تشكّل المواجهة القائمة حالياً بين الشعب الفلسطيني بمختلف فصائل مقاومته وقواه من جهة والكيان الإسرائيلي من جهة أخرى نقطة تحوّل كبرى في الصراع بين شعوب منطقتنا وقوى الهيمنة. ولا يصحّ وضع التطوّرات الراهنة إلّا في خانة انتصارات محور المقاومة على العدو، على قاعدة الانتصار بالنقاط المعبّد لطريق الانتصار النهائي، الذي تؤشّر كل مجريات الأحداث الراهنة والسابقة إلى حتمية قدومه. والقيام بمقارنة المعادلات وقواعد الاشتباك التي كانت قائمة قبل العدوان الإسرائيلي الحالي، وتلك التي يدخلها ويثبّتها الفلسطينيون اليوم، يؤكّد النتيجة التي أسلفنا.
سابقاً، نجحت الإدارة الأميركية وأدواتها في منطقتنا في طمس جوهر الصراع وتعمية حقيقته بنسب مرتفعة خلال العقود الماضية. واستطاعوا أن يزيغوا بوصلة الكثير من شعوب منطقتنا عن أولوية مواجهة العدو الإسرائيلي، فقام العديد من الشعوب بإنزال الأولوية هذه من رأس السلّم الى قدمه. حيث تم "إقناع" هذه الشعوب، بفعل الدعاية والهجمات الغربية والرجعية المتتالية، بالسردية القائلة إن وجود "إسرائيل" وأثره وقرار مواجهته من عدمه هي مسألة فلسطينية صرفة، وإن إفقار الشعوب العربية ناتج عن أسباب داخلية فقط لا علاقة للهيمنة الأميركية فيها. ولم يكتفوا بهذا المقدار، بل توغلوا بالتجزئة إلى داخل الساحة الفلسطينية، وأرسوا معادلات تقسيمية ثبّتت إطفاء التفاعل الفلسطيني-الفلسطيني من خلال فصل غزة عن أراضي الـ 48 والقدس والضفة. لذلك كانت المواجهات السابقة ترتسم بجولة بين كيان العدو وأهل غزة، وجولة بينه وبين عرب الـ 48، وجولة أخرى بينه وبين أهل الضفة، وجولة أخيرة بينه وبين المقدسيّين كلّ على حدة.

أمّا ما بعد بدء العدوان الإسرائيلي الأخير، فقد أسقطت فصائل المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني كل هذه المعادلات. حتّى إن دخول فصائل المقاومة إلى المعركة جاء تلبية لنداء المقدسيّين واستجابة لمناشداتهم، فكانت كل غزّة إلى جانب القدس. وتدحرجت كرة المواجهات سريعاً إلى أراضي الـ 48 والضفة، فكانت فلسطين بكلّها وكلكلها من بحرها إلى نهرها موحّدة في قلب المواجهة مع العدو، يتفاعل بعضها مع بعضها الآخر. وهنا سقطت معادلة التجزئة والتقسيم في الداخل الفلسطيني. وهذا التفاعل تخطّى الحدود الفلسطينية ليصل إلى غالبية الشعوب العربية التي تحرّكت نصرة لقضيتهم المركزية، مشكّلة بذلك نواة أساسيّة لاستعادة دورها الطبيعي المطلوب في معركة التحرّر من الهيمنة الأميركية، وواضعة معادلة تحييد شعوب المنطقة على خط السقوط، وهي تستعيد فهمها لحقيقة الدور الذي يؤدّيه الكيان الإسرائيلي في هذه المنطقة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى هذا الدور وماهية وجود "إسرائيل"، لكيلا يغيب عنّا ارتباط سوء حالنا العربي، وليس حصراً الفلسطيني، بوجودها واستمراريتّها. فالاستعمار الغربي الذي أنشأ ويحمي بشكله الجديد المتمثّل في الهيمنة الأميركية هذا الكيان الإسرائيلي، إنما أراد له دوراً أساسيّاً في ضرب أي نظام أو حركة تحرريّة تنهض في المنطقة تعمل لاستعادة ثروات شعوبها. لأن العامل الرئيسي في إفقار شعوبنا هو نهب الثروات الذي تمارسه الإدارة الأميركية ومن معها منذ زمن بعيد، والذي تحميه "إسرائيل" التي أسهمت أيضاً بحكم الموقع الجغرافي الذي أنشئت فيه في فصل المنطقة وتشظيتها إلى كيانات خاضعة مصطنعة وقطع أوصالها وأسواقها وفرط تشابك إنتاجها وضرب طرقاتها وممرّاتها التجارية وتثبيت الحدود الوهمية، والتي تحاول الإدارة الأميركية تقسيمها أكثر على الدوام. لذلك نرى، بمجرّد أن تنشأ قوى تحرّرية في عالمنا العربي والإسلامي تعمل على استعادة ثروة شعوبها، يعمل الكيان الإسرائيلي مباشرة على تهديدها وضربها، كما هي الحال مع إيران وسوريا ولبنان والعراق واليمن وغيرها من الساحات، ما يعني أن استمرارية "إسرائيل" هي تهديد لكل شعوب منطقتنا وليس للشعب الفلسطيني وحده، وهي تكريس لبقاء كل الشعوب أسيرة نهب ثرواتها وإفقارها. وفي المقابل، فإن إزالة إسرائيل من الوجود هي شرط أساسي لكي تستعيد الشعوب ثرواتها وتشبّك خطوط إنتاجها وتوحّد أسواقها، وبالتالي تقدّمها وازدهارها.

هذه هي المعادلة التي يكرّسها الشعب الفلسطيني اليوم بسلاحه وصواريخه ودمائه، لذلك هو بحق يصوّب بوصلة المنطقة بأكملها التي يجب على شعوبها أن تغتنم الفرصة وتجعلها منطلقاً جديداً لوثبة نوعية كبيرة في صراعنا مع الهيمنة الأميركية.

*باحث اقتصادي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا