كل قرارات الحصار التي أعلنتها أو اتخذتها إدارات الولايات المتحدة الأميركية على مختلف البلدان في العالم، في كل تاريخها، هي قرارات غير قانونية ولا تتصف بأية شرعية دولية، وهي في جانب رئيسي ترقى إلى قرارات إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، تنتهك أبسط حقوق الإنسان، الذي هو حق الحياة. ولهذا فإن الصمت على هذه القرارات والتواطؤ معها مشاركة فعلية فيها وينبغي اعتبار كل من أصدر القرار وأيّده ودعمه إعلامياً وتنفيذاً، شريكاً في نتائجه، وتجب محاكمته وإدانته قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً، وهذه مهمة القانون الدولي ومشرّعيه، وقوى الحرية والعدالة والتغيير على المعمورة.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
أما الادعاءات والأسباب التي تضعها الجهات الغربية، ولا سيما الإدارات الأميركية، لتبرير قرارات الحصار ودعوتها للتخادم معها في تشديده، تضعها تحت بنود عقوبات تأديبية أو إجراءات سياسية متعمدة، وفي أغلبها أحادية المصدر، ضد حكومات ودول مستقلة وذات سيادة وترفض الخضوع والاستكانة للهيمنة الإمبريالية. وما تعمل به القوى الإمبريالية في إصدار قرارات الحصار والعقوبات وشن الحروب والعدوان، بالتأكيد، لا تنظر إلى عواقبها الإنسانية والأخلاقية على الشعوب وخياراتها الوطنية، بل لا تراعي المعاناة التي تكابدها الشعوب جراءها، ولا سيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة منها وتكون بالتالي الضحية المنسيّة في مثل هذه القرارات والعقوبات. لقد فرضت الإمبراطوريات الاستعمارية مثل هذه القرارات على شعوب كثيرة لمختلف الأسباب، ونُفذت واسعاً في بلدان عربية متعددة. أضاف إليها في الوطن العربي خصوصاً، تخادم بعض حكومات عربية أو بعض مسؤوليها، وأحياناً تتبرع بعض تلك الحكومات العربية بالضغوط المختلفة وتقديم الذرائع ضد الأخرى، أو التفرج عليها دون أن تبذل جهداً، بل أحياناً تسعى إلى تدويلها ولا تحاول أن تساعد أو تتضامن، وحتى بغيرها من القرارات المتخذة سلفاً أو التي تتعلق بالقضايا المركزية، وأُولاها قضية الشعب الفلسطيني العادلة. ما يعني بالتالي أن محاصرة شعب عربي تتم بأيدٍ وبموافقات عربية رسمية في الأغلب. والوقائع تقدم أن عواقبها تسبب أضراراً مباشرة التأثير على التمتع بالحق في الحياة، الذي هو أصل كل حقوق الإنسان، واستمرار الحصار في بعض البلدان يؤدي إلى انتشار المجاعة. وهذا انتهاك صارخ آخر لحق الحياة. كما أن الوصول إلى هذا الهدف أسلوب من أساليب الموت البطيء لا يختلف عن التعذيب المحرم دولياً. ويؤدي المهمة هذه بأشكال معروفة، ويحاول صاحب قرار الحصار، التحجّج أو التذرع بأنه يوصل إلى صناعة أوضاع مأزومة بين الحكام والمحكومين، من خلال زعزعة الأسس الاقتصادية للدولة وإنتاج حالات سخط وغضب تنعكس على الحكم وتتطلب تغييره. وحتى هذا الهدف يرد عليه بأنه مصادرة لحق المواطن في تقرير المصير، وتدخل في إرادة الشعب في اختيار حكومته وآليات الديمقراطية الحقيقية. وتعكس تداعيات الحصار المباشرة أيضاً على حريات المواطنين في العيش الكريم والاضطرار للنزوح والهجرة إلى مناطق أخرى قد لا تكون مؤمّنة لحياة لائقة.
على العموم، إن تجارب البلدان التي خضعت لمثل هذه القرارات قاسية ومؤلمة، وما زالت آثارها وأضرارها واضحة في فلسطين والعراق واليمن وليبيا، كأمثلة صارخة. وبالتالي أو التوازي تأتي قرارات الحصار والعدوان على الدولة السورية. فبعد تمديد الاتحاد الأوروبي عقوباته المفروضة منذ سنوات، تصر الإدارة الأميركية على استمرار احتلالها لمنابع النفط السورية وتصعيد قرارها في العقوبات والحصار، باسم حماية المدنيين في سوريا. في الوقت الذي يناشد، حتى الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش برفع كل العقوبات... وليس آخرها ما يُسمى «قانون قيصر» الأميركي الذي يوسع العقوبات، بحيث لا تقتصر على الأشخاص والكيانات التابعة للحكومة السورية وحسب، بل أيضاً حميع الجهات التي تتعامل معها من مختلف أنحاد العالم وفي مقدمتها الشركات الروسية والإيرانية. ويعتبر مراقبون هذا القانون الذي بدأ العمل به في 17 حزيران/ يونيو 2020 حالة فريدة من عقوبات شاملة، ربما لم يعرف العالم مثيلاً لها منذ نهاية الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي. أي أنه قرار إبادة لشعب وانتهاك لكل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وطغيان القوة والتآمر وفرض الإذعان غير المبرر. وعملياً تعرض الشعب السوري إلى أزمات اقتصادية حادة، وظروف معيشية صعبة، وضغوط حرمان وعدوان نفسي واجتماعي وإعلامي بمختلف الأساليب والوسائل، خلال الأيام التي سبقت القانون ومهدت له من قبل أطراف عدة أبرزهم أصحاب القانون وسياساتهم العدوانية المعروفة على الأرض... ولم يستمع إلى تحذير الأمم المتحدة وبرنامج الغذاء من تهديد المجاعة لملايين السكان في سوريا وانعكاس العقوبات على لبنان أيضاً. ولا بدّ من النظر بجدية وبمعيار قانوني وإنساني إلى أن الحصار عملياً قرار يُنتج إبادة جماعية وجرائم حرب وضد الإنسانية. وتتحمل الجهات التي تقرره المسؤولية كاملة، وتلك التي تضعه وسيلة لتبرير تدخلاتها في شؤون غيرها لمصالح لا تخدم الشعوب التي تعاني منه، ولا تخدم في نهاية الأمر الاستقرار السياسي والأمن والسلم والتنمية وحقوق الإنسان. وتجب محاكمة القرار وأصحابه بما ينتجه من أضرار بالغة، ولهذا فإن المنتدى العربي والدولي هذا خطوةٌ على طريق محاكمة القرارات العدوانية وأصحابها، وانتصار الشعب العربي السوري وحريته واستقلال دولته وإرادته التحررية ضد الإمبريالية ومرتزقتها، وإعلان بصوت عالٍ للتضامن العربي والدولي ضد كل أشكال الحصار والعدوان والاحتلال.
* كاتب عراقي - مداخلة ألقيت في «المنتدى العربي والدولي لرفع الحصار والعقوبات وقانون قيصر عن سوريا» (29 نيسان/ أبريل 2021).