لا تنحصر مشكلة التفاوض الجاري حالياً في عدم تمثيله "أكثرية" السوريين، فهذه "الأكثرية" كانت مهمّشة منذ البداية، ولن يضيف تهميشها من جديد شيئاً إلى ما نعرفه عن الآلية المتبعة لاستبعادها. ما يهمّ فعلاً هنا ليس الآلية بحدّ ذاتها ولا الاحتكار الذي تعبّر عنه، بل افتقاد أطر غير تلك التي تضعها باستمرار عواصم مثل الرياض والدوحة وأنقرة. لا تزال هذه الدول تملك قرار المعارضة، وكلما ازداد تدخّلها ضد النظام وحلفائه هنا توسّعت الأطر التي تهيمن عليها، وهي في الأصل غير موجودة لتمثّل أحداً في الداخل أو في الخارج، وإنما لتثبّت نفوذ هذه الدول وتحوّلها إلى رقم أساسي في معادلة السلطة الجديدة. وهذا يصحّ أيضاً على علاقة السلطة بحلفائها، ولكن بدرجة أقلّ، على اعتبار أنّ النظام يمثّل "بيئته" أكثر بكثير مما تفعل المعارضة، ولا يعتمد في علاقته معها على ارتباطاته الخارجية فحسب. وهو ما يفسّر انحصار النقاش حول تشكيل الوفود في دائرة المعارضة التي تبدو في هذه اللحظة في ذروة أزمتها، بينما النظام لا يعاني من مشكلة مماثلة، ويظهر على العكس مرتاحاً من تخبّط المعارضة واستفحال أزمة تمثيلها. بالنسبة إليه لا توجد أزمة من هذا النوع، وإذا وُجدت يمكن حلّها بسهولة عبر العودة إلى "صانع القرار" الذي يخضع بدرجات متفاوتة لهذه الدولة الحليفة أو تلك، ولكنه في النهاية يحتكم إلى الكتلة الاجتماعية التي يمثّل مصالحها ولا يرى تعارضاً بينها وبين ما تريده الدول الحليفة منه.
لا تنحصر مشكلة التفاوض الجاري في عدم تمثيله «أكثرية» السوريين

جذر المشكلة

مشكلة من يمثّل من قديمة بالنسبة إلى المعارضة، وهي سابقة حتى على مرحلة "الثورة" وبداية الاحتجاجات. لكن سنوات الأزمة كانت كفيلة بمراكمتها وإظهارها على النحو الذي نشهده الآن، حيث تظهر التناقضات داخل هذا المعسكر ليس بوصفها تعبيراً عن قوى سياسية لا جذر لها في الداخل فحسب، بل بكونها أيضاً إشارةً إلى افتقاد هذه القوى أيّ ملمح طبقي أو اجتماعي يمكن على أساسه مواجهة مشروع النظام الذي هو في الأساس تعبير عن تحالف طبقي واجتماعي عريض و"متنوع". طوال الفترة الماضية لم تفهم المعارضة الخارجية هذه "المعادلة البسيطة"، وظنّت أن بقاء النظام مرتبط فقط بالدعم الخارجي الروسي والإيراني له، وعلى أساس هذا الفهم الساذج والمُغرِض والتبسيطي بَنَت تحالفاتها الإقليمية والدولية، واستعانت بالأصدقاء من هنا وهناك لكي يُعينوها على هذا النظام الذي لا يمثّل في رأيها السوريين ولا يعبّر عن توقهم إلى التحرّر والانعتاق من العبودية (بعض هذه المفاهيم يتحمّل مسؤوليتها كتّاب يساريون مرموقون داخل المعارضة). عدم سقوط النظام بسرعة كما كانوا يأملون وبقاؤه طيلة هذا الوقت أصابا هذه الفئة من المرتبطين بالمثلث السعودي التركي القطري بالذهول، وبدلاً من الاستفادة من التجربة ومعاودة قراءة استراتيجية الصراع على ضوء استمرار التحالف الطبقي الاجتماعي الذي يمثّله النظام (على الأقلّ بالشكل الذي هو عليه الآن)، مضوا في سياسة الهروب إلى الأمام، وتمسّكوا بفكرة احتكار التمثيل التي كانت السبب وراء كلّ إخفاقاتهم السابقة. لم يفكروا يوماً في السؤال عن سبب لجوء معظم البيئات الاجتماعية المعارِضة التي حطّمها النظام وحلفاؤه إلى المناطق التي تسيطر عليها السلطة، مع كلّ ما سيحمله ذلك من مساءلات أمنية وملاحقات واعتقالات و... إلخ. كان بإمكانهم أن يطرحوا هذا السؤال على أيّ كاتب يساري يتملّق لهم وينظّر لترّهاتهم بينما هو يعرف ما معنى أن يكون هنالك وجود لدولة فيها حدّ أدنى من "التكافل الاجتماعي"، ولو في إطار ما تسمح به الحرب. ما معنى أن تستمرّ هذه الدولة حتى الآن في دفع الرواتب لموظّفيها، وبينهم معارضون ومتمرّدون سابقون، رغم أنّ ما يتلقّونه لم يعد يكفي لسدّ رمقهم بعد كلّ التضخم الذي حصل؟ ليس الموقف من النظام هو ما يحكم سلوك هذه الكتل الاجتماعية، بل الشعور بأنّ هنالك دولة لا تزال قادرة على احتضانهم ــ حتى بعد إخضاعهم ــ وتوفير الحدّ الأدنى من احتياجاتهم. عدم القدرة على التفريق بين هذه الدولة والنظام هو الذي يجعل من المعارضة التابعة لقطر والسعودية وتركيا حالة خارجية ومنقطعة عن المجتمع السوري، في حين أنّ التفريق بين الأمرين، وهو ما تقوم به باستمرار المعارضة الوطنية العلمانية، هو الذي يجعل من المعارضة معارضة ويحوّل رموزها إلى ممثّلين حقيقيين للحالة الاجتماعية المعبّرة عن الأكثرية المهمّشة. بهذا المعنى، فإن استبعاد هؤلاء الرموز وتهميشهم باستمرار من جانب المنابر القطرية التركية السعودية يغدوان استبعاداً للمجتمع السوري بحدّ ذاته، بوصفه ليس فقط مصدر الشرعية السياسية لهذا الطرف أو ذاك، بل أيضاً صلة الوصل الوحيدة الباقية بعد الحرب بين الدولة كما عرفها السوريون تاريخياً والسلطة الانتقالية الديمقراطية العلمانية المراد إنتاجها.


صُوَريَّة التمثيل وخارجيته

حين تكون المعارضة الخارجية على هذه الدرجة من الانقطاع عن المجتمع وتحوّلاته، يصبح من الطبيعي أن تنشأ داخلها تناقضات عديدة، فهي لا تتبنى مشروعاً واضحاً للدولة، وتفتقد فضلاً عن ذلك القدرة على إقناع الأكثرية بخياراتها. وحين تُسأل عن البديل الذي تحمله للنظام، لا تجد ما تقوله غير ترداد رطانات "الثورة" التي فقدت بريقها ولم تعد تمثّل الحالة التي وصل إليها المجتمع بعد كلّ التحطيم الذي أصابه. أعضاء هذه المعارضة لا يعيشون هنا ولا يعرفون كيف يدبّر المجتمع أمره في غياب الوجود الكلّي والمهيمن للدولة، ويريدون بعد كلّ ذلك أن يَحظَوا بتمثيله، متناسين أنهم مسؤولون على الأقلّ سياسياً عن تحطيم الأجزاء من المجتمع التي لم يقدر عليها النظام أو لم يرغب في تحطيمها. هذه المسؤولية تتناقض مع الزعم بتمثيل شرائح واسعة من المجتمع هنا، وهي حال النظام أيضاً، ولكن على الأقلّ هذا الأخير يسيطر على أجهزة الدولة ويستطيع من خلالها تعويض الناس جزئياً عمّا فقدوه خلال الحرب، في حين أنّ المعارضة لا تملك أن تفعل ذلك، وفي الحالات القليلة التي استطاعت فيها فعلها أنتجت نماذج في الحكم يخجل المرء أن يتمثّل بها، أو أن يقارنها بنموذج النظام حتى. وهذا بالضبط هو السبب الذي أبقى أطرافاً وازنة في المعارضة الوطنية خارج مظلّة مؤتمر الرياض، حيث لا ترغب هذه الشخصيات في أن يتحوّل التمثيل السياسي "للثورة" إلى ذريعة لإضفاء الشرعية على نماذج فاشية لا تشبه المجتمع هنا ولا تعبّر عن تعدديته الاجتماعية القائمة. المشكلة لا تنحصر فقط في طبيعة التمثيل، بل تتعداه إلى تحويل الممثّلين أنفسهم، في حال وُجدوا، إلى حالات صُوَرية لا علاقة لها بمجتمعاتها ولا بالوضع الذي تعيشه هذه المجتمعات في ظلّ الحرب. هؤلاء اختيروا فقط لإضفاء شرعية إضافية على نمط التمثيل السياسي الذي تريد السعودية من خلاله تغليب الطرف الذي يواليها على الآخرين. وهذا بالضبط هو تعريف الاحتكار الذي يسمح هنا بوجود "تمثيل متنوع"، ولكن في إطار الوضعية المهيمنة التي يحقّ لها وحدها أن تتكلّم باسم المعارضة وتفاوض النظام، بينما الآخرون لا يحقّ لهم ذلك، وفي حال تكلّموا أو اعترضوا يجب أن يكون اعتراضهم أو كلامهم ضمن السياق المسموح به. السياق هنا خارجي تماماً ومنفصل عن فكرة التمثيل التي لا تعود كذلك في غياب العلاقة مع المجتمع، وتصبح فقط تعبيراً عن ولاء هذه المجموعة أو تلك للدولة التي تم استبدال المجتمع بها، فأصبحت هي مصدر الشرعية، وهي التي تحدّد من يمثّل من، ومن يتفاوض مع من. على الأقلّ النظام هنا يملك قراره ويعرف أنه يمثّل كتلة اجتماعية يستطيع التفاوض باسمها بمعزل عن تبعيته لحلفائه، في حين أنّ الطرف الآخر لا يعرف على وجه التحديد من يمثّل، أو كيف يمكن التفاوض باسم كتلة لا تتمثّل جيداً، ولا يُسمَح لها إن تمثّلت بالخروج عن السياق السعودي التركي القطري.
* كاتب سوري