بعد قيام الوحدة الألمانية عام 1871، كان هناك ملامح استيقاظ ألمانية كان من الواضح أنها ستقلقل النظام الدولي القائم بزعامة بريطانيا منذ انتصارها على فرنسا في حرب السنوات السبع (1756 - 1763) قبل تكريس هذا النظام في مؤتمر فيينا عام 1815 عقب هزيمة نابليون في واترلو. كان بسمارك واعياً لمخاطر استفزاز لندن، لذلك حاول تأكيد معادلة: «بريطانيا وحش بحري، وألمانيا وحش بري، يجب أن لا يصطدما».
ومن هنا لم يحاول مد يده لما وراء البحار خارج القارة الأوروبية، ومقدماً برلين، بعد هزيمة فرنسا عام 1870، كعامل للاستقرار الأوروبي، وكحاجز أمام العملاق الروسي في الشرق، وككابح أمام التوسع الفرنسي في الوسط الأوروبي كالذي حاوله نابليون بونابرت (1799 - 1815). بعد عزل بسمارك عام 1890 اتجهت برلين نحو سياسة معاكسة لمستشارها الحديدي السابق، وهو ما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى ثم الثانية التي اشتعل حريقها من رماد الأولى.
لم تستطع واشنطن بعد هزيمة موسكو في الحرب الباردة أن تحافظ طويلاً على وضعية «القطب الواحد للعالم»: تعثرت في كابول 2001، وفي بغداد 2003، ومال ميزان القوى الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، التي كان يسميها الجنرال ديغول «قلب العالم»، لغير مصلحة واشنطن «بعد تحولها لقوة شرق أوسطية إثر مجيئها بجنودها لأفغانستان والعراق» من خلال نتائج حرب تموز 2006، وغزة 2007، وبيروت 7 أيار 2008، وبغداد 25 تشرين الثاني 2010 (المالكي وليس علاوي رئيساً للوزراء)، ومن ثم سقوط حكومة سعد الحريري في بيروت في 12 كانون ثاني 2011: كانت هذه الميلانات للموازين لغير مصلحة واشنطن عائقاً أمام تجيير الأميركيين لـ«الربيع العربي» البادئ إسقاطه للحكام في تونس بعد يومين من ذلك الحدث البيروتي لمّا استقال وزراء قوى 8 آذار، وأسقطوا حكومة الحريري أثناء لحظة اجتماعه بالبيت الأبيض مع الرئيس الأميركي.
حصيلة «الربيع العربي»
قد أتاحت المجال لزيادة قوة موسكو وطهران


وعملياً إذا أريد قياس الأحداث بنتائجها، وليس بمسارها، فإن حصيلة «الربيع العربي» قد أتاحت عبر الاضطراب الداخلي في بلدان المنطقة المجال لزيادة قوة موسكو وطهران إقليمياً، فيما لم تستطع واشنطن، رغم حلفها مع الإسلام السياسي الذي صعد للسلطة في القاهرة وتونس وشارك بها في صنعاء وطرابلس الغرب وتزعم الحراك السوري المعارض، أن تصبح أقوى شرق أوسطياً وأن تعوض تراجعاتها الاقليمية.
عبر هذا عن ضعف عند «القطب الواحد للعالم»، على الأرجح أنه يمكن تفسيره باجتماع الأزمة المالية - الاقتصادية في سوق نيويورك في أيلول 2008 مع التجربة الفاشلة للأميركي في أفغانستان والعراق. ترافق هذا مع استيقاظ روسي بدأت ملامحه في الشهر السابق لأزمة سوق نيويورك عبر الحرب الروسية - الجورجية، ثم عبر مكاسب موسكو في الحدائق السوفياتية السابقة في أوكرانيا وقرغيزيا. لم يقتصر هذا الاستيقاظ على المحيط الاقليمي الروسي، بل ترجم عالمياً من خلال تشكيل موسكو لتكتل عالمي مع بكين ونيودلهي وبرازيليا في 16 حزيران 2009 من خلال إنشاء مجموعة «البريكس» (انضمت إليها جنوب أفريقيا عام 2010) التي دعت إلى تشكيل «نظام عالمي متعدد الأقطاب». في الأزمة السورية، ومن خلال ثلاث فيتوات مزدوجة روسية - صينية، أعلن هذا التكتل فعاليته في أكبر أزمة دولية نشبت في عالم ما بعد الحرب الباردة. وقام، بالتحالف مع إيران، بمنع الحلف الأميركي – الأوروبي – التركي – الخليجي بتحقيق أجنداته عبر الصراع السوري الذي تحول إلى ساحة مكثفة للمجابهة الدولية – الإقليمية عبر حطب سوري. وعملياً، يمكن القول إنّه عبر دمشق أثبتت موسكو أن «القطب الواحد للعالم» قد انتهى، وهو ما يمكن تلمسه من خلال مجريات «اتفاق موسكو» في 7 أيار 2013 حول سوريا، ثم اتفاق جنيف في 14 أيلول حول الكيميائي السوري ثم من مؤتمر «جنيف 2» في 22 كانون الثاني 2014، حيث كان واضحاً أن هناك ثنائية أميركية – روسية في تناول الأزمة الأكبر للعلاقات الدولية مع أرجحية روسية. في الأزمة الأوكرانية (الناشبة منذ 21 شباط 2014) هناك أرجحية روسية أكبر بالقياس لقوة أداء وتناول الغرب الأميركي – الأوروبي للأزمة، التي أصبحت معطلة لجنيف السوري، والذي بدوره أصبح مربوطاً بما سيجري في كييف.
يمكن كصورة رمزية تقديم بوتين في خطابه بالدوما يوم 18 آذار 2014، وهو يضم القرم إلى الاتحاد الروسي مع قياسها بصورة أوباما الذي يشبه في أدائه ما كان عليه رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين في مؤتمر ميونيخ عام 1938، لما ظهر بصورة الضعيف أمام هتلر والساعي لتهدئة الشهوة التوسعية للزعيم الألماني من خلال منطق استيعاب تنازلي لم يهدئ تلك الشهية، بل كان يزيدها اضطراماً. في تلك الصورة هناك صورة زعيم لقوة صاعدة تجاوزت مرحلة النوم والاستيقاظ وهي تملك شهية توسعية شبيهة بألمان ما بعد بسمارك ويابانيي ما بعد الحرب اليابانية – الروسية عامي 1904 - 1905، وعلى الأرجح، إنها من خلال ما جرى في دمشق وفي أوكرانيا ستقلقل النظام العالمي القائم، مثلما فعل الألمان واليابانيون في فترة 1890 - 1945.
هنا، يلفت النظر اجتماع ثلاث قوى وراء بوتين: القوميون الروس، والشيوعيون، والكنيسة الأرثوذوكسية في كتلة واحدة تعبّر عن قاعدة اجتماعية روسية واسعة تسعى من خلال الزعيم الروسي الجديد لتحقيق ما سعى إليه بطرس الأكبر والقياصرة التي بنوا الإمبراطورية الروسية عبر نزعة قومية روسية مدرعة بنزعة سلافية شجعتها الكنيسة، ثم أكملها زعيم الكرملين الشيوعي السوفياتي جوزيف ستالين الذي انفتح على الكنيسة الأرثوذوكسية أثناء الحرب مع الألمان، واستدعى بعضاً من عدة الروح القومية الروسية قبل أن يوصل نفوذ موسكو إلى حدود غير مسبوقة أوروبياً وعالمياً مع الانتصار على هتلر عام 1945. يلفت النظر، أيضاً، استيقاظ الروح القومية والتوق إلى الاندماج مع روسيا عند الروس المتناثرين في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ولو أنها لم تنفجر إلا في أوكرانيا ومولدافيا حتى الآن. وقد ظهر بوتين في خطاب 18 آذار وهو يلوّح بورقة حماية الأقليات الروسية، في صورة تذكر بما فعله هتلر تجاه النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا في توتيرات قادت إلى بدء الحرب العالمية الثانية.
* كاتب سوري