في وقت يقرّ فيه العديد من المفكّرين والباحثين براهنية فكر سعادة وصوابيته في مقاربة العديد من التحدّيات التي تواجه بلادنا اليوم، وفي حين نرى الكثير من الشهادات تُقدّم حول رؤية هذا الرجل الطليعي، يأتي كتاب «أنطون سعادة في الطريق المسدود» لأنطوان نجم خارج السياق أو ربّما في سياق موازٍ يعمل على تشويه صورة هذه الشخصية الفريدة والتشويش على فكرها القومي النهضوي. لكن في البداية لا بدّ أن نسجّل للكاتب الجهد الكبير الذي وضعه في تتبّع كتابات سعادة، واقتطاع بعض منها وتحويرها. جهد يذكّر بما بُذل خلال المئة عام الماضية من تحوير وتشويه للحقائق، لتبرير فكرة الكيانات المصطنعة التي رسمها الاستعمار.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
في مقدّمة كتابه يسرد أنطوان نجم سيرته الذاتية المتواضعة. وفي المقدّمة ذاتها يكشف لنا كيف أن العاطفة أساس في تحديد خياراته السياسية (الكتائبيّة)، فنفهم لماذا يتصدّى لاحقاً في معرض الكتاب لأوليّة العقل عند سعادة، وكيف أنّ للموروث أثراً كبيراً في تكوين آرائه. المفارقة أنّ نجم الملتزم في حزب الكتائب، حزب المؤسّس والأبناء والأحفاد والعائلة المقدّسة، الحزب الفاشي الطائفي، حزب الانعزال، يتناول الحزب السوري القومي الاجتماعي ويصوّره بأنه ليس علمانياً وتوتاليتاري وأوتوقراطي ويرفض التعددية وضد حرية التعبير وحقوق الإنسان. لكن بغضّ النظر عن خلفية الكاتب السياسية، من الضروريّ نقاش بعض النقاط التي تطرّق إليها في متن كتابه والتي كثيراً ما نراها تتكرّر عند بعض من يدّعون معرفة الحزب وعقيدته.

أولاً، في شخصية سعادة: يحاول نجم تقديم صورة نمطيّة لسعادة، فيصفه بالمتغطرس والمغرور وصاحب النزعة الأنانية، غامزاً من لقب الزعيم الذي حمله للدلالة على حبّ العظمة رغم أنّ كتابات سعادة نفسه والقوميين من بعده تحمل الكثير من الإيضاحات حول هذه النقطة تحديداً. إذ يشكّل قسم الزعامة الآليّة التي يضع سعادة نفسه عبرها تحت سقف الدستور الحزبيّ، وما يعطيه موقع الزعيم فعلاً أكثر من أي شيء آخر هو القيادة الفكريّة والتنظيمية في مؤسسة تتشكل وتتوسّع في ظلّ الملاحقة والاضطهاد أيام الانتداب الفرنسيّ. غير أن هجوم نجم على شخص سعادة ونعته بهذه الصفات للتقليل من مكانته ومناقبيّته يتناقض وسيرة رجل نذر حياته بأكملها لنهضة مجتمعه واستشهد دفاعاً عن قضيته، تاركاً لعائلته قدراً كبيراً من الفخر والاعتزار وبعض المال الذي قد يكفي لإطعامها بضعة أيام فقط. فيما هو معلوم أنّه لو ساوم على قضيته واستغلّ ثقة آلاف المحازبين ليوظّفها في خدمة مصالحه الشخصية لكان من محظيي النظام اللبنانيّ الذين تسمّى شوارع بيروت بأسمائهم.
يخلص الكاتب في النهاية إلى أنّ القومية الاجتماعية تسعى لإقامة حكم دكتاتوري - أوتوقراطي


ثانياً، يتناول نجم في كتابه القومية بتعريف أحادي. بالنسبة له هي مدرسة واحدة، فلا يميّز بين الطروحات القومية المختلفة ولا بين أيّ منها وبين القومية الاجتماعية. فالقومية الاجتماعية لا تستتد إلى العرق وترفض فكرة الصفاء العرقي، ولا ترى في الثقافة أو اللغة أو حتى الدولة أساساً للاجتماع البشري بل نتيجة له أو تعبير عنه. بينما ترى أن البيئة هي العنصر الأول في الاجتماع وأن التشارك فيها والإفادة من مقدراتها وحمايتها منطلق أساسي لبناء المصالح المشتركة والتي هي بدورها تشكّل إطار الهويّة المشتركة. أمّا الثقافة والدولة فتتطوّر باستمرار لتتمكّن من تأمين المصالح المشتركة للبشر... لذا نعتقد بخطورة اعتماد الثقافة أو الدولة كمعرّف عن المجتمع، ما يؤدّي للحد من الديناميكيات الثقافيّة والتطوّر المؤسساتيّ وصولاً إلى ضرب التنوّع والاقتتال الداخليّ وسيطرة بعض المتسلّطين الانعزاليين على المصالح الحيويّة للمجتمع وتجميد تطوّره. ولنا بالمثل اللبنانيّ خير دليل على ذلك. من هنا يأتي تحفّظنا على محاولة نجم وغيره نقض فكرة الأمة السورية عبر القيام باستقصاء مقطعيّ، مستنداً إلى واقعٍ ثقافي ناشئٍ في لحظة تاريخية معيّنة، غافلاً عن تطور المجتمع عبر الزمن ومكنونات قوّة الفكرة السوريّة للحاضر والمستقبل. فتراه يقوم بمقارنة سطحيّة بين جماعات إثنية وطائفية على امتداد سوربة ليصل إلى نتيجة مفادها أن لا شيء مشتركاً بينها متجاهلاً أن الاشتراك في الحياة والمصالح الواحدة يكون على مستوى المتحدات وليس الجماعات. لذا ربما كان من الأجدى له دراسة العلاقات بين عكار وحمص على سبيل المثال أو بين البقاع وريف دمشق أو بين درعا وإربد، إلخ. لا ينظر سعادة إلى الأمة ككيان جامد بل كمركّب اجتماعي ذي حيوية واسعة، تقوى وتضعف تبعاً لعوامل نفسيّة (إدراك المشتركات وإرادة العمل لها) وموضوعيّة (تطوّر المؤسسات المجتمعيّة واستقلالها/ تبعيتها للإرادات الأجنبية)، ولو كانت اليوم على درجة عالية من الحيوية لما كنّا نغرق في تقهقر أفقدنا أرضنا وثرواتنا، وما كنّا أمام أنظمة تستمدّ وجودها من خضوعها للقوى الدولية بدل أن تجسّد مصالح الشعب.
ثالثاً، في قراءته المشوّهة لمفهوم الإنسان-المجتمع عند سعادة، يصوّر نجم القومية الاجتماعية على أنها إلغاء للفرد وشخصيته وأنها تتناقض مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. في حين يرى سعادة في مقدمة كتابه «نشوء الأمم» أن ظهور شخصية الفرد حادث عظيم في ارتقاء النفسية البشرية وتطور الاجتماع الإنساني. وما يدعو إليه، من موقع فكريّ فلسفيّ كما عمليّ، هو ضرورة انخراط الفرد بالمؤسّسات المجتمعيّة على أنواعها (اجتماعيّة، سياسيّة، اقتصاديّة، علميّة، إلخ) والعمل على تطويرها كمدخل لحياة أفضل للفرد والمجتمع في آن ـــ بعكس الفرد (المستهلك) ـــ الأنانيّ الذي طالما صوّرته الليبراليّة كحالة فضلى للوجود البشريّ. أما حقوق الإنسان فمن المفيد التنبّه إلى أنها لا تقوم في ظل المجتمع القبلي أو الإقطاعي، إنما هي نتاج بروز الدولة القومية التي عزّزت من خلال مفهوم المواطنة حقوق الفرد.
رابعاً، يخلص الكاتب في النهاية إلى أن القومية الاجتماعية تسعى لإقامة حكم دكتاتوري - أوتوقراطي نابع من جوهرها التوتاليتاري، ويتجاهل أن تعدد الآراء والتوجهات كان قائماً داخل الحزب منذ تأسيسه وخلال حياة سعادة وبعد اغتياله وإلى يومنا هذا. ولطالما شهد الحزب حوارات داخلية ومؤتمرات وانتخابات وصراعات فكرية وسياسية. فالحزب مساحة للتعبير قلّ نظيرها في بلادنا، والقومية الاجتماعية تكاد تكون المدرسة الوحيدة في هذا الشرق المنفتحة على العالم والتي تسعى لرفع مستوى حياة أبناء مجتمعها، وإقامة نظام جديد يعبّر فيه الجميع عن مرادهم، فيصوغون بأنفسهم نظرتهم إلى مختلف مسائل حياتهم ويقرّرون بالتالي اتجاهاتها.
في الختام لا بدّ من التأكيد على أنّ القومية الاجتماعية ليست فوق الانتقاد، وطروحات سعادة قابلة للمراجعة، فالعلم هو عمادها والعلوم تتطوّر بالمراجعة والاكتشاف، لكن كتاب «أنطون سعادة في الطريق المسدود» لا يمكن أن يصنّف إلّا في خانة التهجّم والتشويه الصادر عن حقد أعمى، غير أنّنا لم نقف يوماً أمام إساءات كهذه، فسواء فهمونا أم أساؤوا فهمنا فإننا نعمل لحياة مجتمعنا ونهضته.

* عميد الدراسات والتخطيط في الحزب السوري القومي الاجتماعي