لم يكن وِليم رمزي كلارك (1927– 2021)، وهو الأميركي الذي شغل مناصِب عدّة عليا في وزارةِ العدل الأميركيّة في عهدِ كل مِنَ الرئيسينِ جون كنيدي وليندون جونسون؛ ومِن أبرزِها منصِب «المدعي العام للولايات المتحدة» (1967- 1969)، مجرّد سِياسي آخر، يتولّى مهامه في عهدِ أَحد رؤساءِ الجمهوريَّةِ الأميركيّةِ، على الإطلاق. قد يكون صحيحاً أنّ كلارك، وُلِّيَ منصِبَ وزير العدل للولايات المتّحدةِ الأميركيَّةِ، مِن قِبَلِ ليندون جونسون،، لِدواعٍ سِياسيةٍ وربما استغلاليّةٍ، ارتآها جونسون، وخاصة في ما قد يكون مرتبِطاً بالتحقيقِ في اغتيالِ سلفِهِ الرئيسِ الأميركي جون كِنيدي؛ بَيْدَ أنّ كلارك، ما كان مِنه أنْ أَبِهَ، ولو قيدَ أُنْمُلةٍ، لِما كان يدورُ في تفكيرِ جونسون، مِن خُطَطِ استِغلالٍ سِياسي وإداري لِتَعيينِهِ؛ بِقدرِ ما مارس هو مهامه في منصِبِ زيرِ العدلِ، بعيداً عن أية أطر سياسيّةٍ قد تَنْتَظِمُها هذه الخُطط. ‬إنّ رمزي كلارك صاحب قضيّة إنسانيّّة ساميةٍ، وساعٍ إلى خدمة هذه القضيّةِ، من خلال ما تولّاه من مناصب ونشط في سبيله من مهام. أمّا قضيّته، فحق الإنسانِ في الكرامةِ، وأمّا مفهومُهُ مِن هذه القضيَّةِ، فلعلَّه يُخْتَصَرُ في أنّ الحرِيّةَ المسؤولةَ، لَيست إلا صُنْواً لِلكرامة الإنسانية. لذا، لم يكن غريباً أن يكون رمزي كلارك مختلفاً في العُمْقِ عن كثيرين مِن أهلِ السياسةِ في الولاياتِ المتحدة الأميركيّة: لقد عمل كصاحب قضِيّةِ وكصاحب مبادئ، وفقَ ما تمليه عليه قيمُه الإنسانيّة، فعاش، وَلَوْ خاسِراً سياسيّاً، في أكثر حُصونِ الكرامة الإنسانيّة اعتزازاً وبقاءً.‬
انتشر ذِكر رمزي كلارك، داعماً قويّاً للحريّاتِ والحقوقِ المدنيّةِ، كما اشتُهِر بمعارضتِهِ الشديدةِ لِعقوبةِ الإعدامِ، وتفانِيهِ في تطبيقِ أَحكامِ مكافحةِ الاحتِكار. وخلال إدارتِهِ لِقِسمِ الأراضي في وزارةِ العدلِ الأميركِيَّةِ (1967 – 1969)، اهتمّ بتحسينِ مستوى الكفاءةِ التشغيليّة الإداريّة لهذا القسم، فوفّر، ما يكفي مِن المالِ العام مِن موازنة وزارتِهِ، إلى درجةٍ أنّه طلبَ مِن الكونغرس الأميركيّ، خفْضَ الموازنة الخاصة بإدارتِهِ المباشِرةِ، بمقدارِ 200 ألف دولار أميركي سنويّاً.‬
ولعب كلارك، خلال السنواتِ التي أمضاها في وزارةِ العدل، دوراً فاعلاً في تاريخِ حركةِ الحقوقِ المدنِيّةِ؛ إذ مَسَحَ، سنة 1963، جميعَ المناطقِ التعليميّةِ في الجنوبِ الأميركي، لإلغاء الفصلِ العنصري الذي كان لا يزال سائداً عهدئذٍ. كما أَشْرَفَ، عام 1965، على وضع الصياغتيْنِ التحضيريّةِ والتنفيذِيّةِ لإقرارِ قانونِ حقِ التصويتِ الانتِخابِي، وقانونِ الحقوقِ المدنيّةِ لعام 1968. وكان خلال هذهِ الحقبةِ أيضاً، وفي عام 1963 تحديداً، مديراً لجمعيّة القضاءِ الأميركيّةِ، ثمَّ، أصبح، بين عامَي 1964 و1965، رئيساً لنقابةِ المحامين الفيدراليَّة.‬
لم يكن نشاط رمزي كلارك ليقف عند حدودِ إداراتِ الحكومةِ الأميركيَّةِ، أو حتَّى ضمن حدود بلاده، بل حمل إيمانه بقضيَّةِ الكرامةِ الإنسانِيّة والحريّة، على مُسْتَوى العالم...
تَوَجَّهَ إلى طهران، في شهرِ حزيران (يونيو) 1980، بعيد الثورة الإسلاميّة، لِحضورِ مؤتمرٍ حول التدخّل الأميركيّ في الشؤونِ الإيرانيّةِ. وطالَبَ الحكومةَ الإيرانيّةَ، بالإفراج عنِ الرهائنِ الأميركيين المُحتجزينَ، وقتذاكَ، مِن قِبَلِ الحرس الثورِي الإيراني. كما انتقد، في الوقت عينه، الدعم الأميركي السابق للشاهِ قَبْلَ قِيامِ الثَّورةِ التي أسقطت نظامه. ‬
وفي شهر أيلول (سبتمبر) 1998، ترأّس كلارك وفداً إلى السودان؛ لِجمعِ الأدِلَّةِ، في أعقابِ قصفِ الرئيسِ الأميركي بيل كلينتون «مصنع الشفاء للأدوية» في الخرطوم. وعقدَ كلارك، فور عودتِهِ إلى بلاده، مؤتمراً صحافيّاً دَحَضَ فيهِ مزاعِم وزارةِ الخارجية الأميركيةِ بأنّ المنشأة المستهدفة، كانت تنتج غاز الأعصابِ. والجدير بالذِّكر، أنّ المسؤولين الأميركيين اعترفوا، لاحقاً، بأنّ الأدلةَ التي تم اعتمادها لتبريرِ قصفِهِم «مصنعَ الشفاء»، كانت أضعفَ مما يعتقدون.‬
عارضَ كلارك عام1991، التدخّل الأميركي في الشَّرقِ الأوسطِ، خصوصاً لجهةِ الحربِ على العراق. وحمّل إدارة بوش الأب، عواقب هذا التدخلِ. وقد اتهم بصراحة، كلاً مِن دان كويل، وجيمس بيكر، وديك تشيني، وويليام ويبستر، وكولين باول، ونورمان شوارزكوف، وسواهم، بتعريض السلام للخطر، وارتكاب جرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانية. ‬
ولم تقتصر مواقف كلارك الأخلاقيّة على الشرق الأوسط. ففي عام 1999، وقف ضد التدخّل العربي في يوغوسلافيا، وأدان القصف وسياسة «الإبادة الجماعيّة». ومِن جهةٍ أخرى، انضمَّ رمزي كلارك، عام 2004، إلى لجنةٍ مؤلَّفةٍ مِن زُهاء عشرين محامياً، مِن العربِ وسواهُم، للدّفاعِ عنِ الرَّئيسِ العراقيِّ صدَّام حُسين الذي أطاحتَهُ قواتُ التَّحالفِ الأميركيِّ بعد غزو العراق. ‬
ولَئِنْ كان لرمزي كلارك أن يزهو بنضالاته في سبيل الحريّة والكرامة الإنسانيّة، فَلَهُ أنْ يزهو، كذلكَ، بالثمن الذي دفعه: ففي انتخابات المندوبين للترشيحِ الرئاسي، خلال المؤتمرِ الوطنِي الديمقراطيّ عام 1972، حاز صوتاً واحِداً. وتَرَشَّحَ، عَنِ الحزبِ الدِّيمقراطي، في انتخاباتِ ولايةِ نيويورك، لعضويةِ مجلسِ الشيوخِ، في دورةِ 1974؛ غيرَ أنَّهُ خَسِرَ في هذهِ الانتخاباتِ العامَّةِ أمامَ جاكوب جافيتس. وفي الانتخاباتِ التَّمهيديَّةِ لعام 1967، جاء في المركز الثالث، خلف دانيال باتريك موينيهان وعضوةِ الكونغرس بيلا أبزوغ.‬
لقد غادرنا رمزي كلارك قبل أيام، عن ثلاثة وتسعين عاماً، بعد حياة سياسية فريدة ومشرّفة، أمضاها في خدمة معارك الحرية والعدالة والحقوق، خصوصاً في منطقتنا، وأعطى للسياسة بعداً مختلفاً عن الفكرة المهيمنة، واضعاً كرامة الإنسان وحريّته في صلب أهداف العمل السياسي. فهذه الأهداف النبيلة، بالنسبة إليه، أكثر سموّاً ورِفعةً وشموخاً وعِزّةً من كلّ شأن سياسيّ آخر، وأعظم من جبروت القوى المهيمنة على الشعوب، وأقوى من تشاطُر المتلاعبين بمبادئ الديمقراطيّة، المتاجرين بتأويل النصوصِ والقوانين التي يضعها أهل السياسة، على حساب الإنسان وحقوقه. فالتاريخ الذي يحفظ جرائم رؤساءَ أميركيين بحق الإنسانيّة، لا يمكنه أن يغفل الدور الأصيل والإنجازات المشرّفة لسياسيين من أمثال رمزي كلارك.‬ ولعلّ هناك قواسم مشتركة عدّة، أخلاقيّة وسياسيّة، تجمع بين الالتزام الواعي والمسؤول الذي اختاره الأميركيّ رمزي كلارك نهجاً، وما التزم به ـــ بالإصرار عينه، والعزيمة نفسها ـــ نهجاً لمسيرته السياسيّة والإنسانيّة، رجل سياسي آخر، من لبنان هذه المرّة، اسمه سليم الحص، أطال الله عمره...
* رئيس ندوة العمل الوطني‬

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا