«... لهذا السّبب كان الرومان، حين يستشرفون بوادر المخاطر، يتعاملون معها على الفور ولا يسمحون لها بأن تتطوّر، وإن كان ذلك في سبيل تجنّب الحرب. فهم كانوا يفهمون أنّ الحرب لا يمكن تجنّبها، جلّ ما يمكن هو تأجيلها، لمصلحة الآخرين» - نيقولو ماكيافيللي
حتّى نضع المسألة في منظارٍ تاريخيّ أوسع، يمكن القول - اختصاراً - بأنّ منطق الحروب بين إسرائيل والعرب قد شهد انزياحاً تحوّليّاً في نصف القرن الأخير. منذ حرب 1973، انتقل ما يمكن أن نسمّيه «العبء الوجودي» في الحرب (existential onus) من الدولة الصهيونيّة إلى أعدائها. «العبء الوجودي» يعني أن تخوض المواجهة العسكريّة والرّهان عليها خطيرٌ وثقيل، أي أن الخسارة قد تكلّفك هزيمة مُقعدة أو - حتّى - خطراً وجوديّاً.
وشم إمرأة زاباتيّة من تصميم جاغ غانكاس (المكسيك)

وصولاً الى حرب عام 73، كانت إسرائيل تواجه جيوشاً عربيّة نظاميّة وكبيرة، يمكن لها (نظريّاً على الأقل) أن تجتاح الكيان الصهيوني في حال أثبتت تفوّقها العسكري، وأن تسترجع أجزاءً منها، أو حتّى أن تدمّر دولة إسرائيل بالكامل. بعد عام 73 اختلف الوضع جذريّاً. لم تعد إسرائيل تواجه «جيوشاً» كلاسيكية مجتمعة، بل أصبحت حروبها، أساساً، ضدّ تنظيمات مقاومةٍ شعبية، فلسطينية وعربيّة، وميليشيات تمارس حرب الغوار؛ أو ضدّ جيوشٍ عربيّة مفردة تضمن إسرائيل التفوق النوعي والكمّي عليها (كحالة الجيش السوري في لبنان عام 1982).
في هذا السياق الجديد، أخذت حروب إسرائيل في جوارها شكل «الحملات الخارجية»: جولات عسكريّة اختياريّة، أهدافها سياسيّة وليست دفاعيّة، تنتقي القيادة الصهيونيّة موعدها ومستوى التصعيد فيها، وتخوضها دوماً وهي في حالة تفوّقٍ مضمون وخلفها حلفٌ دوليّ داعم. هنا تصبح رهانات «النصر» و»الهزيمة» من طبيعة مختلفة تماماً. من وجهة النّظر الإسرائيليّة، لم يعد الخوف هو من أن نشهد تدمير فرق الجيش الإسرائيلي في الصحراء، وأن تخترق الدبابات المصريّة الحدود؛ بل حسابات من نمط أن «تفشل» الحملة ولا تحقّق أهدافها الموضوعة، أو أن يقتل عددٌ من الجنود يفوق ذاك الذي كان «متوقّعاً»، وأن تدفع الحكومة القائمة الثمن السياسي عن هذه «الفشلة» (أو أن تحصد نجاحاتها في الانتخابات). بطبيعة الحال، ظلّت البروباغندا الرسميّة عند الصهاينة تقدّم الحروب مع العرب ضمن «الإطار الوجودي» ذاته، خاصّةً تجاه الجمهور الغربي، فكان بيغن مثلاً يبرّر غزو 1982 بأنّه حربٌ «ضروريّة»، هدفها إنقاذ اليهود من التدمير الكامل - ولكن لا نحن ولا العالم، ولا حتى الجمهور الإسرائيلي نفسه، كان يصدّق هذه السرديّة.
من جهةٍ ثانية، انتقل هذا «العبء الوجودي» إلى ما تبقّى من تنظيمات عسكريّة ودول تواجه إسرائيل. بمعنى أنّ هزيمةً عسكرية واحدة تكفي لأن يتمّ تدميرك بالكامل وإخراجك من الجبهة (كما حصل مع المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1982 أو في الأردن عام 1970)، وحتى الهزيمة «الجزئية» هنا هي كفيلة بأن تفرض عليك خساراتٍ وتنازلات تضعك في مسارٍ تراجعيّ لا فكاك عنه. هذا ما حصل، مثلاً، بعيد اجتياح 1978 لجنوب لبنان، حين خسرت «منظّمة التحرير» وحلفاؤها اللبنانيون، بالمعنى السياسي العميق، مصدر شرعيّتهم ومبرّر وجودهم (raison d›etre) - إذ لا يمكنك أن تتكلّم عن مشروعٍ عسكري لتحرير فلسطين فيما جنوب لبنان أضحى محتلّاً. ولو تعرّض «حزب الله» عام 2006 للهزيمة، لكان قد وجد نفسه أيضاً أمام أحد هذين المصيرين.
على الهامش هنا: حين يتساءل البعض، ببراءة، عن أسباب ضعف واضمحلال أحزاب «الحركة الوطنية» في لبنان وأفكارها، ولا يأخذون في الاعتبار هذه الأحداث المفصلية، فهم ينسجون تاريخاً خرافيّاً (وحين تنطلق من سرديّة مزيفة للتاريخ، وبخاصة تاريخك أنت، فإنّك لن تصل إلى مكان). لا توجد حركة في العالم لا تخسر، على الأقلّ، جزءاً كبيراً من شرعيتها حين تُمنى بمثل هذه الهزائم. والمسألة هنا ليست في الهزيمة فحسب، بل في شكل الهزيمة (بمعنى آخر: إنّك لم تقاتل، بل هربت). الهزائم لا تتشابه. وحتّى حين تجد نفسك قد أضحيت أمامها ولا مفرّ من تذوّقها، فإنّ تعاملك مع الهزيمة سيقرّر مستقبلك بعدها. نكرّر أنه، في التاريخ، البعض يُهزم ولكن بطولته وتضحيته - حتى وهو يسقط - تُبقيان ذكراه حيّةً، ويأتي خلفه، وإن بعد زمن، من يدلّ على طريقه ويكملها. وهناك، على الجانب الآخر، هزيمةٌ تدفنك وتدنّس ذكراك إلى الأبد (وماضينا مليء بأمثلةٍ من النمطين). وفي كلّ الحالات، فإن لا بداية لأي مشروعٍ من غير أن تفهم تاريخك وما جاء قبلك، وأن تكون صادقاً ونقدياً معه ومع أحداثه، وأن لا تحاول تجميل ما ليس جميلاً. ولمن لا يعرف ما جرى في تلك المواجهات وحجم الهزيمة وقتها، أو من يحاول - مع مرور الزمن - أن يسبغ «رومانسيات» على ما جرى، أو يتسلّح بمنطق المؤامرة أو «ما كان بالإمكان أفضل ممّا كان»، فما عليه سوى أن ينظر الى خرّيطةٍ طوبوغرافية للبنان وجنوبه. هو لا يحتاج حتّى إلى أن يزور البلد ويجول في الجبال الشاهقة والأودية والغابات، من الليطاني إلى صافي إلى جزّين، التي كان يفترض أن تدور فيها «المعركة»، والطرقات الضيّقة المتعرّجة التي عبرتها الطوابير المدرّعة الإسرائيلية - من غير مقاومة تقريباً - خلال ساعاتٍ وأيّام.

لماذا لن تقع الحرب
في العقود الماضية، غيّرت الساحة اللبنانية معادلة المواجهة، لا بمعنى أنّ «الخطر الوجودي» بشكله القديم قد عاد ليسكن الكيان الصهيوني، ولكن بمعنى أنّ نمط «الحملات الخارجية»، المحدودة الكلفة، لم يعد ممكناً. وهنا، بالمناسبة، نجد حالة دراسية مثاليّة عن قدرة بلدٍ صغيرٍ، محدود الموارد، على ردع عدوٍّ أقوى منه بكثير. كما قال الجنرال ماكينزي في مؤتمرٍ في البنتاغون منذ أيّام، فإنّ «الردع» هو مفهومٌ دبلوماسي وليس مفهوماً عسكرياً، وبخاصة من وجهة نظر القوى الكبرى. بتعابير أخرى، «الرّدع» نادراً ما يعني استحالة عسكريّة، بل هو وعي المؤسسة السياسية بكلفة الحرب ضدّ خصمٍ ما، واقتناعها بأن الثمن والعقاب (أو صعوبة تحقيق الأهداف السياسية) يمنعانها من شنّ الحرب عليه.
الالتقاء بين الكلفة العالية وانتفاء «الخطر الوجودي» الداهم يخفّض احتمالات الحرب حاليّاً... إلى أن يتغيّر أحد هذين العاملين، وهذا محتّمٌ، عاجلاً أم آجلاً


في المعادلة العسكرية بين لبنان والصهاينة، يأخذ «الردع» شكلين: واحدٌ تقنيّ وآخر تنظيمي\سياسي. الجديد تقنياً، باختصار، هو ما يسمّيه الخبراء «ثورة الدقّة» التي زارت ترسانة العديد من خصوم أميركا في السنين الماضية. أي انتقال القدرة على توجيه القذائف والصواريخ بشكلٍ دقيق، وعلى مديات بعيدة، من دولٍ غربية قليلة تحصل على التكنولوجيا بكلفةٍ عالية، إلى الكثير من الدّول «الهامشية»، بعد أن أصبحت هذه التقنيات أكثر انتشاراً وأقل ثمناً. هذا غيّر مسرح الحرب بشكلٍ جذريّ، وبخاصّةٍ بالنسبة إلى دولة كإسرائيل تواجه خصماً مثل «حزب الله».
حتّى نفهم المعنى «الجديد» للحرب مع لبنان بالنسبة إلى القيادة الإسرائيلية، بعيداً عن التصريحات الرسميّة وقرقعتها، يمكننا ذكر مثالٍ استخدمناه سابقاً عن منصّات الغاز الإسرائيليّة. الحرب مع لبنان تعني، أوّلاً وقبل أي شيء (أي قبل أن نقول «السلام عليكم»)، أنّ منشآت الغاز الإسرائيلية في البحر المتوسّط ستشتعل ما إن تبدأ إسرائيل - كعادتها - بقصف البنى التحتية في لبنان. المسألة باختصار ليست أن «حزب الله» أصبح قادراً على ضرب مثل هذه الأهداف، بل إنّه يمتلك أكثر من وسيلة لضربها ولائحة خيارات: صواريخ بالستية، طائرات بلا طيّار، صواريخ مضادة للسفن، صواريخ جوالة؛ أي أنّه، إن أراد فعلاً تدمير مثل هذه الأهداف، فهو سيتمكّن من ذلك بالتأكيد. ووضع بوارج إسرائيلية مع أنظمة دفاع جوّي لحماية هذه المنصات الثمينة، وهو ما تحضّر له البحرية الإسرائيلية مع الجيل الجديد من سفنها القتالية، لا يعني إلّا إضافة أهدافٍ جديدة لصواريخ «الحزب» (والصواريخ المضادة للسفن تنتجها إيران منذ مدة طويلة وبكميات كبيرة، فلا سبب لأن نفترض أن «حزب الله» لن يستخدمها بوفرةٍ وأعداد في الحرب القادمة، وهي يمكن إطلاقها بسهولةٍ وأمانٍ نسبيّ من أي من التلال المشرفة على الساحل اللبناني).
الكيان الصهيوني، فوق ذلك، تحدّه الجغرافيا: كيانٌ صغير، يمكن أن تطاول أي نقطةٍ فيه، وليس فيه ألف معمل كهرباء وآلاف المنشآت والمصانع الحيويّة. أي أنّه يكفي أن يتمّ تدمير دزينة من الأهدف في الدّاخل الإسرائيلي حتّى يخرج الكيان من الحرب (اقتصادياً وسياسياً) بلداً مختلفاً عن ذاك الذي دخلها. كما أنّ الأسلحة الدقيقة لن تُستخدم في الداخل الإسرائيلي فحسب، بل هي أيضاً تهديدٌ - بخسائر كبيرة - لأي قوّةٍ إسرائيلية تتقدّم داخل لبنان، بعد أن أصبح من اليسير ضرب تجمّعٍ للجيش الإسرائيلي في الجنوب، بدقّةٍ، بصاروخٍ ينطلق من الهرمل. إسرائيل تطوّر، بالمقابل، أنظمة دفاعٍ متقدّمة، ولكن فائدة هذه الأنظمة في حربٍ شاملة ستكون محدودة: «القبة الحديدية» مفيدةٌ لاعتراض الصاروخ المفرد أو قذيفة الهاون، أو عددٍ قليلٍ منها، ولكنّ الصواريخ الخفيفة ستنطلق من لبنان برشقاتٍ كثيفة، والمُدافع هنا عليه أن يوزّع بطارياته على طول الجبهة، فيما المهاجم لديه امتياز تركيز قوته النارية في مكانٍ واحد. أمّا بالنسبة إلى الصواريخ البالستية»الخطيرة» التي ستطاول عمق الكيان، من عائلة «فاتح» وما يعادله، فإن النظام الإسرائيلي الذي سيواجهها هو أساساً «مقلاع داوود»، وهو نظامٌ متقدّمٌ بالفعل، وصاروخه الاعتراضي من الأحدث في العالم، ولديه عدّة مصادر للتوجيه في وقتٍ واحد (راداري، بصري، وبرنامج كمبيوتر يدمج هذه المعلومات لتحديد هدف الصاروخ ومساره). غير أنّ إسرائيل لا تملك حالياً أكثر من بطاريتين عاملتين من هذا الطراز، وثمن الصاروخ الاعتراضي الواحد يقارب المليون ونصف مليون دولار (عددياً، تمتلك إسرائيل عدداً أكبر من بطاريات «باتريوت»، التي حصلت عليها من أميركا وألمانيا؛ ولكنها من طراز سابق - باك2 - أقلّ كفاءة في مواجهة الصواريخ البالستية، ويستخدمها جيش الكيان أساساً في مهام الدفاع الجوي التقليدي).
الجانب الثاني من الرّدع يتمثّل في طبيعة «حزب الله» وتنظيمه، لا من جهة الحلفاء الخارجيين فحسب، بل من ناحية تكوينه السياسي والاجتماعي. يفهم المخطّطون الإسرائيليون، بالتجربة، أنّ «حزب الله» لا يشبه الحركات التي سبقته، وهو لن يقدّم تنازلات سياسيّة جوهريّة تحت أيّ قدرٍ من الضّغط العسكري. ولديه، في الوقت ذاته، حاضنة لن تتوقّف عن القتال، وهي منظّمة ومدرّبة لهذا الغرض. وهذا يعني أنّ خيار الحرب القصيرة، أو العقابية، لا يمكن أن يحقّق أهدافاً سياسية لإسرائيل. الخيار الوحيد هنا لـ»حسم الأمور» هو في غزوٍ كبير وحرب احتلالٍ طويلة، يصبحان الهمّ الأساسي للمجتمع الإسرائيلي لسنوات قادمة، مع مقاومة مستمرّة وخسائر كبيرة.
ولكنّ هذا الجانب، أي الرّدع، يمثّل نصف المعادلة. لو أخذنا المسألة عبر نظرية «الخيار العقلاني»، فإنّ ما يمنع حرباً إسرائيلية على لبنان حالياً هو تضافر عاملين: الرّدع (أي ارتفاع الكلفة وصعوبة تحقيق أهداف سياسية تبررها) مع واقع أنّ «حزب الله»، لوحده، لا يمثّل خطراً وجودياً على إسرائيل. مهما بلغت قوّة «حزب الله» وقدرته على الدّفاع، أو على إلحاق الأذى بالداخل الإسرائيلي، فهو - وحده - لن يحرّر فلسطين ويدمّر الدولة الصهيونية عسكرياً. حتّى لو تحقّق «السيناريو الأسوأ» بالنسبة إلى المنظّرين الإسرائيليين، وتملّك «حزب الله» آلاف الصواريخ الدقيقة، وشلّ أنظمة الدفاع المضادة في الموجة الأولى، ثمّ أقعد كامل سلاح الجو الإسرائيلي في الضربة الثانية، فهو لن يملك الحجم والقدرة لهزيمة الجيش الإسرائيلي وخوض عمليات هجومية واسعة ضدّه. كما أن «حزب الله» ليس لديه حافزٌ لأن يرشق إسرائيل، فجأةً ومن دون سببٍ جوهري، بصواريخه ويستخدمها لغير الدّفاع. هذا الالتقاء بين الكلفة العالية وانتفاء «الخطر الوجودي» الداهم هو ما يخفض الحافزية لشنّ الحرب، ولو تغيّر أيٌّ من هذين العاملين - وهذا محتّمٌ، عاجلاً أم آجلاً، يتغيّر معها كلّ شيء.
من هنا، من «العقلاني» لإسرائيل أن تتجنّب الحرب العسكريّة مع لبنان في الظرف الحالي، وتحاول إنفاذ خططها ضدّه عبر ساحاتٍ أخرى وحلفاء «خلف الخطوط» ووسائل مختلفة لحصاره، وأن تحارب المقاومة من الدّاخل وتستغل الأزمات والتناقضات في البلد والمجتمع السياسي اللبناني. هذا وقد طرأ تغيير آخر في منطق الصراع مع الصهيونية، هو أن إسرائيل لم تعد كياناً «غريباً» يحارب العرب لوحده، ولا هي «قاعدة متقدّمة» للقوى الغربيّة، بل أضحت - رسميّاً - طرفاً في حلفٍ دوليّ\عربيّ واسع، لديه أدوات متعدّدة تتقاسم المهام، ونفوذٌ في الداخل اللبناني لا يقلّ عن نفوذ «حزب الله» (وهؤلاء، كأقرانهم الذين سنذكرهم بعد قليل، لا معنى للنقاش معهم وللحجّة).

ما خلف الصواريخ
لدى الأمجد سلامة مقولة مفادها أنّه، بعد عام 2011، أصبحت الكثير من النقاشات السياسية في بلادنا بلا سببٍ أو معنى. حين يحضر الخطاب الإبادي والحركات الإباديّة لا يعود هناك من مكان لـ»التواصلية» وهابرماس. ماذا تقول لمن يكرّر، أو يتقبّل أو يبرّر، مثل هذا الخطاب؟ وعلى ماذا تتفاوض معه؟ أن يقتل نصفهم ولا يقتلهم جميعاً؟ (وبالطبع، توجد هنا تراتبية واضحة في الأولويات: حين تظهر حركات تدعو إلى الإبادة وتمارسها، فإنّ المهمّة الأولى تكون في هزيمتها بالكامل، ومن ثم بعد ذلك نتحدّث في باقي السياسة). والمشكلة هنا ليست أنّ سلفيّاً جهادياً متطرّفاً أصبح يلهج بالإبادة الطائفية، بل إنّ هناك أناساً مثقّفين، علمانيين، يرتدون ثياباً حديثة ويتكلمون عن الديمقراطية والمدنيّة، كانوا روّاد تلك المرحلة. السيّئ هنا أن هؤلاء «الحداثيين» كان من المستحيل أن يفكّروا - مجرّد التفكير - بالارتباط بمثل هذه الحركات لولا أنهم كانوا جزءاً من حربٍ ترعاها المؤسسة الغربية وتصادق عليها. والأسوأ بكثير هو أنّ «الغرب الرسمي» تسامح مع هذا الخطاب الفاشي الذي لا يخجل من نفسه، وتناسى حساسياته تجاه الإبادة وتراثها، لسبب واحد وحيد، هو أنها كانت حرباً بين عرب مسلمين سمر يقتلون عرباً مسلمين آخرين. أمّا «المراجعات» الكثيرة التي تصدر اليوم، بعد مرور الزمن، ولا تواجه هذه القضيّة أو تعترف بها حتّى، فهي دليلٌ على عمق العطب الذي حلّ بهؤلاء الناس. ونحن في لبنان، بسبب تجربتنا «الأهلية» القديمة، تعلّمنا منذ زمنٍ أن نفهم حدود الشراكة، في حالاتٍ كثيرة، مع بعض «شركاء الوطن»، وأن لا نتحصّن بالشعارات الوطنية والأمنيات في وجه الكراهية والخطر.
حين لا يعود للنقاش سببٌ، تفهم أكثر أهميّة الفعل، وأنّك لن تغيّر العالم عبر إقناعه بوجهة نظرك، وأنّ من عمل وراكم في العقود الماضية، تنظيماً وسلاحاً ورصيداً شعبياً، هو في النهاية من سيربح «النقاش». المشكلة هي أن الخطاب الثقافوي والاستشراقي عن «حزب الله» والمقاومة لا يزال عماد النقاش بين النّخب. يمكنك أن تقف ضدّ «حزب الله» و»ولاية الفقيه» ولكن، قبل أن تعطي أحكاماً واثقة وشموليّة بشأن هذه الأمور، فإنّ عليك أوّلاً أن تفهمها وتعرف عنها شيئاً. ولدينا في لبنان اليوم خطابان شائعان، مسيّسان، حول ظاهرة «حزب الله»: الأوّل يحاول أن «يلبنن» الحزب بالكامل، ويضعه في «صندوق» الوطنية لكي يهوّن فهمه والتعامل معه، فيصبح حركة محليّة بشكلٍ حصري، خرجت في جنوب لبنان بسبب ظروفٍ آنية في الثمانينيات، الخ. وهناك، بالمقابل، الخطاب التحريضي «الهستيري» الذي يرى «حزب الله» كتنظيمٍ إيراني «غريب»، امتداد لشيءٍ خطيرٍ ومخيف اسمه «ولاية الفقيه» (ويتمّ الكلام على ولاية الفقيه هنا كأنها «كابال» سرّي أو تنظيم ماسوني).
التاريخ هنا ليس موضوعنا، ولكن يكفي أن نقول بأنّه لم تُفتح، فجأةً، نافذة في السماء عام 1979 خرجت منها الثورة الإسلامية والخميني. الخميني هو سليل مشروعٍ قديم، فقهي وسياسي واجتماعي، عمره على الأقلّ ثلاثة قرون، وهو كان فاعلاً أساسياً في تشكيل منطقتنا. وهذه ليست قصّة يمكن حصرها في إطارٍ قطريّ، «إيراني» أو «لبناني»، بل هي ككلّ الأفكار والإيديولوجيات التي انتشرت عبر الإقليم في تاريخه الحديث التي لا تعترف بالحدود الوطنيّة. بل هي حكايةٌ تعود جذورها إلى الحلّة في القرن الرابع عشر، ثمّ تنتقل إلى جبل عامل، فدمشق، فأصفهان، فعودةً إلى النجف وكربلاء، وبعدها قمّ. أنت في لبنان عنصرٌ في نسيجٍ أوسع يشمل المنطقة، ومن غير أن تفهمه وتفهم ماضيه وتنظّر له ولمساره، فإنّك ستقارب شؤون بلدك كالسائح الأجنبي أو عبر قطريّة انعزاليّة، تخلق قوميّات شرسة وعنصريات جاهلة في دولٍ هي ليست حتى دولاً.
في تاريخ الصراع على هذه المنطقة، نلاحظ ديناميّة تتكرّر. نادراً ما تتقدّم حركات المقاومة عبر «الهجوم»، ولا هي غالباً في موقعٍ يتيح لها المبادرة أو فتح حربٍ ضدّ الجيش الأميركي مثلاً. تراكم القوة لدى الضعيف يأتي عبر ثنائية التحدّي والاستجابة: يشنّ الصهاينة أو الأميركيون حرباً بغية القضاء عليك، فتستوعب الضربة وتقوم، عبر عمليّة التنظيم والردّ، بالتقدّم إلى طورٍ جديد ومستوى أعلى. هذا ما حصل بعد غزو 1982 للبنان، وحرب 2006، وغزو العراق ثمّ حرب «داعش»، وحروب سوريا واليمن. يشعلون حرباً للقضاء على تنظيم أو تدمير بلد، فيخرج منها، بدل الهزيمة، جيشٌ ولاعبٌ جديد أكثر كفاءة وخطورة من السابق. العبرة هنا ليست في أنّ المقاومة تعتمد على «أخطاء» أعدائها (ولو كانت الأمور تقاس بموازين القوى والقدرات، لكانت المسألة محسومة لمصلحة الحلف الأميركي الخليجي منذ سنوات طويلة)، بل إنّها كانت على استعدادٍ لتحمّل الثمن الأقصى مقابل خصمٍ هدفه الكسب والتوسّع، وأنها تتحضّر دوماً للحرب. من هنا، فيما يلتهي الكثيرون بالنقاشات - سواء تلك النافعة أو التي ليس لها نفع - يعمل آخرون بصمتٍ في مجالٍ مخصوصٍ، لا تلحظه المقالات والصّحف، ولن نعرف معناه إلّا في الحرب القادمة، ولكنّه دفّة التّاريخ وفصل المقال.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا