قد لا نجد مصطلحاً سياسياً وفكرياً في اللغة العربية تعرّض لسوء فهم ناتج عن ترجمة «استثنائية» من اللغات الأجنبية، فوَلَّدَ الكثير من المقولات الفكرية والسياسية الملتبسة كمصطلح «قومي وقومية»؛ ربما إلا إذا تذكّرنا مصطلح «اللائكية /العلمانية». فهاتان الكلمتان؛ القومية والقومي، كصفتين ونسبتين، يختلط معناهما حين مقابلتهما مع ما يطابقهما في الإنكليزية أو الفرنسية اللتين جاءت منهما بكلمات عديدة منها: وطني وجنسية وأمة ودولة وعرقية «إثنية»...إلخ، رغم الفرق الكبير بين معاني هذه الكلمات. ومع أن من الصعوبة معرفة القاعدة اللغوية التي استُنِدَ إليها في ترجمتها إلى العربية كسائر مفردات القاموس السياسي العربي التابع والمأخوذة في غالبيتها الساحقة عن القاموس السياسي الاستعماري الأورومركزي المهيمن في عصرنا، إلا أن انعدام المطابق الاصطلاحي لكلمات من هذا النوع يبقى واقعاً قائماً ومصدراً لسوء الفهم وخطل الاستعمال.
إديل رودريغز (الولايات المتحدة)

فكلمة «قومي» العربية ليس لها ما يطابق معناها تماماً في اللغات الأوروبية الأوسع انتشاراً؛ ولكنها في الاستعمال المتواتر أصبحت تعني عدة كلمات منها (ناشنليست NATIONALIST - ناسيوناليت)؛ وهذه الكلمة ترجع إلى (نيشن NATION) في اللفظ الإنكليزي أو (ناسيون NATION) في الفرنسي، أي أمة، معلوم أن الأمة ليست هي القومية ولا القوم.
ومن مرادفات (NATION) في علم الاجتماع السياسي البرجوازي الحديث كلمة «دولة»؛ في حين ترجع نسبة «قومي» العربية من الناحية التأثيلية إلى «قوم». وبين الأمة والقوم ثمة فرق علمي كبير في المعنى؛ فالأمة في تعريفها الاصطلاحي الحديث تعني وحدة اجتماعية واسعة ومنسجمة المحتوى ومؤلفة من مجموعة من الناس الذين يرتبطون في ما بينهم بروابط محددة؛ كاللغة والأرض والتاريخ المشترك والأصل السلالي المشترك أو المتقارب، والتراث الثقافي ومنه الدين والعادات والتقاليد والذكريات، ويضاف إليها - من وجهة نظر البعض - الوحدة الاقتصادية التامة أو الجزئية أي السوق القومي المشترك.
أما كلمة «القوم» فلا تعني وحدة اجتماعية خاصة ومنسجمة المحتوى كالأمة أو القبيلة أو الأسرة، إلا على سبيل المجاز؛ فالقوم، في الاستعمال القديم والشائع، هو تجمّع أفراد من البشر لا يربط بينهم غالباً إلا عامل المكان الذي اجتمعوا فيه. وهكذا يمكن للخطيب أن ينادي على أية مجموعة من الناس، وسواء كانوا من أهله أو من الغرباء بقوله «يا قوم...»! ويذهب صاحب معجم «شمس العلوم»، نشوان بن سعيد الحميري، إلى استثناء الإناث من «القوم» لتعني الذكور فحسب، إذْ يقول معرفاً القوم بأنهم (جماعة الرجال دون النساء، لا واحد له من لفظه، قال الله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية11 من سورة الحجرات).
ويبدو أن الصعوبة الصوتية لاشتقاق كلمة تقابل (ناشنيليست NATIONALIST) في اللغة العربية من كلمة «أمة»، هي التي ألجأت المترجمين والمؤلفين إلى كلمة «قوم» لسهولة الاشتقاق فترجموها «قومي» ولم يترجموها «أمتي / أمتاوي» فجاءت كلمة قومي لتكون مقابلاً لناشيناليست. أما كلمة «أممي» فهي نسبة إلى «أمم» جمع أمة، وتُترجم أحياناً ترجمة غير دقيقة أيضاً إلى «دوْلي» - بسكون الواو- كنسبة الى الدولة المفردة، أو بفتحها وتشديدها «دُولي،» نسبة إلى جمعها «دول». والنسبة إلى الجمع لا تجوز عند المعجميين واللغويين القدماء المتشددين، ولكنّ الناس كانوا ينسبون إلى الجمع قديماً وحديثاً كقولهم «الدوانيقي» وهو من ألقاب أبي جعفر المنصور، و»الساعاتي»...إلخ.
ومن الطريف والمعبر أننا نجد اللغة التركية قد ترجمت كلمة «قومية» إلى ملياتجيليك (Milliyetçilik) ذات العلاقة بكلمة «مِلَّة» العربية ذات المحتوى الديني في المعجم العربي، وهو المرادف نفسه وبشكل أوضح في اللغة الفارسية ففيها نجد معنى أمة هو «مِلت»، وقومية بالفارسية هي «ملي گرايي»، ولكنّ المعجم العربي الحديث اتخذ كلمة قوم بدلاً من «مِلَّة» المحايدة دينياً والسائدة بذات المعنى في عصر ما قبل الإسلام، رغم الالتباسات التي تثيرها.
ولكنّ المعاجم العربية الحديثة طوّرت معنى هذه الكلمة «القومية» وأضافت إليها محمول الكلمة الغربي المُحيل إلى الأمة، فصاحب المعجم الوسيط يسجل أنها من المُسْتَحْدَث أي الجديد والمضاف، وتعني عنده (القومية: صلة اجتماعية عاطفية تنشأ من الاشتراك في الوطن والجنس واللُّغة والمنافع، وقد تنْتهي بالتضامن والتعاون إلى الوحدة، كالقومية العربية. وهي كلمة مُحْدَثة). أما كلمة (NATIONALITY) وهي من مشتقات (NATION) فهي أيضاً تُرجمت إلى «جنسية» التي تُحال بدورها في العربية إلى جنس البشر ونوعه وتُحال أحياناً إلى «القومية» وهذه الكلمة ليس لها مطابق في اللغات الأورومركزية.
إن هذه الكلمات، رغم التحفّظات السالفة وغيرها على ترجمتها الاستعمالية، أصبحت في عداد البديهيات التي لا تثير الشكوك والتساؤل، وما أكثر البديهيات ذات الأساس الخاطئ أو القاصر أو المشكوك في معناه الموافق، وليس لنا سوى محاولة فهم جذورها وتداعياتها وسوء الفهم الذي نتج عن تلك الترجمات. ومما يترتب على ذلك أن البعض ممن يجهلون هذه التفاصيل التأثيلية من الطائفيين والتكفيريين الدينيين والليبراليين واليساريين القشريين المنساقين وراء الصرعات الإعلامية الغربية الإمبريالية يسارعون مثلاً لوصف كل شخص يدافع عن انتمائه الحضاري والثقافي إلى العروبة وعن لغته وثقافته وتراثه بأنه قوموي أو «قومجي» يتم الربط فوراً بينه وبين تجارب الحكام القوميين العرب في أنظمة الحكم الاستبدادية الدموية. أضف إلى ذلك أن البعض من حملة النزوع القومي ممن يصفون أنفسهم باليساريين، المنحاز لكل ما هو «عربي» بغضّ النظر عن محتواه التاريخي حتى لو كان من قبيل الدولة الأموية التي يمجدها بعض «القوميين اليساريين» على اعتبار أنها عربية خالصة بخلاف الدولتين العباسية أو الفاطمية المشوبتين بمشاركة شعوب وأمم أخرى في بنائهما الحضاري، مع أنها لا تختلف كثيراً عن تينك الدولتين من حيث المحتوى الطبقي الظالم للشعب أو «للخلق» بلغة التراث، ولها ما لها وعليها ما عليها حضارياً كسائر الدول والإمبراطوريات القديمة.
دفاع العربي عن ثقافته ولغته وآماله مثلبة في عرف الطائفيين والليبراليين الذين لا يتحرّجون من الدفاع عن أحطّ النوازع الطائفية والعشائرية الكارهة للآخر والداعية إلى إبادته وتهجيره


من جهة أخرى، يصبح دفاع العربي عن عروبته وتراثه وآماله وطموحاته وثقافته ولغته في عرف هؤلاء الطائفيين والليبراليين مثلبة؛ في الوقت الذي لا يتحرّجون هم أنفسهم من الدفاع عن أحط النوازع الطائفية والعشائرية الكارهة للآخر والداعية لإبادته وتهجيره إذا رفض أو احتجّ ضد هيمنتهم الطائفية؛ وفي حين لا يرى الليبرالي المزيّف بأساً - ولا بأس قطعاً من وجهة نظر أممية منصفة - من أن يدافعوا عن التباهي والفخر القومي لجميع أبناء الأقليات القومية كالكرد والأمازيغ والتركمان والأفارقة وحتى الشعوب المنقرضة أو شبه المنقرضة كالفينيقيين والآشوريين والفراعنة وبني إسرائيل ...إلخ، ولكن حين يصل الأمر الى المدافعين عن عروبتهم فهم يتحولون وفق هذا المنطق المغرق في الجهل المركّب والتعصب الطائفي والليبرالي القشري التي يستبطنها إلى «قومويين» مذمومين. ويُبنى على هذا المنطق تضادّ زائف بين الوطني القُطري المُرَحَّب به طائفياً وليبرالياً، والقومي العروبي المكروه من كليهما حتى لو كان ذا توجهات إسلامية أو ليبرالية، فالوطني في عرف اللغة الاصطلاحية السياسية السائدة ينبغي أن يكون ذاماً وهاجياً للعروبة - دون تمييز بين عروبة السلالة العنصرية وعروبة الثقافة واللغة - وشاتماً ومزدرياً للتراث العربي الإسلامي بسلبه وإيجابه، ومعادياً لكل مشاريع التضامن والتوحيد والتحالف بين الشعوب العربية، أو على نطاق أوسع بين شعوب الشرق المستهدفة من قبل الإمبرياليات الغربية وحاملة طائراتها الثابتة الصهيونية «إسرائيل».
وفي السياق المُنْتِج لهذه المترتبات، نجد بعضهم لا يتحرّج من أن يصف نفسه بأنه «اشتراكي ماركسي قومي»، وهذا أمر غير معقول ويصلح ليكون مبعث تندّر وسخرية، لو تُرجمت هذه العبارة إلى اللغات الأجنبية؛ فالاشتراكي الماركسي أممي، ولا يلتقي بالقومي أصلاً على صعيد الفكر والممارسة، دون أن يعني ذلك أنه ممنوع بموجب الأممية - بمعنى الانتماء الإنساني والحضاري وثقافته ولغته وتراثه كإنسان.
وإذا كان من الدارج والقابل للتفهم والاستيعاب أن يصف الاشتراكي الماركسي نفسه بالوطني، نسبة إلى حب الوطن، كما هي حال المصطلح في الفرنسية (PATRIOTIQUE) نسبة إلى الوطن (PATRIE)، ولكن إذا كان مقابل الوطني هو القومي (NATIONALIST)، كما تُترجم أحياناً فالخطأ باق على حاله؛ إذْ ليس من السهل ولا من الصحيح سياسياً وفكرياً أن يبقى القومي قومياً بعد تحوله من القومية إلى الماركسية والشيوعية الأممية كما حدث مع بعض الأفراد والتنظيمات في «حركة القوميين العرب» في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
بحسب السردية الماركسية التقليدية، فإنَّ ما يقال عن تقدمية شعار التوحيد القومي للأمة ووطنها المقسم في المنظار الماركسي، وأن هذا الشعار البرنامجي الدعائي المجوّف أحياناً، والحقيقي أحياناً أخرى، هو جزء من برامج البرجوازية الصاعدة في طورها التقدمي، وليس من بنية وأهداف البرنامج الاشتراكي أصلاً. فالتوحيد القومي هو المشروع البرجوازي لتوحيد السوق القومي، وإذا ما عجزت البرجوازية عن تنفيذ هذا المشروع، أو أن القوى الاشتراكية وصلت إلى السلطة في بلد ما قبل أن يتم التوحيد القومي، فيمكن لها - للقوى الاشتراكية- أن تقوم بتنفيذ العملية كجزء من تنفيذ برنامج الإصلاحات ما قبل الاشتراكية، وهذا ما فعله الشيوعيون في فيتنام بعد انتصارهم على الاحتلال الأميركي وطرده فوحّدوا وطنهم المجزّأ وباشروا بالبناء الاشتراكي.
ولكي نأخذ فكرة أولية فحسب عن حجم تعقيدات موضوع ترجمة القومية والوطنية والدولة حتى في اللغتين الأوروبيتين السائدتين المذكورتين لنقرأ المقتطفات التالية في إحدى الموسوعات المعلوماتية:
-إن (دولة القومية، أو الدولة الأمة والدولة-القومية، هي كيان جغرافي يتميز بأنه يستمد شرعيته السياسية من تمثيلها أمة أو قومية مستقلة وذات سيادة. فالدولة هي كيان سياسي وجيوسياسي بينما دولة القومية هي كيان ثقافي وإثني).
وهذا الكلام يساوي بين الأمة والقومية مع الفرق الكبير بينهما، وهو ذاته الفرق بين الكيانية السياسية المتشكّلة في دولة وبين القومية كوحدة ثقافية وسلالية تنشأ تاريخياً عن الكيانية الجغرافية البحتة التي تقيم عليها الأمة السائرة في طريق التكوّن.
-(لا يوجد إجماع حول تعريف «الدولة القومية». وقد خلُص الأكاديمي فاليري تيشكوف إلى أن «جميع المحاولات لتطوير اتفاق اصطلاحي حول «الأمة» باءت بالفشل»). وهذا الكلام من الناحية النظرية لم يمنع وجود عدة تعاريف يؤخذ بها في التاريخ السياسي القديم والمعاصر.
-أما ووكر كونور فيناقش الانطباعات المتعلقة بسمات «الأمة»، و»الدولة (ذات السيادة)» و»الدولة القومية» و»القومية». يناقش أيضاً كونور، الذي أشاع استخدام مصطلح «القومية الإثنية»، المَيل إلى الخلط بين الأمة والدولة، ومعاملة جميع الدول وكأنها دول قومية.
وفي محاولات الإجابة عن سؤال يقول: «هل الأمة هي التي تشكل الدولة القومية أم العكس؟» تتجلى أكثر صورة التعقيدات، لنقرأ هذه المحاولات لمقاربة الإجابة:
- يذهب بعض الباحثين الغربيين مثل إريك هوبسباوم إلى أن (الدولة الفرنسية سبقت تشكّل الشعب «الأمة» الفرنسي. أي إن الدولة الفرنسية هي التي أنشأت الأمة الفرنسية، وليس القومية «الجنسية» الفرنسية، التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر. ويحاجج هوبسباوم بالآتي «خلال الثورة الفرنسية عام 1789، كان نصف الشعب الفرنسي فقط يتحدث الفرنسية، وخلال توحيد إيطاليا بقيادة غاريبالدي في القرن التاسع عشر، كان عدد الذين يتحدثون اللغة الإيطالية أقل». واضح أن عدم سيادة وهيمنة اللغة القومية الواحدة سبب مهم ولكنه ليس الوحيد الذي يصلح لحسم النقاش هنا.
-»أما المؤرّخون هانس كون وليا غرينفيلد وفيليب وايت وآخرون فقد صنّفوا الأمم -مثل ألمانيا أو إيطاليا- التي سبق فيهما التوحيد الثقافي توحيد الدولة، كأمم إثنية أو قوميات إثنية. بمعنى أن الأمة الموحدة ثقافياً سبقت بناء الدولة القومية في ألمانيا وإيطاليا».
وبناءً على تقدم من حيثيات وتعقيدات هذه المصطلحات من حيث المضامين والمعاني، لا أعتقد شخصياً بصحة وصف الاشتراكي الماركسي لنفسه بالقومي، لمجرد أنه يؤيد شعار التوحيد القومي، أو لأنه كان ذات يوم ينتمي إلى حزب سياسي قومي، فالأممي لا يندمج أو يتماثل مع القومي أياً كان وكيفما كانت الظروف التاريخية ومبررات الاستخدام. وربما يكون من الممكن فضُّ الاشتباك والالتباسات في هذا الميدان، أو في الأقل التخفيف من وطأة المضمون العرقي في كلمة «قومي» بأن يصف الاشتراكي الماركسي الأممي العربي المدافع عن أمته وطموحها في التوحيد وفي مواجهة العدوان الغربي الإمبريالي المستمر وفي الافتخار بثقافته ولغته العربية المستهدفة، شأنها شأن جميع الثقافات المحلية في الجنوب من قبل دوائر العولمة الإمبريالية الغربية بأن يصف نفسه بالعروبي وليس بالقومي، فالقومي يحال تلقائياً إلى الانتساب السلالي والعرقي، أما العروبي فيُحال غالباً إلى الانتساب الثقافي واللغوي مع بقاء الانتساب إلى الهوية الوطنية العراقية بالنسبة إلى العراقي والفلسطينية بالنسبة إلى الفلسطيني والمصرية بالنسبة إلى المصري وهكذا دواليك؛ غير أن هذا المقترح رغم فائدته السياقية سيصطدم عملياً بمشكلة الترجمة إلى اللغات الأجنبية، إذ لا يوجد مقابل له، وهذا ما قد يضطر المترجم إلى نقله كما هو إلى تلك اللغات كما حدث مع مصطلح «السلفية» الذي لم يُترجم بل نُقل كما هو، وخُلط أحياناً بينه وبين الأصولية (FUNDAMENTALISM )، وهو مصطلح آخر مختلف مضموناً عن السلفية القديمة والمعاصرة.
* كاتب عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا