من يوقف إطلاق النار أوّلاً؟كان ذلك سؤالاً ضاغطاً وملحّاً على مراكز القرار الدولي والإقليمي، فيما المواجهة المسلحة بين الجيش الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية تأخذ مداها تخريباً وتدميراً للأبراج السكنية والبيوت والبنية التحتية المتهالكة، إثر الحصار على غزة، وإيلاماً للإسرائيليين بصواريخ المقاومة التي كسرت هيبة الدولة العبرية وعطّلت حركة الحياة وأشاعت الخوف في جنباتها ومراكزها الحيوية.
لم يكن السؤال مجانياً بقدر ما كان تعبيراً عن موازين قوى اختلفت هذه المرة عن أيّ مواجهات سابقة بالسلاح.
إذا ما أوقفت إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة أولاً بضغط دولي، أو خشية أي انهيارات محتملة في الروح العامة لمواطنيها، فإن الفشل سوف يكون مدوياً وينال من فرص رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" في أيّ مناورة سياسية تبقيه على رأس الحكومة وتجنّبه السجن باتهامات فساد.
وإذا ما أوقفت الفصائل الفلسطينية ضرباتها الصاروخية قبل آلة الحرب الإسرائيلية، رغم فوارق القوة الهائلة بين الجانبين، فإنها قد تتيح لـ"نتنياهو" فرصة ادّعاء نصر لم يحدث يخاطب به مخاوف الرأي العام الإسرائيلي.
ما هي سيناريوات اليوم التالي بعد وقف إطلاق النار؟!
سوف يجري كلام كثير بالالتفاف حول جوهر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتجري اتصالات ومبادرات دبلوماسية من الأطراف أنفسهم الذين سوّغوا لإسرائيل قصف المدنيين وارتكاب جرائم حرب باسم حقها في الدفاع عن النفس!
هذه المرة الصور تختلف عن كل حروب غزة السابقة، السياق العام وموازين القوى والرسائل والتداعيات سوف تأخذ مداها في بنية المجتمع الفلسطيني وتركيبته السياسية، كما في بنية المجتمع الإسرائيلي بتناقضاته السياسية وما بدا عليه من أحوال اهتزاز وشيخوخة أوحت بهشاشة بنيته وعدم قدرته على مواجهة استحقاقات التمدد بالتغول على الفلسطينيين والإقليم كله، كما صوّرت له أوهام وأساطير!
لم تكن المواجهة في المقام الأول عسكرية، ولا حدودها اقتصرت على غزة، أو على فصيل بعينه.
شملت المواجهة بالتزامن فلسطين التاريخية كلها، القدس والضفة الغربية وغزة وما خلف الجدار حيث "عرب 1948".
اندمجت الفصائل الفلسطينية في هبّة واحدة من دون تخطيط مسبق تأكيداً لـ"وحدة الشعب والقضية"، كما لم يحدث منذ اتفاقية "أوسلو" عام (1993)، التي استهدفت تفكيك تلك الوحدة، وإنهاء القضية نفسها كقضية تحرر وطني.
تأكدت وحدة المصير الفلسطيني في شجاعة تحمل كتل النيران التي انهالت على غزة، فهناك قضية تستحق الحياة والموت من أجلها، كما في التظاهرات الاحتجاجية، التي دافعت بالصدور العارية عن المسجد الأقصى، أو ضد إخلاء حي "الشيخ جراح" بجريمة تطهير عرقي متكاملة الأركان.
تأكدت مرة أخرى وحدة المصير الفلسطيني فوق الفصائل في الإضراب العام، الذي شمل الضفة الغربية.
كان نجاحه ساحقاً، ورسائله لا سبيل للتشكيك فيها.
جرت اشتباكات عند خطوط التماس أعادت مشاهد الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجر، التي جرى إجهاض نتائجها باتفاقية "أوسلو".
الأخطر من ذلك كله ما أبداه عرب (1948) في المدن العربية، أو المختلطة، من إرادة تضامن بدّدت أوهام وأساطير "إسرائيل الديمقراطية" حيث تبدّت طبيعتها العنصرية كمجتمع يشبه ما كان قائماً في جنوب أفريقيا قبل تحريرها من ربقة "الأبارتهايد".
نحن أمام مشهد جديد مختلف عما هو معتاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أكثر شمولاً من أيّ انتفاضة سابقة، وأوسع مدى من أيّ مواجهة عسكرية جرت بين الاحتلال والمقاومة.
ما حدث بعد الانتفاضة الأولى سوف يتكرر مرة أخرى.
بصورة ما سوف تجري محاولات حثيثة لإعادة القضية الفلسطينية إلى "مربع أوسلو"، أو الفصل بين مكوّناتها الإنسانية والسياسية، التي تجلت تحت دخان القنابل، أو بغضب الصدور.
لم يستند الادعاء المتكرر من مراكز دولية عديدة، كالبيت الأبيض أو قصر الإليزية أو دار المستشارية الألمانية، بأن لإسرائيل الحق في "الدفاع عن النفس"، إلى أيّ قيمة أخلاقية، أو إنسانية، بقدر ما استهدف إفساح المجال أمامها لكي تمارس الحد الأقصى من التخريب والتقتيل للمدنيين خشية أن يقال إنها تلقّت هزيمة تهزّ هيبتها وتترتب عليها أوضاع استراتيجية جديدة في الإقليم.
إنكار الحق نفسه عن الطرف الآخر، الذي يتعرض للاحتلال والإقصاء والتمييز العنصري، بدا محاولة للإبقاء على موازين القوى المختلة على النحو الذي سوّغ للرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" أن يدعو إلى "سلام القوة"، ولرئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو" أن يتحدث عن "السلام مقابل السلام"!
كانت المقدمات تشير إلى أن انفجاراً كبيراً قد يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
قبل عام بالضبط من انفجار الحوادث في الأراضي الفلسطينية المحتلة كتبت في (3) مايو (2020): "إننا بالقرب من أخطر انعطافة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي".
لم يكن ذلك رجماً بالغيب، فلكل فعل ردّ فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
ما يحدث الآن في فلسطين ردّ فعل تاريخي على ما تعرّضت له قضيتها من استخفاف واستهانة فيما كان يطلق عليه اسم "صفقة القرن"، أو في موجات التطبيع المجاني، من دون نظر أو اعتبار لما يتعرض له أهلها من امتهان إنساني وتمييز عنصري واستيلاء على الأراضي ونزع أي حق يكفله القانون الدولي عنهم.
بصورة أو أخرى عبّرت الحسابات الغربية، الأميركية خصوصاً، عن نفسها فيما أبداه مجلس الأمن الدولي من عجز عن إصدار بيان يدعو إلى وقف إطلاق النار، حتى تأخذ إسرائيل وقتها في تدمير غزة بأقصى حمولات النيران انتقاماً لفشلها شبه المعلن في الحرب، لم تصل إلى قادة المقاومة المسلحة كما اعترفت، ولا نجحت في إيقاف وابل الصواريخ التي شلّت الحياة فيها.
في تلك المواجهة غير المتماثلة سقطت أسطورة الذراع الإسرائيلية الطويلة، اخترقت القبة الحديدية بصواريخ المقاومة، بدا أن هناك فشلاً استخبارياً لا يمكن إخفاؤه، أنهكت إسرائيل بفتح جبهتي السياسة والسلاح معاً، الضفة وغزة في الوقت نفسه، تبدّت هشاشتها في ما وصفته وسائل إعلام دولية بـ"الحرب الأهلية" بين سكانها بحسب انتمائهم العرقي والديني.
بدت الدولة العبرية الهرمة معرّضة لاحتمال ضربها بصواريخ أخرى أكثر تقدماً وتدميراً عبر الحدود، من الجنوب اللبناني، أو من سوريا، كما أشارت وسائل إعلام إسرائيلية.
كان ذلك تعبيراً في أزمان جديدة ومختلفة عما كان يُطلق عليها في الخمسينيات والستينيات حتى حرب أكتوبر (1973) "دول الطوق".
في المواجهة العسكرية غير المتماثلة يتكشّف قدر المبالغة في حدود وطاقة القوة الإسرائيلية، حتى إن هناك من تصور أن بوسعها في وقت واحد ضرب المشروع النووي الإيراني وفرض هيمنتها على حوض نهر النيل بالتواطؤ على مصر في أزمة سد النهضة الإثيوبي وتوفير الحماية لدول الخليج أمام العدو الافتراضي المشترك وقمع الفلسطينيين بالتمدد والتغوّل على أراضيهم.
كان ذلك وهماً دعائياً تبدّد في الهواء عندما فُتحت جبهات الصراع داخل فلسطين التاريخية.
إنقاذ إسرائيل لا إنصاف الفلسطينيين سوف يحكم الحركة الدبلوماسية الغربية بعد أن تصمت الصواريخ باسم البحث عن حل سياسي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
قد يُدعى إلى مؤتمر دولي في باريس، أو أي عاصمة أوروبية أخرى، لإعادة ضخ الحياة فيما يسمى "حل الدولتين".
المشكلة أن مشروع حل الدولتين استنفد فرصه بمشروعات التوسع الاستيطاني حتى لم يعد متبقياً ما يصلح لتأسيس دولة عليه.
بالقدر ذاته، فإن مشروع "الدولة الواحدة"، دولة كل مواطنيها، تقوّضت ركائزه بقدر ما تكشّف من تمييز عنصري تجاه كل ما هو عربي في المواجهات التي جرت خلف الجدار.
الأزمة مستحكمة وحلحلتها بقفزات الهواء مستحيلة.
الأرجح أن تخفق التحركات الدبلوماسية المحتملة أمام حائط العنصرية الصهيونية، غير أن ما جرى في الميدان من مواقف ومواجهات عبّرت عن وحدة الوجدان والمصير الفلسطينيين سوف يطرح بإلحاح قضية "الوحدة السياسية الفلسطينية" للنظر في ما هو مقبل من تساؤلات وجود ومناورات سياسية.

*كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا