قبل أيّام، قرأت منشوراتك على فايسبوك. وتذكرت ما كان يقوله مهدي عامل عن صعوبة المناقشة بين من هم في نفس الخط الفكري، رغم أنني أعرف أنه ليس هناك خلاف جدي بيننا. لكنني سأطرح عليك السؤال نفسه الذي طرحته على الكثير من المسؤولين الشيوعيين ـــ محاولاً مداعبة عقولهم، وهو: على الرغم من أن البشرية لم تُنجب فكراً أكثر إنسانية من الماركسية، لماذا مع ذلك، هي صعبة على التحقيق في الواقع؟ طبعاً، أنا متأكد من أنك ـــ عكسهم ـــ تعرف الجواب. لأنه بالرغم من أهمية النظرية التي تعطينا الفهم الحقيقي للواقع، هناك الممارسة السياسية التي ليست هي بالضرورة متماثلة مع هذا الواقع. إذا علينا معرفة كيف نمارس السياسة التي تؤدي إلى تحقيق النظرية. وإذا كانت الممارسة السياسية غير موجودة دون نظرية سياسية، يمكننا القول أيضاً إن النظرية السياسية غير موجودة دون ممارسة سياسية صحيحة. من هنا أرى، أن مشكلة الممارسة السياسية عند الشيوعيين مرتبطة أيضاً في فهمهم للنظرية نفسها- هذا إذا كان لديهم فهم صحيح لها، وهذه المشكلة مرتبطة بدورها بطبيعة جوهرهم الطبقي البرجوازي المتوسط الذي يجعلهم حتى غير قادرين على تحقيق البديل الذين يطمحون هم أنفسهم إليه. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
من جهة ثانية، لا أشك مطلقاً في وجود خلاف معك على النظرية. لكني أخاف عليك أن تصبح في خانة هؤلاء الذين يُطيّبون لك على صفحات فايسبوك، والذين أعرفهم شخصياً، إنما لديّ معهم خبرة سياسية يومية. وأعرف ـــ على الرغم من إخلاصهم للقضية وليس عندي أي شك من ذلك ـــ أن فهمهم للنظرية ينقصه الكثير من الإبداع المطلوب تطبيقه على ممارستهم السياسية. هؤلاء لا يحسنون التكلم إلا مع من هم مثلهم. يريدون أن يطوعوا الجماهير لما يرونه هم صحيحاً وحسب المسطرة الماركسية (حسب فهمهم الخاص للماركسية). وعندما يفشلون في إقناع الجماهير يُصابون بالإحباط وينتقل غضبهم إلى الجماهير نفسها، فيتهمونها بالتخلف لأنها لا «تُقدِّر» ما يحاول الشيوعيون القيام به من أجل سعادة هذه الجماهير. ودائماً ما أسخر منهم قائلًاً: ما رأيكم لو نخترع لكم شعباً قادراً على أن يفهمكم؟ هذا هو واقع المجتمع الذي تعيشون فيه. على الأقل أحسنوا الخطاب معه لتأخذوا بعدها النتيجة المبتغاة. هم يريدون تغيير الواقع، لكنهم في الوقت نفسه لا يفهمونه كما هو. فلا يبقى لهم سوى ترداد «الفاتحة الماركسية»، من دون أن يتمكنوا من تغييره.
الشيوعيون اليوم ضعفاء بما فيه الكفاية التي تجعلهم غير قادرين على تحقيق أي إنجاز من دون التحالف مع قوى أخرى وازنة في المجتمع. لذلك هم غير قادرين على إحداث أي تغيير في مجرى الصراع، على الرغم من نظريتهم المحقة في المطلق. لهذا يمكنهم الكلام ما يشاؤون عن هذا الصراع، لكن من دون أية معرفة بحقائق الأمور.
اليوم شئنا أم أبينا يقع حزب الله في المواجهة. يتلقى الضربات ويستعد لحرب عظمى يعود له وحده تقييم الأحداث لأخذ القرارات المناسبة. كل ما بوسعنا نحن هو أن نفهم الظروف الحقيقية التي هو فيها، ومن ثم نأخذ الموقف المناسب الداعم له في هذه المرحلة. وعندما تحين مرحلة أخرى نبحث بخصائصها في أوانها. لماذا مثلاً، لا نقوم نحن بالثورة الشيوعية فيكتمل التحرر الوطني مع التحرر الاجتماعي؟ أليست هذا هي اللازمة التي نرددها للتمايز مع موقف حزب الله؟ لأننا، وبكل بساطة غير قادرين على هذا، ولا نحمل بديلاً آخر!! لكننا نطلب من حزب الله أن يقوم هو بالثورة بدلاً عنا. وهو يقول لنا مراراً وتكراراً إنه لا يملك الإمكانيات الآن لحل كل مشاكل لبنان... ويطلب منا مراراً وتكراراً أن نأخذ قليلاً الحمل عنه. ونحن ليس لدينا إلا قراءة الفاتحة الماركسية والتذكير بالوعد الإلهي «تبعنا» ـــ ألا وهو الحتمية التاريخية! فمهما حاول حزب الله في النهاية لن تصح سوى الماركسية. ولكن من الآن وحتى نصل إلى الشيوعية لن يبقى لنا صاحب. نكلمهم بالفصحى بينما المطلوب الكلام بلغة الواقع.
