في اجتماع مطوّل امتدّ إلى وقت متأخّر من الليل، ضمّ نائب الرئيس السوري فاروق الشرع إلى عدد محدود من القيادات الفلسطينية، بدا الطلب ملحّاً بأن تبادر دمشق إلى احتضان مؤتمر للمصالحة بين الفصائل المتنازعة، وإنهاء الخصومة بين حركتَي "فتح" و"حماس". كان ذلك في أعقاب الانقسام الفلسطيني المروّع عام 2007.اعترض الشرع على الفكرة من أساسها، وكان تقديره أنّ "هذه ورقة مصرية"، وأنّ أيّ أدوار أخرى محكوم عليها بالفشل إن لم تكن مصر طرفاً رئيسياً فيها.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
هذه حقيقة سياسية واستراتيجية شبه مستقرّة لدى كلّ الأطراف الإقليمية والدولية، والنهوض بمسؤوليّتها ضرورة أمن قومي. إذا أردنا أن نمضي قدماً إلى الأمام لما هو أكبر من تثبيت الهدنة بين إسرائيل وفصائل المقاومة وإعمار غزة، فإنّنا بحاجة حقيقية إلى مراجعات عند الجذور، تعيد للقضية الفلسطينية طبيعتها كقضية تحرُّر وطني لشعب رازح تحت الاحتلال.
في أيّة مراجعات جدية، فإنّ "اتفاقية أوسلو" جذر الانقسام الفلسطيني. لم يكن يخطر في بال قيادات "حماس" أن تحصد أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، التي أُجريت انتخاباتها وفق استحقاقات "أوسلو". عندما باغتتها النتائج لم تتردّد لحظة واحدة في الدخول إلى معترك السلطة، أو أن تقبل سلطة بُنيت على أساس تعارضه جوهرياً. كان ذلك مأزق "حماس"، الذي ذهبت إليه باختيارها.
في كلام سمعته من رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، خالد مشعل، في ذلك الوقت، فإنّ "السلطة فكرتها خاطئة، ووجودها قفز على مراحل الصراع مع إسرائيل، وأنّ عرفات قد تعجّل، لكنّها الآن أمر واقع لم يعد من الممكن تجاوزها، أو إلغاؤها إلا بتوافق وطني كامل... وهذا مستحيل".
كان تقدير مفكّرين فلسطينيين أنّ "حماس" أخطأت في قبول السلطة، غير أنّ الخروج منها، أو حلّ السلطة نفسها قد يزكّي انقلاباً عسكرياً يقوم به رجال إسرائيل في الأجهزة الأمنية الفلسطينية. هكذا، جرى الانقسام في الأراضي الفلسطينية المحتلّة بالحسم العسكري، على ما تقول "حماس"، أو الانقلاب العسكري بتوصيف "فتح". تمدّد الانقسام بآثاره وتداعياته إلى صلب القضية الفلسطينية وشرعيّة المقاومة نفسها.
لم يسبق في التاريخ السياسي الحديث، أن تولّت حركة تحرير السلطة قبل أن تحرّر أراضيها، وتعرف حدودها، وتنشئ قواعد سيادتها الكاملة عليها، أو على جزء منها كنقطة انطلاق لاستكمال مهمّتها في تحرير بقية الأراضي المحتلّة.
صُمّمت "أوسلو" على نحو يسمح للاحتلال بالبقاء بأقل التكاليف السياسية.
اعتقد عرفات أنّ بوسعه أن يحسن شروط اللعبة عند وضع قدميه على أرض السلطة. سمح بنوعٍ من الزواج السري بين السلطة والمقاومة، غير أنّ إسرائيل حاصرته، واخترقت صفوف رجاله، واغتالته بسمٍّ في النهاية، من دون أن يجرؤ أحد من أنصاره على طلب تحقيق دولي في الاغتيال!
الأفدح أنّ إسرائيل مزّقت الاتفاقيات التي وقّعتها. توسّعت في بناء المستوطنات، وبنت جداراً عنصرياً يمزّق الأرض ويحيل ما تبقّى من فلسطين التاريخية إلى أشلاء، ومع ذلك أخذ الفرقاء الفلسطينيون يتصارعون على أشلاء وطن وأطلال سلطة بالقتل خارج القانون وعلى الهوية السياسية.
استثمرت إسرائيل في الانقسام للمضي قدماً في مشروعها الاستيطاني على ما تبقّى من أراضٍ فلسطينية. في البداية، أيّد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك – بلا تحفّظ واحد – السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس، وسحب البعثة الأمنية من غزّة، بما يعني أنّ مصر قرّرت القطيعة مع "حماس"، اندفاعاً لحسابات جديدة، واعترافاً ضمنياً بفشل المهمة الأمنية، التي كان من أبجدياتها الحفاظ على قدر من التوازن بين القوتين الرئيسيتين: "حماس" و"فتح".
ثمّ برزت تقديرات تحذّر من القطيعة، فـ"حماس" قوّة رئيسية عسكرية واجتماعية في غزّة، والحديث عن تصفيتها بعمليات عسكرية إسرائيلية، أو بالخنق تحت وطأة الحصار، يمكن أن يؤدّي إلى أخطار حقيقية على مصر وأمنها، أو أن تتحوّل غزّة على الحدود إلى موضع قدم لجماعات عنفٍ مثل "القاعدة".
على أساس تلك التقديرات، وافق مبارك على فتح قنوات حوار مع قيادات "حماس". كانت هناك ثلاثة اقتراحات في ما يتعلّق بالغطاء السياسي للمفاوضات المقترحة بين رئيسَي "فتح" و"حماس"، محمود عباس وخالد مشعل.
الأول - أن تُعقد في الجامعة العربية وبرعايتها.
والثاني - أن تُعقد برعاية مصرية – سعودية مشتركة.
والثالث - أن تُعقد - كما جرت العادة في مرّات سابقة – برعاية الاستخبارات المصرية.
مال التصوّر العام لقيادة "حماس" إلى الموافقة على الاعتراف – مجدداً – بولاية الرئاسة الفلسطينية على غزّة بجوار الضفّة، والدعوة إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أسس احترافية ووطنية، وفق اقتراحات أمنية مصرية سابقة. بل إنّ "حماس" وافقت - من حيث المبدأ العام - على قبول فكرة حكومة وحدة وطنية جديدة لا تقتصر - هذه المرة - على محاصصة مقاعدها بين "فتح" و"حماس"، بدخول فصائل أخرى إليها، مثل "الجبهة الشعبية" و"الجهاد".
في آخر اجتماع لقادة الفصائل الفلسطينية في القاهرة بدا لافتاً تغيّر البيئة العامّة وقدر الاستجابات المصرية


الكلام نفسه يتكرّر، الآن، فإذا لم تتوفّر إرادة الوحدة السياسية الفلسطينية فإنّ الفشل محتم. في تجربة الماضي، لم تتمسّك الرئاسة المصرية، بخطّتها للملمة الانقسام بأقلّ خسائر ممكنة، ولا كانت هناك جدية في الاتصالات، وكان أقصى ما طلبته رفض فرض الوصاية الدولية على غزّة، أو إرسال قوات دولية إليها.
كان ما جرى عند معبر رفح الحدودي كاشفاً، بحوادثه وتفاعلاته وتداعياته، لعمق أزمة الثقة بالشدّ والجذب بين نظام الحكم في مصر وحركة "حماس" في غزة.
في 22 كانون الثاني / يناير 2008، زحف آلاف الفلسطينيين إلى المعبر الحدودي، أطلقت قوات الأمن المصرية طلقات رصاص في الهواء، وجرت اتصالات عبر القنوات الأمنية المفتوحة بين الدولة المصرية وحركة "حماس" أدت إلى تحرّك سريع لـ"القوة التنفيذية" التابعة لـ"حماس"، لمحاصرة الزاحفين ودفعهم - مرة أخرى - إلى داخل القطاع.
بعد ساعات قليلة، وعند الفجر، فجّر مسلّحون فلسطينيون أسوار المعبر، فيما دخله على الفور مئات الفلسطينيين، وبدا القرار المصري بعدم الاشتباك اضطرارياً، فقوات الأمن المصرية على الحدود لا تتعدّى الـ750 جندياً، وليس بوسعها إيقاف الزحف.
في ما بعد تحوّل "الموقف الاضطراري" الذي اتخذه مبارك، إلى "حكمة!"، أو أنّه هو الذي سمح بمرور الفلسطينيين عبر المعبر، إذ "أنّ مصر ترفض تجويع الفلسطينيين". غير أنّ دواعي الحكمة المعلنة تحوّلت إلى نقيضها في التغطيات الصحافية والإعلامية التي نالت من الفلسطينيين، الذين توعّدهم وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، في ذلك الوقت، بـ"قطع أرجلهم" إذا ما فكّروا - مرّة أخرى - في اختراق الحدود المصرية، حتى لو كان ذلك طلباً لطعام ودواء.
بُثّت تلك التصريحات من وكالة "أنباء الشرق الأوسط" الرسمية، ثم خُفّفت صياغتها في ما بعد في أحد البرامج السياسية على التلفزيون المصري.
في تناقض ما هو معلن من رئاسة الدولة، وما هو صادر عن وزير خارجيتها، ظهرت على السطح شروخ حقيقية في مفهوم الأمن القومي وطبيعة العلاقات المفترضة على الحدود مع قطاع غزة، وتأكّدت معضلة "حماس" في حسابات الأمن القومي المصري.
الأمن القومي ليس اختراعاً، فهو من مسؤوليات الدولة، وهو لا يناقش بالقطعة، كأن تلخّصه في الحدود، ثم تلخّص الحدود في معبر "رفح"، قبل أن تتقبّل اقتراحاً إسرائيلياً بمضاعفة قوّاتك عند هذا المعبر بالذات، ولا يتجاوزه إلى سواه، ضماناً لأمنها، وتعتبر ذلك كلّه إنجازاً وسيادة وأمناً قومياً!
ضبط الحدود من أولويات الأمن القومي، لكنّه لا يلخّصه. لم يكن نظام الحكم مؤهّلاً لتوظيف الحوادث التي جرت لاقتناص أية فرص لاحت، أهمّها: رفع يد إسرائيل عن المعبر المصري - الفلسطيني، والبروتوكول الذي يحكمه لم تكن مصر طرفاً فيها.
كان ذلك داعياً لتهديد جدّي في الأمن القومي، فكيف يتسنّى لدولة محورية مثل مصر، ألا تكون طرفاً مباشراً في أية ترتيبات على حدودها. باليقين، هناك أخطاء متراكمة فادحة على الجانبين. تورّط نظام مبارك في توفير غطاء عربي للعدوان على غزّة وإحكام الحصار عليها، كان ذلك انتقاصاً من الدور المصري واحترامه في إقليمه.
في المقابل، تورّطت "حماس" بالانحياز الإيديولوجي والسياسي لجماعة "الإخوان المسلمين"، في أتون "يناير" 2011، وأثناء 30 حزيران / يونيو 2013، وكان ذلك داعياً لانتقاص فادح من شعبيّتها كحركة مقاومة في بلد دأب مواطنوه على دعم القضية الفلسطينية كقضية إجماع مصري.
في ما بعد، تحلّلت "حماس" من أية وثائق تنسبها إلى الجماعة، من دون أن تغادر المشهد آثار جروح استقرّت في الذاكرة العامّة، ذلك يستدعي مقاربات أخرى تستبين معها ضرورات دعم العلاقات لتخفيف وطأة الحصار على غزة ونصرة القضية الفلسطينية، كما تكثيف التعاون الأمني ضدّ جماعات العنف والإرهاب التي تنشط في سيناء، وهو ما يحصل فعلاً.
في آخر اجتماع لقادة الفصائل الفلسطينية في القاهرة، بدا لافتاً تغيّر البيئة العامّة وقدر الاستجابات المصرية لما يقترحونه من أفكار وتصوّرات وطلبات كفتح "معبر رفح". بصورة فورية، استجيب لطلب فتح المعبر، من دون إرجاء إلى وقت لاحق، كما كان يجري سابقاً، على ما استمعت في المساء نفسه إلى الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بالنيابة، أبو أحمد فؤاد.
أسّست تلك الاستجابة لروح جديدة في العلاقات بين السلطات المصرية والفصائل الفلسطينية، تجلّت في نجاح وساطة التهدئة وضخّ دماء جديدة في مشروع المصالحة الفلسطينية، غير أنّ الطريق لا يزال في أوله، وشدّ الخيط إلى آخره يحتاج إلى مراجعات ضرورية عند الجذور.

*كاتب وصحافي مصري