كل الحلول التي وُضعت في طريق علاج العلاقة الشائكة بين إيران والسعودية كانت إما ملغومة أو مبتورة، أو في أحسن الأحوال مفتقدة الحظّ والفرص الملائمة لنجاحها. فشلت كل محاولات الترويض والتدجين والتوليف في تحسين شروط العلاقة بين البلدين بنقلها من حالةٍ ضدّية صراعية إلى مستقر التفاهمات الدولتية المصالحية، ومن مدار الأيديولوجيا إلى دوائر السياسة، ومن عوالم الهواجس إلى آليات التنافس. خريطة الأزمات طيلة ثلاثة عقود وأكثر نمت وتوسعت حتى تسببت مفرزاتها السلبية في انبعاث غاز الفتنة وانتشاره في معظم العالمين العربي والإسلامي، وفتحت المجال واسعاً للتناقضات المذهبية التي تعتبر أسوأ لعنة للمنطقة وشعوبها في القرن الجديد.
فعلاقة المملكة السعودية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية ظلت محدودة طوال ثلاثين عاماً وأكثر بقليل. لا رغبة جدّية في الصداقة ولا مصالح مشتركة يمكنها خلق فرص أفضل للشعبين وللمنطقة على حدّ سواء. نعم يمكن اعتبار سنوات الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي الذي عمل على وضع معايير وقواعد جديدة للعلاقة هي الأفضل، ولكن مع ذلك بقي مسار العلاقة بطيئاً ومحبطاً.
ردود فعل السعودية
ليس فيها شيء من الكياسة الدبلوماسية

وتعتبر عملية إعدام الشيخ نمر باقر النمر أقسى لحظة في سيرورة التداعيات الأخيرة، وتطوراً مفرطاً غير مسبوق في خطورته على العلاقات بين البلدين. بدت السعودية غريبة الأطوار (تريد الرقص في عرسين في وقت واحد!). أظهرت ردود فعل انفرادية نزقة ليس فيها شيء من الكياسة الدبلوماسية، وكأنّها كانت تنتظر منفذاً لإظهار كامل عدائها لإيران، رغم أنها لا تُشكل بذاتها قوة مستقلة يُعتمد عليها في مواجهةٍ من النوع الحاد، وحربها على اليمن أثّرت بشكل سلبي على روابطها مع مجلس التعاون الخليجي حيث يمكن لها أن تُؤازر بدعم ما، كذلك فإنّ دورها في الأزمتين السورية والبحرينية وضعها أمام مؤثرات لا تملك مؤسساتها السياسية والعسكرية الكفاءة للتعامل معها. أما القوى الدولية الحليفة لها، فهي تُبرز موقفاً واقعياً من الأحداث الجارية في المنطقة وتبحث عن تطوير علاقاتها مع إيران بعيداً عن المقاييس الاستراتيجية التاريخية التي ألزمتها بانتهاج دبلوماسية توتر دائمة معها. ولا شك أيضاً في أنّ الوضع الغامض داخل العائلة الحاكمة والصراعات المتنامية حول إدارة الحكم والسياسات الخارجية يُشكلان هما الآخران عاملاً مهماً في التأثير السلبي على العلاقة مع إيران. وتصفّح بعض ما يكتبه المدوّن "مجتهد" أو بعض ما تنشره الصحف الغربية: يكشف عن القلق الذي يساور العائلة الحاكمة بعدما أدّت السياسات القصيرة النظر إلى كل هذه التطورات التي لا يمكن تحمّل عواقبها بلا كلفة باهظة الثمن.
مع الحكم الجديد فقدت السعودية الأحزمة الاستراتيجية التي تُشكل لها الأمان والحماية. وضعت نفسها أمام مشاكل شاملة في علاقاتها مع حكومات المنطقة أو مع مكونات عرقية وطائفية فشلت في بناء روابط آمنة معها، وهي اليوم تتبوّأ موقعاً مركزياً على مسرح السياسات المجازفة؛ فعلى سبيل المثال، بدل أن تطور علاقتها مع اليمن شنّت عليه عدواناً وحشياً، وبدل أن تعزز سياسات متوازنة مع العراق دفعت باتجاه تدمير بنيته الاجتماعية والاقتصادية وتبنّت سياسة تقوم على الأحلاف الطائفية والعشائرية، وبدل أن تجعل من نفسها دولة لها مكانة تاريخية مؤثرة في المنطقة من خلال بناء علاقات جيدة مع بلدانها، ومن خلال إنتاج سياسات تستطيع من خلالها تخطّي الجدران الموجودة بينها وبين جيرانها، نجدها تفتح شهوتها على أزمات جديدة، وتتبع إجراءات كيدية صدامية، تحوّلها عن طريق إعلامها الخرافي إلى انتصارات زائفة وأمجاد كبيرة.
يمكن القول إنّ أعظم مصدر لقوة إيران هو قيمها، لا ما تملكه من إمكانات عسكرية، وأخطر ما يهدد السعودية قيمها أيضاً لا أحلافها ولا نفطها. صحيح أن لا نية لأحدهما في حرب مباشرة، لكن السلام البارد لم يكن يوماً بديلاً من مواجهة قادمة يريدها الطرفان بلا رصاص!
* كاتب وأستاذ جامعي