يمكننا تسجيل ملاحظات عدة على أداء حزب الله. ولكن هذه الملاحظات تظل فرضيات غير نهائية. لكن عندما ننشرها على مواقع التواصل، يأخذها القارئ كحقيقة ثابتة. علينا أن نفهم كيف ينظر حزب الله إلى أولوياته هو، ونفهم رأيه بالمواضيع، لا أن نطلق أحكاماً قد تكون صحيحة بالمطلق، وليست صحيحة بالضرورة. للأسف، لا حوار حقيقياً بين هذين الحزبين المقاومين. وفي هذا مفارقة! لكننا نحن في حاجة لهم أكثر. لأن تحرير الأرض أولوية على التحرر الاجتماعي. مترابطان نعم، لكن ليسا بالضرورة متلازمين زمنياً. كما أن لكلمة «تحرر اجتماعي» مفهوماً واسعاً، ولها مسيرتها الطويلة.
أنا أفهم رأيك بما تكتبه. شرحت لي أنها الطريقة الوحيدة للمشاركة في النضال... حسناً! لكن من يقرأ صفحتك يضعك في موقع المعادي للمقاومة الإسلامية «الوطنية» بامتياز، لأنه بالضبط رأي المجموعة الحزبية التي توجه أنت النقد إليها باستمرار. أنا أعتقد أنه لا يمكننا المجاهرة برأي سياسي من دون أن نملك كل المعطيات السياسية حوله. خوفي من أن الشيوعيين باتوا ينفّذون ـــ بوعي أو من دون وعي ـــ سياسة تصبّ في خدمة الإمبريالية. لأن هذه الحرب الشنيعة التي بدأتها الإمبريالية منذ 2006، مروراً بالحرب على سوريا ـــ وهي حرب إمبريالية بامتياز ـــ لا يشارك الشيوعيون في التصدي لها. بل على العكس، بعض الشيوعيين ينظر على أنها حرب طائفية لا علاقة لهم فيها. فبأي حق إذاً يمكننا الكلام عن الأشياء الأخرى؟ مجدداً نقع في أخطاء الماضي قبل المؤتمر الثاني. إن موقف الحزب الشيوعي المتفرج خلال الحرب على سوريا، سيجعله متفرجاً مدى الحياة. ولن تقوم له قائمة. وبعد كل هذا نطلق الأحكام على «المقاومة الإسلامية الوطنية»؟ افعلوا هذا ولا تفعلوا هذا؟ كيف تريد لهذه الجماهير أن تتأثر بكم وأنتم تريدون تعليمها ـــ وبفوقية ـــ ما لا تقومون به أنتم في الأساس؟
إن غياب سمة هذا الصراع التحرري في خطاب بعض الشيوعيين اليوم، إذ يضعون المقاومة الإسلامية في مواجهتهم، لا يخدم سوى الإمبريالية. ونحن نعمل على تغييبه. إن ما يميز مواقف الحزب الشيوعي اليوم يتلخص بشعارات حق لكن يراد بها باطل. والباطل هنا هو النيل، في نهاية المطاف، من المقاومة الإسلامية. وإن هذا النيل يأتي بلغة لا تستطيع الأحزاب الأخرى استخدامها. من هنا، الخوف من محاولة القيادة الحالية للحزب تقديم خدمات لصالح أعداء الوطن. لا أدري كيف يمكن لشيوعيين خاضوا المقاومة الوطنية في فترة معينة من تاريخهم، ألا يتركوا فرصة إلا ويحاولون النيل فيها من المقاومة الإسلامية. وإن كل هذه الموبقات تُرتكب باسم فكر مهدي عامل.
أتذكر في أحد الاجتماعات المركزية كيف جاهر أحد اعضاء المكتب السياسي بشعار: أن إسرائيل لم تعد الآن العدو الأساسي للبنان، إنما هو النظام الطائفي! ماذا تريد بعد الآن؟ إذا كنا في طريقنا إلى فقدان الثقة في مثل هذا الحزب، فماذا تنتظر من الآخرين الذين ينتظرون موتهم اليومي ولا وقت لهم لكل هذه النظريات؟ كيف نعيد الثقة للفكر الماركسي؟ فقط بالممارسة السياسية السليمة!
ماذا على الشيوعيين أن يفعلوا حين لا تكون الظروف الموضوعية ناضجة للاشتراكية؟ سؤال مطروح على كل الأحزاب الشيوعية في العالم. إذ أنها مشكلة مشتركة عند الجميع. وعندما قال ماركس إن الفكرة تصبح محركاً للتاريخ عندما تستحوذ على عقول الجماهير لم يقصد الفكر الشيوعي فقط. هذا يعني أن هناك أفكاراً أخرى أيضاً تملك إمكانية تحريك التاريخ إلى الإمام.
من هنا، على الشيوعيين أن لا يعادوا الحركات التي لسبب أو لآخر وجدت على رأس حركة التاريخ حتى لو كانت هذه الحركات بعيدة عن الفكر الماركسي. بل عليهم أن يلعبوا دوراً مساعداً لها، لا أن يكونوا نافرين منها، متكبرين عليها.
في مراحل تاريخية ما، على الشيوعيين أن يلعبوا دوراً محفّزاً catalyzer لحركة التاريخ، طالما أنه ليس بإمكانهم أن يكونوا عناصر أساسية في هذه الحركة. وفي هذا أرى أخطاء غالبية الأحزاب الشيوعية العربية. والتي دائماً ما كانت تدفع ثمناً غالياً نتيجة مكابرتها ونتيجة اعتقادها أن حصرية حركة التاريخ تعود إليها فقط.
ويبقى السؤال الكبير ماذا لو كان مهدي عامل حياً بيننا الآن؟ ماذا كان ليقول عن هذه المرحلة؟ الإجابة صعبة بالتأكيد. لكنني أجزم أنه كان سيكون قلباً وعقلاً مع هؤلاء «البكّائين»... المنتصرين.

*كاتب وسياسي