في ظلال هذه الحرب المستمرة التي شنت على الشرق من بداية القرن الماضي، والتي ازدادت استشراساً مع بدايات الألفية الثالثة على إثر أحداث 11 أيلول، وبعد سبعين عاماً على إنشاء الكيان الصهيوني وزرعه وفرضه على حساب الشعب الفلسطيني المظلوم، أقصى ما يعرضه علينا الغرب وربيبته إسرائيل هو التفاوض. وهناك فرق كبير بين التفاوض والحوار؛ فبحسب التجربة والعلم الديبلوماسي، أصبح من المعلوم والمسلم به أن التفاوض هو آلية حرب على الطاولة تهدف الى تكريس المكاسب التي حققتها الحرب على أرض الواقع.التفاوض عملية يكمّل فيها الذكاء الديبلوماسي ما أنتجه التفوق العسكري بهدف تحويل المكاسب الآنية الى مكاسب مؤبدة غير قابلة للتغيير، حتى لو تغيرت بشكل نسبيّ توازنات القوى.
التفاوض في الحالة الفلسطينية منذ سنة 1993، كان ولا يزال آلية قتل يومي للفلسطيني من دون كلفة، وعملية قضم تدريجي للأرض الفلسطينية من دون مقاومة. كل ما في الأمر أن شبكة مصالح تم بناؤها بين أركان السلطة والكيان المحتل تكفلت بمنع الفلسطيني من رد الفعل الطبيعي على جرائم القتل والقضم، وفي إطار هذه العملية يموت من الفلسطينيين يومياً ما يفوق عدد الشهداء الذين يمكن أن يسقطوا في عمليات مقاومة متواصلة وحرب تحرير عنيدة. معادلة التفاوض من أجل التفاوض تسير مع القتل والقضم وتجريم العمل المقاوم ... وفلسطين التاريخية تكاد تموت نهائياً أو تختفي.
وقد شهدت الساحة الفلسطينية انقساماً حاداً بسبب إصرار بعض القيادات السياسية على المراهنة العبثية على تحصيل مكاسب من المفاوضات، فيما تتغير توازنات القوى على الأرض لمصلحة إسرائيل، ما يدل على نوع من الجهل أو من التجاهل لأصول علم التفاوض الذي لا يكف عن تأكيد حقيقة مرة تفيد بأنك لا تستطيع أن تنتزع من عدوك مكسباً على الطاولة إذا لم تكن مؤهلاً لانتزاعه بالقوة على الأرض... وهذا ما استفدناه من التجربة اللبنانية وقبلها الفيتنامية والجزائرية وغيرها من التجارب المتألقة في تاريخ الحروب التحريرية المعاصرة.
وهنا يبرز الفارق الأساسي بين التفاوض والحوار؛ فالتفاوض ممكن بين الأعداء، أما الحوار بينهما فمستحيل، لأنه لا يكون الا بين ندّين هما الذات والآخر، مع احترام متبادل يمنح مصالح كلا الطرفين فرصة للتحقق عن طريق الحوار.
فإذا كانت إسرائيل لا تعترف أصلاً بوجودك، فإنه ليس أمامك إلا أن تفرض نفسك عليها. وإذا كان الغرب لا يرى الآخر إلا من موقع الاستكبار، فإن أصل الحوار وشروطه ليست متوافرة في ظل هذه المعادلة المجحفة بحق العرب والمسلمين.
من أخبث الألعاب اللغوية التي تمارس اليوم هي تحويل العدو الى آخر، وتصوير التفاوض على أنه حوار، ما يمنح القتل مشروعية الاستمرار ما دام التفاوض المسمّى حواراً يتغذى من دم القتلى والشهداء.
إن أطروحة المقاومة قائمة أساساً على الفصل بين التفاوض والحوار لكي يتعرّى التفاوض من مشروعية الحوار، ولتتهيّأ الظروف الموضوعية لحوار نديّ مع الآخر الذي يعترف بنا كآخر ويحترمنا كذات حضارية، ولكي تكون هناك حرب مكشوفة مع العدو، كاشفة لمكر السياسة وألعاب اللغة التي تلبس حربها علينا لبوس "عملية السلام" المستمرة حتى آخر فلسطيني، وآخر زيتونة، وبعد بناء آخر مستوطنة.
إن المصرّين على مقولة التفاوض مع إسرائيل من دون أي مكسبٍ ملموس إلا للعدو، من المستبعد أن يكونوا أغبياء، ولهذا فهم شركاء، شركاء في دم المقتولين يومياً باليد الاسرائيلية في فلسطين التاريخية.
المقاومون وحدهم هم الذين يدركون بعمق ويعبّرون بصدق ووضوح عن العلم بأهمية توازنات القوة في عالم تحكمه في كل مجالاته توازنات القوة. والمقاومون وحدهم يعلمون أن كسر معادلة الحرب_ التفاوض وتحرير الأراضي المحتلة يمثلان مقدمة بديهية لحوار حضاريّ بين الشرق والغرب. يعني حتى الذين يريدون تأييداً عالمياً لقضيتهم، لا يمكن أن يسمع صوتهم ويحترم رأيهم إلا إذا حرروا أرضهم بالقوة .
لقد كان احتلال فلسطين نتيجة لاختلال العلاقة بين الشرق والغرب، لذلك سيكون تحريرها بالكامل مقدمة لعودة التوازن في العلاقات الدولية والحضارية.
ثم إن التفاوض يسير جنباً إلى جنب مع الفتنة الداخلية، والانقسام السياسي والاجتماعي، لأن المفاوضين لا يعبّرون عن الإرادة الشعبية، فهم مدفوعون بحكم خيارهم التفاوضي إلى الاستقواء بالأميركي والإسرائيلي بسبب هشاشة قاعدتهم الشعبية، وإلى محاولة تهميش قوى المقاومة التي تعبّر عن الإرادة الشعبية الحرة والمتحررة من هالة العدو الأميركي والإسرائيلي.
أما خيار مقاومة العدو على الحدود ومحاورة الآخر في الوطن فيؤسّس للسلام الداخلي، ويحول إسرائيل إلى عبء على الغرب يجبره على الاعتراف بأهل الشرق الذين أدمن ظلمهم واضطهادهم ونهب ثرواتهم والتهوين من شأنهم.
ومن هنا نجد أن قيادة المقاومة مستعدة للحوار حتى الشهادة في الساحة الداخلية، وقد سقط لها بالفعل شهداء في مسيرة الحوار والسلام الداخلي، فيما هي مستعدة للقتال حتى الشهادة على الحدود وقد قدمت نهراً من الدماء في هذا السبيل، وأثمر الدم كشفاً لنقاط ضعف العدو، مع كل انتصار تحقق في لبنان وفلسطين. نعم كشفت هشاشة إسرائيل، ويمكننا أن نؤكد اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الجبهة الداخلية التي تمثل الخاصرة الرخوة في هذا الكيان الغاصب قد دخلت الحرب، وأن مشهد الجيش الذي يقاتل على الحدود فيما يتمتع السياح والمستوطنون الغاصبون بشمس فلسطين ومائها وخضرتها قد ولّى إلى الأبد. إن إسرائيل كلها اليوم هي خط التماس ونقطة الالتحام وسرطان الخوف ينهش وحدتها الداخلية حتى بعد وقف العمليات العسكرية، وعندما تسقط الجبهة الداخلية بالانهيار العصبي، ويفشل الجيش على الحدود، ماذا يبقى من إسرائيل؟.
دمنا مهدور مجاناً إذا فاوضنا، ومثمر نصراً محققا إذا قاومنا، فليُحصِ دعاة الصلح مع إسرائيل الشهداء المظلومين الذين قتلتهم "عملية السلام" منذ انطلاقتها، وشهداء المقاومة. إن لغة الأرقام تفصح عن صوابية خيار المقاومة حتى بالمعنى البراغماتي للسياسة، وتظهر بوضوح أن إسرائيل تخيّرك بين موتين، وليس بين موت وحياة، فهل هذه هي ثقافة الحياة؟
ومع الزمن صغرت أهداف التفاوض إلى مستوى إزالة حاجز إسرائيلي من الضفة الغربية، وكبرت أهداف المقاومة من إزالة الاحتلال إلى مستوى إزالة إسرائيل من الوجود.
إن الحكومة التي تليق بفلسطين المنتصرة اليوم ليست تلك التي يرضى عنها الأميركي أو ما يسمّى مكراً "المجتمع الدولي"، بل هي الحكومة التي يرضى عنها الشعب الفلسطيني الحيّ، وتعبر بصدق عن النور الساطع الذي بزغ من دماء الشهداء وهمّة الشباب التوّاق إلى الحرية في كل فلسطين التاريخية.

*مدير المركز العالمي للتوثيق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا