في نقاش التراث السياسي العربي في القرن العشرين، لدى الكاتب العراقي حسن الخلف ملاحظة طريفة يخالف فيها صورة شائعة عن التيار «الحداثي»، العلماني واليساري العربي. الفكرة التي يكررها الكثيرون هي أنّ بعض هؤلاء ـــ واليسار العربي تحديداً ـــ لم ينجحوا كثيراً في السياسة لأنّ سمتهم الغالبة كانت «ثقافية»، وليست عسكرية أو شعبويّة، وكان العديد من كوادرهم يهتمّون بالكتابة والتنظير والبحث أكثر من العمل الميداني. في كتابٍ نشره في مرحلة غزو العراق، استخدم حازم صاغيّة هذه الصورة لتوصيف مرحلة التنافس البعثي ـــ الشيوعي، حيث شبّه الصراع بين الحزبين كمواجهة بين «أستاذ المدرسة» (أي الشيوعي) و«المصارع» (البعثي) من حيث تكوين وثقافة الحزبين (التشبيه الاستسهالي، بالطبع، لا يعكس الساحة العراقية في الخمسينيات وبداية الستينيات، بل يعكس حدود معرفة صاغيّة بالتكوين الاجتماعي للحزبين أيامها وحدود معرفته، إجمالاً، بالعراق ـــ الذي نشر عنه كتاباً).
«مقامات الحريري»، رسومات الواسطي، 1237م (المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة)

نظرية حسن الخلف هي أنّه، على عكس هذا الانطباع، فإنّ الجانب «الثقافي» – تحديداً - لعلّه كان نقطة الضعف الأساسية، وليس نقطة القوّة، عند اليسار العربي وأحد أهم جوانب قصوره. ما معنى «الثقافة» هنا؟ أن تكتب مقالات؟ أو أن تؤسس لتيّارِ وخطابٍ معرفي يستبدل ما قبله ويهيمن ويتسرّب الى الوعي الجماعي؟ الثقافة هي، أساساً وقبل كلّ شيء، «الثقافة» اليوميّة التي يستهلكها الناس بشكلٍ روتيني، من التلفزيون الى الانترنت الى الطقوس الدينيّة. ولكن، حتى لو حصرنا الثقافة هنا بمعنى «الثقافة العليا» والانتاج الفكري «الحداثي»، فالحال لم يكن أفضل. فلنتخيّل أننا جماعة من المثقفين الماركسيين في الخمسينيات مثلاً، ما هو أوّل ما نفعله ـــ فكرياً وبحثياً ـــ في بلادٍ حديثة الاستقلال؟ البديهي هنا هو أن نبدأ عبر تأسيس مدرسةٍ تاريخية. الوعي التاريخي في مجتمعك لا يزال «تقليدياً»، أي أن التاريخ الذي يتداوله الناس شفهي غالباً أو سطحي أو مسيّس، والحداثة قد أمدّتك بأدواتٍ لـ «إعادة كتابة التاريخ»، على أساس عقلاني و«علمي»: أرشيفات، مصادر جديدة، مناهج للبحث والتحقيق، تسمح لك باستبدال التاريخ الشفهي الموروث بسرديّة حديثة، واقعية، منظّمة، وخالية من الخرافات. تبدأ بنشر سلسلة كتب، بسيطة ووصفيّة، عن العصر الأموي، مثلاً، وسلسلة عن العصر العباسي و ـــ أهمّ من ذلك كلّه ـــ العهد العثماني الأقرب إلينا زمنياً، تكون أساساً لوعي تاريخي متّسق، شعبي وسياسي، يكون نقطة الانطلاق. حتى الليبراليون الأتراك، مثل اينالجيك وجيله، قاموا بهذا العمل في جمهوريتهم الجديدة ولكن هذا النمط من الجهد الجماعي لم يتحقّق عندنا، ولم يصنع العلمانيون سرديّة يمسكون بها، وظلت المحاولات لتأسيس وعي تاريخاني محدودةً وفردية (كحالة عبدالله العروي مع المغرب العربي وعبد العزيز الدوري في العراق). حين كتب حسين مروّة في التاريخ، مثلاً، اختار تحديداً المرحلة الوحيدة التي ليس فيها أرشيفات ومصادر أوّليّة وأثر أركيولوجي تمكّن من إعادة تصويب التاريخ بشكل علمي واثق (positivist)، أي مرحلة الدعوة النبويّة التي لا نكاد نعرفها إلّا من خلال الرّواية.
وبسبب هذا الغياب، تصادف اليوم يسارياً شابّاً يتكلّم في الماركسيات، لكنّه، ما إن يقارب التاريخ، حتى تكتشف أنّ وعيه ليس «يسارياً» البتّة، بل هو تاريخ خرافي، أو انطباعي، أو قومي أو طائفي (والنقاشات حول الدولة العثمانية هي مثالٌ ساطع على ذلك). واليساري «فكرياً»، في عرفي، هو قبل أي شيء الإنسان «الحديث»، «العقلاني» الذي يمسك تاريخه ويفهمه ويحرّره من السحر والأساطير. أمّا حين يصبح وعي «اليساري» لماضيه (أي لنفسه ولهويّته) قاصراً وخرافياً، فلا يتبقّى منه شيء.

قصص القصور
ولكنّ الموضوع اليوم هو العراق العبّاسي، مع ملاحظة ابتدائية حول المجمّع الزراعي القديم في جنوب العراق، أو ما كان يُسمّى تاريخياً «أرض السّواد» (*). والعهد العبّاسي في المخيلة الشعبية هو مثالٌ على «التاريخ الموروث» المذكور أعلاه. تختلط الحقيقة بالخرافة بآلاف القصص والطرائف التي تراكمت عبر القرون حول بلاط بني العبّاس. روايات كثيفة وغزيرة، لكن صدقيّتها تتفاوت، وبعضها كُتب بعد قرنٍ أو أكثر على الأحداث. شخصيّاتٌ تصبح معروفة للجميع، مثل الرشيد وزبيدة وجعفر البرمكي، وحتّى خصي الخليفة «مسرور»، لا لأنها كانت شخصيات تاريخية فارقة، بل لأنها ذُكرت في «ألف ليلة وليلة» مثلاً. وكثيراً ما تطغى التفسيرات الطريفة والشعبية على التحقيق التاريخي، كقصّة أن الرشيد قتل وزيره جعفر ودمّر البرامكة بسبب علاقة جعفر بأخته العباسة (وهي رواية استعادها جرجي زيدان). هنا تطلّ لوحة الخليفة «القصصي» لا التاريخي، الشخصية الأسطورية التي تستخدم لضرب الأمثال والحكم، الذي يهدّد باستمرار بقطع رأس الشاعر، وهو مستعدٌّ لتدمير جهازه الإداري في هيجان غضب ولقضية غيرة شخصية (توجد عدة تفسيرات أخرى محتملة للضربة المفاجئة للبرامكة، منها أن الرشيد كان يحضّر لخلافة ولديه، فهو عاد من الحجّ حيث رافقاه ليقدمهما إلى أشراف مكّة والمدينة، ثم عزل البرامكة مباشرةً بعد عودته، أو ربما كان الرشيد يدشّن سلوكاً سيسير عليه الخلفاء في ما بعد، وهو عزل عمّال الدولة والوزراء بشكلٍ دوري ومصادرة أملاكهم وأموالهم كوسيلةٍ لتمويل الخزينة).
في كلّ الأحوال، يمكن المحاججة بأن نكبة البرامكة كانت (كاغتيال أبي مسلم الخراساني على يد المنصور) نقطةً فارقة في التاريخ السياسي للدولة العباسيّة، بل إنها كانت من بوادر ضعفها وتفككها اللاحقين. كما يشرح هيو كينيدي، لم يكن البرامكة مجرّد إداريين مهرة، بل هم ـــ بأجيالهم الثلاثة، خالد ثمّ يحيى ثم جعفر وفضل ـــ مثّلوا انتقال فنون الإدارة الفارسية إلى جهاز الدولة، كما مثّلوا إدماج الأرستقراطية الساسانيّة القديمة في الإمبراطورية. كان للبرامكة أصلاً ثروة ونفوذ قديمان في خراسان، حيث كانوا مسؤولين عن إدارة معبدٍ بوذيّ يقع على طريق الحرير، في مكانٍ ما غرب أفغانستان، ويعمل في أراضيه وأملاكه عشرات الآلاف من الفلاحين. المسـألة ليست في مسك الدفاتر؛ البرامكة كانوا يحفظون التوازن بين مراكز القوى المختلفة: الوزراء، الحاجب، العمّال، القضاة، نساء القصر، إلخ. هم كانوا يوزّعون المنافع ويضمنون أن يظلّ البلاط متماسكاً، ولا يتحوّل إلى حربٍ على الخلافة، أو أقطابٍ تتجمّع حول مرشّحين وتدفعهم إلى التنافس والصراع (كما حصل مع الأمين والمأمون)، وهم من صالح العباسيين مع الأسرة العلويّة (إلى حين). حتّى إنّه كان لهم دورٌ أساسي في رعاية رجال الثقافة والشعر والعلوم الذين أحاطوا بالبلاط، وإنتاج الفنون والبروباغاندا لمصلحة الأسرة الحاكمة. بل ينقل كينيدي أنّه، بعد عزل البرامكة وأعوانهم في الإدارة، أصبح البريد الوارد من زوايا الإمبراطورية يتكدّس في الديوان، في أكياسٍ من الخيش، من غير أن يُفتح (عرفت الإدارة درجةً من الاستقرار بعد ذلك حين تسلّم الطاهريون مهامَّ في الدولة والجيش في عهد المأمون، وهم أيضاً كانوا أرستقراطية إدارية من خراسان، ثم انتهى الأمر بأن انفصلوا عن السلطة المركزية في شرق إيران وأسّسوا دولتهم الخاصة).
لم يصنع العلمانيون العرب سرديّة يمسكون بها، وظلّت المحاولات لتأسيس وعي تاريخاني محدودةً وفردية، كحالة عبدالله العروي مع المغرب العربي وعبد العزيز الدوري في العراق


قبل سنواتٍ قليلة على اشتعال الثورة في خراسان، لم يكن أحد يتصوّر أن الأسرة العباسية، التي كانت تختبئ عن الأمويين في مزرعة نائية في جنوب الأردن، ستصبح قريباً على رأس أكبر إمبراطورية في العالم، وتسكن أفخم القصور إلى درجة أن أغلب أنماط الحياة في البلاط العبّاسي (من مجلس الخليفة إلى تنظيم الحريم إلى الزواج والإنجاب) ستصبح نموذجاً لكلّ بلاطٍ إسلاميٍّ لاحق، وصولاً إلى السلاطين العثمانيين الذين كانوا يقلدونهم بعد أكثر من عشرة قرون على تأسيس بغداد. الإمبراطورية لم تكن القصر، ولكن القصر كان بالفعل مركزاً بالغ الأهمية. مصاريف البلاط ونفقات الخليفة والحريم وبناء القصور كانت تستهلك قسطاً كبيراً من عائدات الدولة، وكانت ثاني أكبر بندٍ في النفقات من حيث القيمة بعد الجيش. العديد من الخلفاء، وخاصة العشرة الأوائل، كانوا يبنون قصوراً جديدة حين يتسلّمون الحكم ولا يسكنون في قصور آبائهم، وبعضهم ـــ مثل المتوكّل ـــ بنى عدّة قصورٍ في حياته. والقصر هنا ليس مبنىً كبيراً على الطريقة الأوروبية، بل هو مجمّعات ضخمة، مساحتها بمئات آلاف الأمتار، يتوزّع فيها عددٌ كبيرٌ من الأجنحة والغرف (من طابقٍ واحدٍ عادةً) بين الكثير من الأروقة والفناءات الداخلية (على طريقة البيت الدمشقي أو المغربي التقليدي) والحدائق.
هندسياً، نحن لا نملك نموذجاً مكتملاً لقصر الخليفة العبّاسي، فالطقس ومواد البناء في العراق ـــ كما هو معروف ـــ لا تساعد على الاستدامة. كل ما لدينا هو جدرانٌ في سامراء والرقّة، حيث يظهر أيضاً ـــ من الجو ـــ أساسات ومخطط بعض القصور العباسية، وعددٌ قليل من الأمثلة التي صمدت كقصر الأخيضر في الصحراء. بل إنّ كينيدي يقول إن مسجد ابن طولون في مصر قد يكون أقرب لنموذج المساجد العباسية من أي مسجدٍ قائمٍ في العراق. ولكنّ الروايات تعطينا توصيفات كافية حتى نعيد تخيّل هذه الأماكن. مادة البناء الأساسية هي الطابوق، وهو ما نراه اليوم مكشوفاً في الآثار المتبقية، ولكن الطابوق في أيامه كان مغطّىً بطبقاتٍ من الكلس والجبس المزخرف، تتخلله تصاميم وألوان زاهية. أسلوب الحياة والجماليات في تلك القصور هو ما يمكن أن نسمّيه «البساطة الفخيمة». أنت لا تدهش الزوّار عبر أبنيةٍ ضخمة وهندسات معقّدة، بل عبر الألوان والأقمشة والعطور. الجدران الداخلية تزيّنها بسجاداتٍ ثمينة أو بأقمشة، ولا يوجد الكثير من الأثاث الثقيل: الناس يجلسون ويستلقون على سجّادات وفُرُش وطنافس مريحة؛ والتركيز في الهندسة هو على المناخ والحواسّ، وأن تكون الغرفة، مثلاً، مفتوحةً في الصيف على النهر والهواء، وتكون معطّرة، وملمس الأقمشة فيها يناسب الفصل. مع أنّ الخليفة كان لديه «عرشٌ» رسميّ، كرسي مرتفع يجلس عليه بين الحضور، إلّا أنّه كان غالباً يجلس على الأرض، أو في منصّة خشبيّة مربّعة، ترتفع قليلاً عن الأرض، وتتكدّس عليها الطنافس (على الطريقة التي اعتمدها العثمانيون وغيرهم في ما بعد)، لكنّ «الوضعية الرسمية» للرجل الأرستقراطي في تلك الأيّام، سواء كان قاضياً أم خليفة، كانت في أن يجلس على سجادة صلاة وثيرة (أنماط التديّن لدى الخلفاء في تلك المرحلة قصّة أخرى؛ المأمون مثلاً كان يصوم رمضان ويصلّي المغرب مع من حوله، ثمّ يشرب النبيذ بعد الإفطار).
كما يقول كينيدي، فإن بنية القصر العباسي تختلف عن القصر الأوروبي الذي نعهده، حيث القصر مقسّم إلى غرف وقاعات، ولكلّ غرفةٍ وظيفة محدّدة. باستثناء إيوان الخليفة، القاعة المقبّبة التي يستقبل تحتها الزوّار برسميّة، كانت أغلب أجنحة القصر وغرفه «متعدّدة الاستعمالات». قد ينام الخليفة في مكانٍ في الشتاء، يستخدمه صيفاً للسهر والاستماع للغناء، ويختار النوم نهاراً، حين يشتدّ الحرّ، في «السّرداب» بجانب بركة الماء والهواء البارد. وبسبب نمط الأثاث البسيط، كان من اليسير نقل الفُرُش أو أدوات السّهر والطعام من غرفةٍ إلى أخرى بحسب الحاجة، يضيف كينيدي. وحين كان الخلفاء يتزوّجون وكان للقصر «ملكة أمّ» تسوده (بعد أجيالٍ من السلالة توقّف العباسيّون عن الزواج، كما فعل العثمانيون في ما بعد، وأصبح جميع الخلفاء اللاحقين من أولاد الجواري)، كانت «البدنة الأمويّة» هي بمثابة صولجان السلطة بين الحُرُم. والبدنة قميصٌ هو تحفةٌ تاريخية ثمينة، عليه من الأمام والخلف خطّان من أحجار الياقوت الكبيرة، كانت تمتلكه عاتكة ـــ زوجة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ـــ ثمّ انتقل إلى خزائن العباسيين بعد الثورة، وأصبحت الأميرات العبّاسيات يسلّمنه إلى «الملكة الأمّ» في كلّ جيلٍ، كإشارة إلى منصبها المتقدّم. ألبسته خيزران (زوجة المنصور) لزبيدة حين تزوّجت الرشيد، ثمّ خلعته زبيدة على بوران خلال عرسها الأسطوري من المأمون بعد نهاية الحرب الأهلية الأولى (زبيدة، كالعديد من الأميرات العباسيات الأوائل، كان لها دورٌ سياسي واجتماعي بارز، وقامت بتمويل أوقاف وترميمات كبيرة في مكة والمدينة، وموّلت إنشاء طريقٍ للحجّ بين العراق والحجاز وتجهيزه بمحطات السفر والحماية ـــ على مثال «طريق خراسان»، عصب الإمبراطورية ـــ يقول كينيدي إن آثاره الأركيولوجية لا تزال ظاهرة إلى اليوم).
