما الأحزاب وقوى المقاومة العربية (الفلسطينية، اللبنانية، العراقية، اليمنية، إلخ) إضافة الى صمود الجيش العربي السوري أمام المتطرفين المسلحين الذين درّبتهم المخابرات الدولية (وعلى رأسها الـ CIA والموساد) والتي خلقت في وجدان الشباب العربي على وجه العموم ناراً متقدة، لم ينجح النظام الرسمي العربي ومليارات الدولارات الي دُعمت بها هذه الأنظمة وأنفق جزء منها لإبعاد هؤلاء الشباب عن قضيتهم العربية المركزية، فلسطين، أو إبعادهم عن مطالباتهم في الحرية، والتقدم والوحدة، والتي عبّرت عنها مجموعات شبابية فرضت حضورها القومي والوطني في أكثر من حراك أو على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة على أكثر من صعيد.
في فلسطين التي كانت تعاني من انقسام الصف، نجح الشباب في الميدان في تجاوز الانقسام الذي يعيشه السياسيون منذ عدة عقود من الزمن انعكاساً لتطور سلبي للقضية الفلسطينية، تمثل في تغيير جذري لموازين القوى عربياً وعالمياً؛ فشبابنا في الداخل والضفة، وخاصة عندما أصبحت القدس بوتقتهم، نجحوا في التصدي البطولي لقوى الكيان الصهيوني ودفعوا بقوى المقاومة المسلحة في غزة إلى إنذار الصهاينة بأن يتوقفوا عن اجتياح المسجد الأقصى، وعن ترحيل أهالي الشيخ جراح، ولما كان التجاهل من العدو لهذا الإنذار متوقعاً، كانت المعركة ونتائجها العظيمة التي شكلت صدمة حقيقية لأعدائنا ولأمتنا على حدّ سواء، فرفض شعبنا في الداخل استهداف الأقصى، والشيخ جرّاح وغزة كان على مساحة الوطن السليب، وأضحى انتشار بؤر الاشتباك مع القوات الصهيونية على كامل مساحة الضفة الغربية، متجاوزين كل الخلافات التي نعرف، حيث اعتبر شبابنا أنها معركتهم مع هذا العدو أولاً ودائماً.
أما عربياً، فالتصعيد ضد موقف الأنظمة الرسمية العربية لا تكفيه هذه المقالة. في العواصم والمدن والقرى انتفضت أمة بكاملها. ومن خلال أبنائها المؤمنين بعدالة قضيتها والمنتشرين في كل بقاع الأرض، اكتشفنا جميعاً أن هؤلاء نجحوا في نقل قضيتنا إلى العالمية. في مواقع صنع القرار من حكومات، ومجالس نيابية أو من خلال الجامعات والتجمعات الاهلية، استخداماً لمنصات التواصل الاجتماعي التي تعددت ونجح شبابنا في تعرية هذا الكيان والكشف عن عدوانيّته واغتصابه لأرض لا تعود له... بل نجح شبابنا في إيقاظ وعي اليهود التقدميين، إضافة إلى شركاء العالم في تكذيب الرواية الصهيونية والسخرية منها... وأصبح الجميع يعرف أن هذا الكيان كان وصمة عار في جبين بريطانيا أولاً، ونفاقاً غير أخلاقي للمجتمع الدولي الرسمي الذي تديره أميركا الآن ودائماً.
لقد أصبح واضحاً أن هذه الأمة التي مزّقها الغرب، وأن ما تعيشه في جغرافيتها المترامية الأطراف من تخلف وقهر وفقر وإقصاء، ومعارك بينية متعددة هو اشتقاق حقيقي عن معركتها مع هذا الكيان الصهيوني وداعميه وحلفائه. هذا الكيان الذي يشكل أداة سياسية للغرب وشركاته واستثماراته وأحقاده ضد أمة كان لها دور مشرّف وإنساني كبير على الصُعد كافة، العلمية والثقافية، وتستحق أن يعيش أبناؤها في مجتمع تسوده الحرية، والعدالة، والتقدّم .

* باحث اقتصادي (الأردن)



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا