تمرُّ دولة الاحتلال الإسرائيلي والحركة الصهيونيّة العالميّة بمأزق، وقد تجدّدَ أخيراً بعد حرب غزة. والمأزق الأكبر نتج عن حرب تمّوز، عندما انعقدت جلسات واجتماعات في المدن الأميركيّة الكبرى، والتي يكون فيها نفوذ صهيوني هائل، لبحث المأزق الصهيوني. والذي عاشَ في أميركا، على مرّ العقود، يُدرك كم أنّ النفوذ الصهيوني، وإن لا يزال هائلاً على مستوى الكونغرس والبيت الأبيض، يتضاءل في أوساط الرأي العام والثقافة الشعبيّة، وحتى في الإعلام. لم تعد هناك سطوة صهيونيّة صلبة تمنع بروز، أو ظهور وجهة نظر معادية للصهيونيّة. عندما وصلتُ إلى أميركا، في عام ١٩٨٣، كان الخطاب العربي عن الصهيونية مرتبكاً، لا بل خجولاً. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
كان الخطيب العربي (حتى من المعروفين من الأكاديميّين العرب هنا) يعرق ويتلعثم إذا ما سأله سائل عن موقفه من الاعتراف بإسرائيل، وكان الجواب من طينة القول بأنّ العرب لا يمكن أن يكونوا معادين للساميّة لأنّهم… ساميون. كان الصهاينة يسيطرون على خطابهم وعلى خطاب أعدائهم، لأنّهم يفرضون أجندة ومفردات الحوار والسجال. كنّا نعرض وجهة نظرنا، لكن بمعاييرهم. أذكر أنّني عندما بدأتُ في إلقاء المحاضرات هنا، في سنوات الدراسة الجامعيّة، أدركتُ بسرعة الخطّة الصهيونيّة في التعامل مع الخطباء العرب: يزرعون أناسهم بين الحضور، ويهرعون إلى الميكروفون عندما يُفتح المجال لإلقاء الأسئلة، ويكون أول سؤال دائماً منهم: هل أنت مع الاعتراف بإسرائيل، نعم أم لا. وبسرعة لاحظتُ أنّ الجواب عندما يكون حازماً وواضحاً ضدّ الاعتراف، يُعطّل الخطّة الصهيونيّة في التعطيل على المحاضر، مع أنّ ذلك يترافق مع حملة شجب من قبل قيادات في «منظمة التحرير»، آنذاك، وكانوا يعملون - بحسب خطّة ياسر عرفات - لطمأنة اللوبي الإسرائيلي بأنّ قيادة المنظمة تقبل بوجود إسرائيل.
تغيّر وضع الصهيونيّة في العالم، منذ أوائل الثمانينيّات، عندما قدمتُ إلى هذا البلاد. كان تأييد إسرائيل هو الساري، وهو - وهذا الأهم - الـ«كول»، أي الأكثر قبولاً من العناصر الشبابيّة ومن النخب الثقافيّة. كانت الليبراليّة لا تكتمل من دون إثبات معاداة الشيوعيّة ومناصرة الصهيونيّة، بلا حدود. وقيادة الحزب الديموقراطي اعتبرت أنّ مناصرة إسرائيل هي عنصر أساسي في تميّزها عن الحزب الجمهوري الذي كان، وفقاً لمصالح شركات النفط والسلاح والمستعربين، أكثر جنوحاً ضدّ اللوبي الإسرائيلي. كان ذلك عندما كان لوبي أنظمة الخليج يتضارب مع لوبي إسرائيل، لأنّ الأخير كان يمنع التسلّح عن كلّ أنظمة الخليج (بالرغم من التحالف ضدّ عبد الناصر بينهما في الخمسينيّات والستينيّات). لكنّ اللوبي السعودي - الإماراتي تصالح، ثم تطابق، مع اللوبي الإسرائيلي.
1) نفور التحالف التقدّمي - الأقليّاتي الجديد من إسرائيل. كانت حركة الحقوق المدنيّة السوداء، والحركة النسويّة، وكلّ الحركات الليبراليّة، متعصّبة في مناصرة إسرائيل حتى الألفيّة. مارتن لوثر كنغ كان شديد الارتباط بالمنظمّات الصهيونيّة، وكان من مؤيّدي حرب فيتنام. أراد أن يقتني السياسة الخارجيّة للحزب الديموقراطي بحذافيرها. كانت هناك تيّارات أفريقيّة - أميركيّة معادية لإسرائيل، لكنّها كانت على الهامش. تمثّلت بـ«الفهود السود» وبعض الشخصيّات البارزة في حركة الحقوق المدنيّة، مثل مالكولم إكس وجوزيف لوري. وكان الأخير يذكّرنا دائماً بضرورة توطيد التحالف بين العرب والأفارقة - الأميركيّين، خصوصاً في الأماكن المختلطة بينهما، مثل شيكاغو وديترويت. وكان جيسي جاكسون من فريق مناصري «منظمة التحرير»، لكنّ الرجل كان عرضة للتنازلات والتسويات والصفقات التي تدرّ أرباحاً ماليّة عليه وعلى منظّماته. هذا تغيّر في هذه الألفيّة. هناك حركات أفارقة - أميركيّين جدد، مثل «حياة السود ذات قيمة». الجيل الحراكي الجديد من السود يربط بين عنصريّة الصهيونيّة وبين عنصريّة البيض، وهو أكثر إدراكاً لتاريخ التحالف الوثيق بين أبرثايد إسرائيل وبين أبرثايد حكم الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا (ليس هناك إدراك في الكتابات العربيّة لهذا التاريخ العريق من التحالف بين النظامَيْن التوأمَيْن، كما أنّ التعاون النووي والاستخباري كان أساسيّاً لكلَا النظامَيْن العنصريَّيْن). حركة الحقوق السوداء الجديدة لم تعد مرتبطة بالمصالح المتنفّذة للحزب الديموقراطي، ولا حتى بالقادة الأفارقة - الأميركيّين في ذلك الحزب (وكان اللوبي الإسرائيلي شديد الحرص عليهم، وكانت «لجان العمل السياسي»، التي ترفد التبرّعات المنظّمة للأشخاص والأحزاب، تنشط في دعم القادة السود في داخل الحزب الديموقراطي).
يحاول الصهاينة طبعاً التعامل مع ذلك، كالعادة، عبر رمي تُهم معاداة السامية. لكنّ الجيل الجديد من السود لا يكترث للمعايير الليبراليّة التي تُسكت الأصوات المجاهرة في نقد إسرائيل، بمجرّد إصدار نقد شديد ضدّ إسرائيل. هؤلاء مصمّمون على تغيير جذري في النظر إلى واقع أميركا، في الداخل والخارج، ولهذا هم يربطون المعركة ضدّ العنصريّة في الداخل بالمعركة العنصريّة للإمبراطورية الأميركيّة المترامية الأطراف. وهل هناك أكثر من التحالف بين النظام العنصري الأبيض هنا، وبين الصهيونيّة في إسرائيل، للتدليل على حقيقة الطبيعة التأسيسيّة للكيان الاحتلالي؟ (وكما يقول باتريك حدّاد، إنّ طبيعة الأبرثايد أو عدمه في إسرائيل، ليست موضوعنا الوحيد في رفض شرعيّة الكيان: إذ أنّ الكيان فاقد الشرعيّة بحكم احتلاليّته بصرف النظر عن الجور والظلم وعدم المساواة في الدولة).
الحركة النسائيّة التقليديّة في أميركا تجنّبت نقد إسرائيل، لا بل إنّ المؤسّسات، مثل بتي فريدان ومولي يارد والينور سميل أيّدت إسرائيل، واعتبرت أنّ ذلك ينسجم لأنّ إسرائيل كان يُنظر إليها على أنّها دولة عصريّة تحترم النساء (وكان لتبوّء غولدا مئير منصب رئيسة الحكومة عاملاً مساعداً، كأنّ وصول أيّ امرأة إلى منصب هو إنجاز نسوي. كانت مئير، مثل مارغريت تاتشر، أو انجيلا ميركل، معادية للنسويّة). ونظرت هؤلاء النسوة إلى العرب من منظور استشراقي عنصري رجعي، ولم تلتفتن إلى اليسار الفلسطيني الذي كان يرفع شعار المساواة بين المرأة والرجل (طبعاً، كان هناك تفاوت بين الشعارات وبين الواقع على الأرض، فلا الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، ولا الجبهة الديموقراطيّة لديهما سجلّ مُشرّف في ذلك - وقد اعترف العظيم جورج حبش بذلك أمامي، بعد تقاعده). أمّا الجيل النسوي الجديد فهو يربط النضال ضد النظام البطريركي بالنضال ضدّ الإمبريالية الأميركية والصهيونية والعنصرية في العالم. ومن الصعب على سفارة إسرائيل الترويج لـ«الليكود» وبنيامين نتنياهو كحركة نسويّة (ولم يختلف الأمر في عهد «حزب العمل» الذكوري).
والشباب الأميركي، في مختلف القطاعات يبتعد عن إسرائيل. حتى في أوساط اليهود، فإنّ الشباب اليهودي يشعر برابط أقل مع إسرائيل من الأجيال السابقة. أكثر من ذلك، ففي غضون أقل من عقد من الزمن (من عام ٢٠١٣ إلى عام ٢٠٢٠)، انخفضت نسبة الارتباط بإسرائيل عند الشباب اليهود (من سن ١٨ - ٢٩) من ٦٠٪ إلى أقل من ٥٠٪ (بحسب استطلاع لمؤسّسة «بيو»)، والنسب هذه كانت غالبيّة مطلقة في الأجيال السابقة. لم تعد حتى فكرة الدولة اليهوديّة تعني لجيل يهودي جديد بات أكثر تشبّعاً بأفكار تقدّمية عن المساواة وذمّ العنصريّة (فقط ٤٠٪ من الشباب اليهودي في مدينة سان فرنسيسكو يقبل فكرة الدولة اليهوديّة، بحسب دراسة مستفيضة لستيفن إم. كوهين). وإذا كان الشباب الليبرالي الأميركي بات منقسماً بشأن تأييد إسرائيل مقابل تأييد فلسطين (كانت نسبة التأييد، في أوائل الثمانينيات، نحو ١٠٪ فقط لصالح فلسطين)، فإنّ هذا الانقسام بات يؤثّر على الجيل اليهودي الجديد، خصوصاً أنّ اليهود هم أنزع نحو الليبراليّة من غيرهم من الفئات الدينيّة. والمحرقة لم تعد تؤثّر في آراء الشباب اليهودي الجديد، كما كانت تؤثّر في أجيال آبائهم وأجدادهم. وهذه التغيّرات لا بدّ أن تُقلق صانعي القرار في إسرائيل.
2) لم تعد «ماركة» إسرائيل عابرة للحزبَيْن. قد يكون أكبر خطأ ارتكبه نتنياهو في تاريخ علاقته مع أميركا، هو ربط الماركة المسجّلة لإسرائيل بحزب واحد، وبعقيدة يمينيّة واحدة هنا. كان ديفيد بن غوريون أوّل من نقل عمل الحركة الصهيونيّة من أوروبا نحو أميركا في مؤتمر «بلتمور» (الفندق لم يعد موجوداً) في عام ١٩٤٢. قرّرَ بن غوريون أنّ أميركا ستكون منتصرة في الحرب العالميّة الثانية، وأنّها ستكون مركز الثقل الكبير، بدلاً من أوروبا (مثلما أنّ الحاج أمين الحسيني عوّل على فوز هتلر وعقد تحالفاً معه، مع أنّ دوره لم يكن ذا اعتبار في الحكم النازي، كما أنّ وصم دوره لم يكن ليتأثّر لو أنه مثلاً عقد تحالفاً مع بلجيكا). وحرصت القيادة الإسرائيليّة، عبر السنوات، على عدم المَيْل بين حزب وآخر هنا، كي يكون دعم إسرائيل «مزدوِجاً» بين الحزبين، بحسب الوصف السياسي الأميركي. ونتنياهو، الذي غالباً ما يشير إلى خبرته ومعرفته بأميركا، لم يدرك الضرر الذي سيلحقه بـ«ماركة» إسرائيل، خصوصاً في عام ٢٠١٥، عندما خاطب الكونغرس الأميركي من فوق رأس أوباما، وضدّ سياساته في الاتفاق النووي. ترتبط «ماركة» إسرائيل، اليوم، بأشخاص وأفكار غير محبّذة عند الشباب: من اليمين العنصري إلى دونالد ترامب، إلى نتنياهو ومعارضته لأوباما، الذي يحظى بشعبيّة شبابيّة.
الساحة الأميركيّة تتغيّر، وإن ببطء وتعلم الحركة الصهيونيّة أنّ الرباط الأميركي بها ليس أبديّاً


لكنّ ابتعاد الجيل الديموقراطي الجديد عن إسرائيل لم ينعكس على توجّهات قيادة الحزب الديموقراطي (قاعدة «حزب العمّال» في بريطانيا وقاعدة الحزب الاشتراكي في فرنسا معادية لإسرائيل، لكنّ قيادة الحزبَيْن لا تزال متعصّبة صهيونيّاً، ورأينا ما حلّ بجريمي كوربن عندما حاول أن يزيح سياسة «حزب العمّال» بعيداً عن الصهيونيّة). لكن ما جرى في أثناء الحرب على غزّة كان مذهلاً بكل المقاييس. خفتت أصوات مناصرة إسرائيل في قيادة الحزب الديموقراطي. لم يتغيّر موقف جو بادين، الذي اعتبر قتل الأطفال في غزّة من ضمن نطاق «الدفاع عن النفس» الذي لا حدود له. وهذا التعبير ليس إلّا رخصة قتل وجرائم حرب تمنحها الإدارات الأميركيّة المتعاقبة لدولة الاحتلال. لكن أن تصدر بيانات (وفي ظلّ إدارة ديموقراطيّة تناصر العدوان الإسرائيلي) من قبل قادة الكونغرس الأميركي، وهي - بالرغم من تأييدها لإسرائيل - تتحدّث عن الضحايا المدنيّين الفلسطينيّين، أو أن تساوي بين الضحايا في الجهتَيْن، فإنّ في هذا سابقة لم أعهدها في تاريخ إقامتي هنا. حتى رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، الذي تدرّبت على كرهه عندما كان شابّاً في الكونغرس الأميركي، في أوائل الثمانينيات، صمَتَ عن تأييد عدوان إسرائيل. هذا برأيي كان أبلغ تعبير لي عن تغيّر القاعدة الشعبيّة للحزب الديموقراطي وتأقلُم القيادات التقليديّة للحزب مع الواقع الديموقراطي الجديد. ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب منينديز (عضو عن ولاية نيوجرسي، ذات النفوذ الصهيوني الثقيل) أصدر بياناً عبّر فيه عن قلقه من عدد الضحايا الفلسطينيّين وقصف مراكز إعلاميّة في غزّة. لم أكن أتوقّع، ولم تكن دولة العدوّ تتوقّع، أن تصدر إدانات - وإن باهتة - من هذا النوع عن شخص صهيوني متعصّب، مثل شومر أو مثل النائب جيرالد نادلر (والاثنان يمثّلان دوائر نيويوركيّة ذات الثقل الصهيوني الأكبر). شيء ما يتغيّر، وهو في غير صالح إسرائيل. وحتى في صفّ قاعدة اليمين الصهيوني الجمهوري، أي «الايفانجليّين» المسيحيّين، فإنّ استطلاعاً للرأي أجراه شبلي تلحمي قبل أيّام، أظهر انخفاضاً كبيراً في نسب التأييد لإسرائيل في صف الشباب منهم: فقد نقصت النسبة من ٧٥٪ إلى ٣٤٪ فقط. وكل دعم ترامب لإسرائيل كان لمحاباة هذه الفئة وليس لمحاباة اليهود الذي اقترعوا في أكثريّتهم ضدّه.
3) معركة الإعلام الجديد. كانت حظوة إسرائيل تقليديّاً تكمن في السيطرة الحديديّة على الإعلام التقليدي. كان يكفي التواصل المستمر بين المؤسّسات الصهيونيّة وبين قادة شركات الأخبار الثلاث أو الأربع (في ما بعد) كي يتمّ نفي وجهة النظر العربيّة. قلّة فقط في الإعلام التقليدي حاربت سطوة الصهيونيّة في الإعلام (أشخاص من اليسار، مثل بيتر جننغز وتشارلز غلاس وآي. إف. ستون، وأشخاص من اليمين مثل بوب نوفاك ورونالد أيفنز). حرصت الحركة الصهيونيّة بصرامة على أن تكون وجهة نظر الصهيونيّة هي السائدة والمرجع في النظر إلى كلّ أوجه السياسة والحروب في الشرق الأوسط، وأن تتم الموازاة بين المناصرة الفلسطينيّة وبين النازية حيناً والإرهاب حيناً والشيوعيّة العالميّة حيناً آخر). في الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، عقد هنري كيسنجر اجتماعاً مع قادة الحركة الصهيونيّة ومسؤولين إسرائيليّين ونصحهم (في حديث تسرّب) بقمع انتفاضة الشعب الفلسطيني وإبعاد الإعلام. كلّ هذا تغيّر مع الإعلام الجديد.
خسر العدو المعركة على وسائل التواصل. استطاع العرب وأنصارهم من كلّ أنحاء العالم أن يحكموا السيطرة ببراعة على السرديّة عن الحرب الإسرائيليّة على غزة والقدس. استفاق اللوبي الصهيوني على حقيقة بروز إعلام جديد لا يخضع لمعايير وتأثير الصهيونيّة كما الإعلام التقليدي. يدرك الصهاينة ذلك، وتقوم منظمة «أي. دي. إل» الصهيونيّة النافذة بالتنسيق المستمر مع شركات التواصل الاجتماعي، خصوصاً «فايسبوك» (التي طُردتُ منها شرّ طردة أخيراً) وذلك لفرض معايير صهيونيّة للخطاب والسجال، وحتى للأسماء والمصطلحات والصور. لكنّ هذه التدابير القمعيّة من قبل «فايسبوك» باتت مفضوحة، وهي تلقى الاستنكار من الجيل الشبابي. والجيل الجديد لا يتابع الإعلام التقليدي (من صحف أو من شاشات) وهو يلاحق الأخبار عبر مواقع التواصل. استطاع جيل مواقع التواصل أن ينشر ويوثّق جرائم إسرائيل. هذه المشاهد كانت ممنوعة في تاريخ الصراع عن الشاشات الغربيّة. وكان النفوذ الصهيوني يمنع وصول هذه المشاهد، حتى إلى شاشات دول العالم النامي. الرقيب العسكري الصهيوني كان يقرّر ما يجوز وما لا يجوز نشره، ليس فقط في إعلام العدوّ بل في إعلام العالم كلّه. الهواتف الذكيّة وسيلة لا يمكن الرجوع إلى ما سبقها. وهناك تقارير إسرائيلية (مثل «معهد الأمن القومي الإسرائيلي») تتحدّث، قبل أيّام، عن قرار إسرائيلي بمنع وسائل الإعلام في الحرب المقبلة. لن يؤثّر ذلك على التغطية أبداً. إنّ معظم المشاهد للوحشية الإسرائيليّة كانت مستقاة من هواتف ذكية في أيدي الفلسطينيّين. إنّ فكرة منع الإعلام الصادرة عن مركز أبحاث إسرائيلي تدلّ على الإرباك، لا بل التخلّف، الذي أصاب التفكير الصهيوني بورطة سقوط إسرائيل الذريع في إعلام العالم. كان يمكن لمنظمّة صهيونية أن ترسل في الماضي وفداً رفيع المستوى للقاء ناشر «نيويورك تايمز»، أو رئيس شركة «سي.بي.إس»، كي تضمن منع تصوير وجهة نصر معادية لإسرائيل في الجريدة أو الشبكة. ماذا يمكن أن تفعله المنظّمات الصهيونيّة بهواتف الفلسطينيّين؟ تستطيع أن تدمّر شبكات الهواتف، لكنّ الصور والعذابات والوحشيّة ستكون موثّقة، لا محالة.
خسارة الإعلام هي الأكثر ضرراً على المصالح الصهيونيّة، لأنّ ذلك يؤسّس ويربّي جيلاً جديداً، هنا وحول العالم. وحشيّة الحرب الإسرائيلية على غزّة ستترسّخ في أذهان أجيال جديدة، بيضاء وسوداء وسمراء. هي ستمنع قدرة الحركة الصهيونيّة على تغيير أنماط التفكير بشأن الشرق الأوسط. وليس هناك من أثر لفوز الإعلام في المعركة الأخيرة أكثر من الحيرة التي أصابت إعلام الصهيونيّة العربيّة: حاول الإعلام العربي التطبيعي أن يتجاهل الوحشيّة الإسرائيلية، وأن يُعيّن إسرائيل في حملاتها الدعائيّة (جريدة «عكاظ» صدرت قبل يومين، بصفحة أولى تتضمّن إدانات صارخة لكلّ حركات المقاومة في غزّة. واستطاع وزير الخارجيّة السعودي، فيصل بن فرحان، أن يُلقي خطبة عن الحرب في غزة أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة، من دون أن يذكر كلمة غزّة. كما أنّ موقع «ميغافون» اللبناني، اللصيق بأجندة فارس سعيد، استطاع أن يتحدّث يومياً عن فلسطين لكن حصراً عن الشيخ جراح، لأنّ الحديث عن غزة لا يمكن أن يتجاهل مقاومة أهل غزة، والمقاومات ضد إسرائيل تتناقض، ليس فقط مع أجندات هذه المواقع، بل مع أجندات المُموِّل الغربي «المستقل». وما هذه البدعة الجديدة بأنّ المواقع الإعلاميّة العربيّة التي تتلقّى التمويل من الدول الغربيّة، أو من الرجعي الصهيوني، جورج سوروس، تصف نفسها بأنّها مستقلّة؟).
4) خسارة وهج الجيش الذي لا يُقهر. كان هناك للعدوّ وجيشه بريق خاص بعد حرب عام ١٩٦٧. استثمرت الدعاية الصهيونيّة كثيراً في نشر المبالغات عن حرب عام ١٩٦٧، والتي كانت بحق هزيمة شنيعة لنا. لكنّ نتائج الحرب كانت معروفة سلفاً (كلّ تقارير الحكومة الأميركيّة التي أشار إليها ويليام كونت في كتابه، «مسيرة السلام»، تحدّثت عن يقين أميركي في إدارة جونسون بنصر كاسح لإسرائيل في الحرب المقبلة). لكنّ العدوّ قلّل من قدراته العسكريّة الذاتيّة وبالغ أيّما مبالغة في قدرات خصومه العسكريّة وذلك بغرضَيْن: ١) تعبئة شعبه وإيهامه بأنّ المعركة ستقرّر وجود أو غياب الكيان، فيما لم يكن هناك - للأسف - أيّ تهديد للكيان بحكم ضعف الجيوش العربيّة وعدم أهليّة المشير، القائد الأعلى. وبالفعل، حارب جيش الاحتلال على أساس فرضيّة أنّ نتيجة الحرب ستقرّر مصيرنا على هذه الأرض. ٢) أراد العدوّ أن يجعل من نصره أمراً غير متوقّع، إنّه أراد قطف ثمار وهج النصر الساحق. كانت الفكرة (الخاطئة) أنّ إسرائيل الضعيفة والوديعة هي التي انتصرت على «جيوش» عربيّة مجتمعة ضدّها. وهذه البروباغندا هي عينها عن حرب ١٩٦٧: فالسرديّة عنها في الغرب تفيد بأنّ سبعة «جيوش عربيّة» هاجمت العصابات الصهيونيّة، لكنّ الأخيرة هزمتها (مع أنّ عدد المقاتلين كان أكبر بكثير لصالح العدوّ، ويكفي أن نذكّر بأنّ جيش لبنان المسرحي، كان واحداً من هذه الجيوش، وكان متآمراً ضدّ الجيوش العربيّة، التي لم تكن هي بدورها جادّة في الحرب من أجل فلسطين). الوهج العسكري الإسرائيلي كان ينال الإعجاب، لكنّه يُهمز مؤخّراً، وباستمرار، على يد متطوّعين أشدّاء في لبنان وغزة.
الساحة الأميركيّة تتغيّر، وإن ببطء. وتعلم الحركة الصهيونيّة أنّ الرباط الأميركي بها ليس أبديّاً. والبلاد تخسر النفوذ التقليدي للرجال البيض، كما أنّ «ماركة» إسرائيل صارت خارج الموضة. كان أبرز نجوم هوليوود، في الخمسينيّات والستينيّات، يروّجون لإسرائيل، أمّا اليوم فإنّك لا تجد إلّا الكبار في السن من نجوم أفلام العنف، وهم يؤيّدون إسرائيل وجيشها. الجناح التقدّمي الجديد في الحزب الديموقراطي، لا يخشى اللوبي الإسرائيلي وهو يصطدم به باستمرار. والتحالف الذي دعّمه نتنياهو، في بداية عمله السياسي، مع الحكومة الأميركيّة على أساس محاربة الإرهاب ينهار تحت وطأة وحشيّة إسرائيليّة يراها جيل غربي جديد على أنّه الإرهاب بعينه. التغيير ضدّ إسرائيل آتٍ لا محالة، لكنّ ذلك سيتقرّر في الميدان، وليس في مواقع التواصل أو في الكونغرس.
* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@