فكرة «مؤامرات القصر» تمّت زخرفتها والمبالغة فيها مع الزمن وفي الروايات القصصية والشعبيّة، يتّفق المؤرخون، غير أنّ تلك المرحلة قد شهدت بالفعل مستوىً من البذخ والتناقضات والقسوة والمجد، في آنٍ، تستدعي الأسطرة. حتّى حالات العنف بين الأسرة الواحدة، والدسائس والانقلابات، فيها مشهديّات مريعة ليست كلّها مبالغات: الخليفة الهادي يموت بشكلٍ مريبٍ في مخدعه، والأرجح أنّه قُتل خنقاً بأمرٍ من أمّه خيزران. الأمين، مبتلّاً مرتجفاً مذعوراً، وهو يحاول الهرب من قصره عبر دجلة، فيما عسكر أخيه الذي يحاصر العاصمة يلاحقه لكي يحظى برأسه. القاهر الذي جاء بعد انقلابٍ عسكريٍّ لم يعمّر، يركض بخوفٍ بين جنبات القصر محاولاً الفرار، فيما الخدم والخصيان الذين لا يزالون أوفياء لوالده، يقفلون عليه البوابات والمنافذ. أو الخليفة المعتزّ وهو يتوسّل من أمّه، قبيحة، لكي تسلّفه خمسين ألف دينارٍ يُسكت بها العسكر التركيّ الذي يثور عليه، فتصدّه أمّه وتماطل زاعمةً بأنها لا تمتلك سيولة، فيتمّ قتل ولدها بشكلٍ وحشيّ (ويتبيّن، في ما بعد، أنها تخبّئ أموالاً ومجوهرات قيمتها ملايين الدنانير). وبالحديث عن حياة القصور، قد لا يضرّ أن ندرج رواية من النمط «الاستشراقي» عن بلاط الرّشيد ـــ لا سبب حقيقياً لذكرها هنا ـــ ولكنّها تعطي فكرة عن نمط العيش للطبقات العليا في بغداد العباسية، الذي حوّله الرواة والمؤرخون العرب إلى ما يشبه «قصص الإثارة» التي سكنت المخيال الشعبي (كما أنني لاحظت أنّ حدقات الرّجال تتوسّع حين أنقلها لهم): يبدو أنّ هارون الرشيد كان، حين ينتهي من مجلسه ويخلد إلى جناحه الخاصّ، كانوا يحضرون له سبع جوارٍ، يخلعن ثيابهنّ ويلبسن قمصاناً خاصّة من الكتّان، تمّ تضميخها بالعطور حتى تبلّلت بها. ثم يجلسن على كراسٍ مثقوبة يرتفع من تحتها البخور، وحين تجفّ ثيابهنّ بالكامل بفعل البخور المتصاعد، ويصبح العطر ملتصقاً بأجسادهنّ، عندها فقط كنّ يدخلن على الخليفة.

نواة الإمبراطورية
إن أردنا أن نبسّط المنظومة السياسية العبّاسيّة ونمطها الإمبراطوري إلى الحدّ الأقصى، على طريقة تشارلز تيللي، يمكن القول بأنّ الوظيفة الأساس للفتح والإدارة والبلاط والخليفة وكلّ هذه الأمور هي في توليد دخلٍ كافٍ يسمح بتمويل الجيش النظامي. في العقود الأولى بعد بناء بغداد، كان عسكر الجيش اسمهم - حرفياً - أبناء الدولة، وأكثرهم من بقايا الجيش الخراساني الذي انتصر في الزّاب، انتقلوا إلى العاصمة وأصبحوا بغداديين، ويعتبرون أنفسهم أبناء الجهاز الإداري وحماته. وحين لا تعود الإيرادات كافية لتمويل الجيش لن يختفي العسكر، بل سيستولي على الدولة ـــ سواء في المركز أو في إقليمه ـــ ويستخدمها لتمويل نفسه بأي طريقة (إقطاع عسكري مثلاً). وإن كان هناك من «أساس مادّي» لهذه الإمبراطورية، ولعصرها الذهبي في قرنيها الأوّلين، فهو باختصار المجمّع الزراعي الذي كان قائماً في جنوب العراق، تقريباً بين بغداد والبصرة.
هذا يفسّر لماذا أقام العباسيون، وقبلهم الساسانيون، عواصمهم في تلك النقطة بالذات، على فم أرض السّواد وبشكلٍ يشرف على «قاعدة الإمبراطورية» وإقليمها الأهمّ (إضافة، بالطبع، إلى موقع بغداد قريباً من النهرين، ما يسهّل النقل منها وإليها، وكونها بعيدة عن الساحل وخطر الغزوات المفاجئة). يطرح هيو كينيدي مقاربة مفيدة حتّى نفهم معنى «أرض السواد» عبر مقارنتها بمجتمع نهري آخر هو وادي النيل. في مصر، يقول كينيدي، تقوم الزراعة تاريخياً على دورة الفيضان السنوي؛ النّهر سيغمر الأرض ويخصّبها ويغسلها في كلّ عام، كل ما عليك فعله هو أن تزرع في أوقاتٍ محددة والطبيعة تتكفّل بالباقي. أمّا في جنوب العراق، فإنّ «المجمّع الزراعي» لا يمكن أن يقوم من غير جهدٍ بشريٍّ كبير، وتخطيطٍ، وتطويعٍ مستمرّ للطبيعة والبيئة بشكلٍ «قابل للاستدامة». حتّى تنتج أرض العراق كما يجب، عليك أن تبني نظاماً معقّداً من الخزانات والسدود والقنوات. تستغلّ مثلاً الفارق في الارتفاع بين النهرين وتبني بينهما القنوات، قد يكون طول الواحدة 30 أو 50 كيلومتراً، فتصبح كلّ الأراضي على طولها صالحة للإنتاج الكثيف. وحين تتحكّم بالدورة المائية وتنقل المياه من نهرٍ الى آخر، تتقلّص الأهوار وتجفّ المستنقعات وتصبح أرضاً زراعية خصبة. بل يمكن، ببعض الاستثمار، أن تمدّ هذه المشاريع لاستصلاح المزيد من الأرض في الصحراء وإقامة حيازات زراعية كبيرة في وسطها، كانت تُحاط ببساتين من النخيل والأشجار المثمرة لحمايتها من الرمال.
الوجه الآخر لهذه المعادلة هو أنّك، إن فعلت هذه الأمور، تصبح أرض السواد أكثر إنتاجيّة، بكثير، من أيّ مكانٍ آخر في العالم. قبل أن يبدأ خراب السّواد خلال سنوات الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون، وانعدام الاستقرار والحملات العسكرية التي دمّرت الريف العراقي، كانت عائدات السّواد من الضرائب لخزينة العباسيين، ينقل كينيدي، توازي أربعة أضعاف عائدات مصر، وخمسة أضعاف عائدات سوريا (وهي كانت أيضاً ولاية ثريّة وتجاريّة ومنتجة). هذا هو الواقع الذي اكتشفته الدّول الأولى في التاريخ، في تلك البقعة، منذ آلاف السنين، ولهذا كانت الدول والإمبراطوريات التي رعت واستغلّت هذا المجمّع الزراعي، تميل على الدّوام لـ«استيراد» الناس إلى الجنوب العراقي، سواء عبر الترغيب أو عبر التهجير والسّبي، فهي تحتاج على الدّوام إلى المزيد من الفلّاحين لكي يعملوا في الأرض ويرفعوا إنتاجها؛ وهنا نما في أرياف العراق خليطٌ بشري وثقافي لا مثيل له في العالم القديم. ومن هذا السياق خرجت، ربّما لأول مرّةٍ في تاريخ البشرية، مفاهيم مثل الكتابة والتدوين والحساب والهندسة، والمدينة والمعبد والملك والثّورة.
في الوقت نفسه، فإنّ هذا النظام «هشّ» للغاية، بمعنى أنّ غياب الرقابة والتخطيط والصيانة (وهي كلها أمور مكلفة) يعني خرابه في وقتٍ قياسي. يكفي أن تثقب قناة في موقعٍ واحد حتّى تفسد كلّ الأرض قبل الثقب وبعده. أن تخرج المياه عن خزّانٍ أو سدّ يعني جفاف شبكة كاملة من القنوات، وكل الأراضي التي على ضفافها، فيما يظهر في مكانٍ آخر مستنقعٌ هائلٌ تتجمّع فيه الملوحة. نظامٌ كهذا، حين ينهار، يصبح من الصّعب جدّاً إعادة إنشائه. ومأساة العراق «التاريخية» هي أنّ هذه المنظومة، منذ خربت في حرب الأمين والمأمون، لم ترجع إلى عهدها السابق حتى يومنا هذا. من هذه الزاوية، يمكن النّظر إلى التاريخ الاجتماعي للعراق، منذ القرن العاشر ربّما، على أنّه تردّدات لتكسّر تلك المنظومة القديمة، وكلّ المحاولات التي خرجت في هذا المجتمع الفلّاحي القديم لملء «الفراغ»: إمارات عشائرية، سلالات محليّة، دول مشاعيّة تخرج في الهوامش، وفرقٌ دينية لناسٍ تحاول التوفيق بين تراثها وواقعها. وهذا كلّه كان يدور في مناخٍ يغلب عليه الاضطراب السياسي وانعدام الاستقرار المديد.

خاتمة
يكتب الباحث اريك هان أنّ المسار الانحداري للسلالة العباسية بعد مرحلة الخلفاء الأوائل لم يكن خطياً بالكامل. حاول العديد من الخلفاء المتأخرين أن يعيدوا للخلافة سلطتها السابقة، وأن ينازعوا العسكر السلجوقي، ويعيدوا ضمّ الإمارات والمدن التي تنفصل. وقد يكون أنجح هؤلاء هو الخليفة النّاصر، أحد أواخر العباسيين، الذي حكم لأكثر من أربعة عقود وحجّم السلاجقة وأعاد تأسيس السلطة على أكتاف تنظيمات عسكرية محليّة (كتنظيم «الفتوّة» البغدادي). في نهاية عهده الطّويل، قد يكون النّاصر اعتبر أنّه أنجز المستحيل: وضع الإمبراطورية على طريق التعافي بعد زمنٍ مديدٍ من الانحدار والقلاقل؛ لكنه لم يكن يعرف أن المغول سيظهرون على الساحة بعد أقل من ثلاثين عاماً على موته، وينهون سلالته التي عمّرت لقرونٍ خمسة كانت بغداد، لقسطٍ معتبرٍ منها، هي قلب العالم.

* أعتمد هنا أساساً على ثلاثة كتب عن العصر العبّاسي: اثنان لهيو كينيدي المتخصّص بالمرحلة العباسية المبكرة وواحد لاريك هانٍّ (Hanne) الذي يدرس العهد العباسي المتأخّر. كتاب كينيدي «حين حكمت بغداد العالم الإسلامي» (منشورات دي كابو، 2006) هو سرديّ وسهل، يجمع وينظّم الكثير من الروايات التراثية. فيما كتاب هان هو «وضع الخليفة في مكانه: السلطة والقوة والخلافة العباسية المتأخرة» (منشورات كامبردج، 2007)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا