بدايةً، لا بدّ من توضيح لغطٍ تقنيّ شائعٍ في ما خصّ حقل كاريش الواقع حوالى 75 كلم عن مدينة حيفا الفلسطينيّة المحتلّة. كاريش ليس في مرحلة التنقيب فهي انقضت منذ زمنٍ بعيد، وهو الآن في مرحلة التطوير وسينتقل إلى مرحلة الإنتاج «قريباً». بالتالي، أيّ كلام عن عمليّات تنقيبٍ في حقل كاريش يفتقد للدقّة تقنيّاً. من خلال النظر إلى الرسوم التوضيحيّة الأرقام 1، 2 و3، يتبيّن أنّ حقل كاريش ينقسم إلى قسمين: «كاريش الرئيسي» و«شمال كاريش». تمّ حفر بئر الاستكشاف الأولى KARISH-1 في حقل كاريش الرئيسي في المياه الفلسطينيّة في آذار 2013 وتمّ حينذاك استكشاف كمّيات تجاريّة كبيرة من الغاز بدأ على أثرها العمل على تطوير الحقل من قِبَل شركة انرجيان اليونانيّة عن طريق ربط حقلَي كاريش وتنين (الواقع حوالى 30 كلم جنوب غرب كاريش) عبر سفينة إنتاج (FPSO)، السفينة الشهيرة الجاري بناؤها في سنغافورة. تقدّر الكِلَف الرأسماليّة لتطوير حقل كاريش الرئيسي بـ 1،7 مليار دولار. يُتوقّع بِدء الإنتاج من الحقل في الفصل الرابع من هذه السنة أو أوائل سنة 2022 وسيتمّ الإنتاج من ثلاث آبار إنتاج: KM-01، KM-02 وKM-03 والتي حُفرت خلال سنة 2019 والتي سيربطها مشعب إنتاج الغاز تحت سطح البحر (KM Manifold). الجدير ذكره بأنّ "كاريش الرئيسي" يقعُ بشكلٍ شبه تام جنوب الخطّ 29 وكذلك هو الحال مع آباره الثلاث ومشعب الإنتاج (راجع الرسوم التوضيحيّة الرقمين 2 و 3)، ما يعني بأنّ الإنتاج، حين يبدأ في الفصل الرابع من هذه السنة أو أوائل سنة 2022، سيكون من مناطق تقع عمليّاً جنوب الخطّ 29 أي في المنطقة الاقتصاديّة الخالصة لفلسطين المحتلّة.
الرسم التوضيحي الرقم 1
نظرة عامة على: خطوط التفاوض بين لبنان والعدوّ لترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة، حقل الغاز اللبناني المحتمل «العابر للخطوط»، حقل كاريش بشطريه الرئيسي والشمالي والبلوك الرقم 72 المعروض للتلزيم من قِبَل العدوّ

شمال كاريش
توقّعت الدراسات منذ اكتشاف حقل كاريش الرئيسي وجود الغاز بكمّيات تجاريّة شمال حقل كريش، وهو ما أثبتته بئر الاستكشافKN01 التي تمّ حفرها في آذار/نيسان 2019 وتمّ تقييمها في تشرين الأوّل من السنة ذاتها. هذه البئر أكّدت احتياطات غاز ونفط سائل (condensate) في رقعة جديدة متّصلة سُمّيت "شمال كاريش". يجدر القول بأنّ KN01 تقع حوالى ثلاثة كيلومترات شمال الخطّ اللبناني 29 و حوالى ثمانية كيلومترات جنوب الخطّ 23. وكما تبيّن الرسوم التوضيحيّة الأرقام 1، 2 و 3، فإنّ شمال كاريش يقع بأكمله شمال الخطّ اللبناني 29 ويبتعد حوالى الخمسة كيلومترات عن طرف حقل الغاز اللبناني المُحتمل والعابر للخطوط الواقع جنوب غرب البلوك الرقم 9 على بعد حوالى 60 كلم من الناقورة والذي يظهر في الرسوم التوضيحيّة. يجدر القول بأنّ بدء الإنتاج من شمال كاريش مُتوقّع في القسم الثاني من سنة 2023 وذلك عبر ربط البئر KN01 بمشعب الإنتاج KM Manifold. بيّنت تجارب الإنتاج والدراسات التي تلتها، قدرات كبيرة للإنتاج من البئر KN01 والتي قد تبلغ 300 مليون قدم مكعب من الغاز يوميّاً (على سبيل المقارنة ...). النقطة المهمّة في ما خصّ شطرَي كاريش الرئيسي والشمالي هو انفصالهما التام، أي غياب التواصل الهيدروليكي بينهما، ما يعني عمليّاً بأنّ الإنتاج من كاريش الرئيسي لن يؤثّر على شمال كاريش والعكس صحيح بحسب المُعطيات المتوافرة والمنشورة من جانب الشركة المطوّرة للحقل. ومن الجدير قوله أيضاً بأنّ أيّ اكتشافات جديدة في المنطقة القريبة من حقل كاريش بشطرَيه يمكن إنتاجها عبر سفينة الإنتاج (FPSO) القادمة إذ إنّ قدرة الإنتاج والتخزين والتفريغ لهذه السفينة تتعدّى الكمّيات اليوميّة المنوي إنتاجها من حقلَي كاريش وتنين.
الرسم التوضيحي الرقم 2
تكبير للصورة المعروضة في الرسم التوضيحي الرقم 1 مع التركيز على حقل الغاز اللبناني المحتمل العابر للخطوط، حقل كاريش بشطريه الرئيسي والشمالي والبلوك الرقم 72 المعروض للتلزيم من قِبَل العدوّ.

خصائص الحقل بشطرَيه
بحسب تقييم شركة DeGolyer and MacNaughton تبلغ احتياطات (2P) حقل كاريش الرئيسي 1,41 مليار قدم مكعبٍ من الغاز و 61 مليون برميل من النفط السائل (condensate) بينما تبلغ احتياطات شمال كاريش 1,14 مليار قدم مكعبٍ من الغاز و 34 مليون برميل من النفط السائل. تِبعاً للتقديرات، قد تبلغ مكنونات الغاز في الحقل اللبناني المحتمل أضعاف تلك التي في حقل كاريش بشطرَيه. هناك من جهةٍ أُخرى ميزةٌ تقنيّةٌ لغاز كاريش غير موجودة في حقول الغاز الأخرى المكتشفة في المياه الفلسطينيّة المحتلّة ولتلك الميزة تبعاتها الاقتصاديّة الإيجابيّة لما للنفط السائل الخفيف من تفوّق في القيمة التجاريّة على الغاز، وهذه الميزة تتمظهر أكثر كلّما اتّجهنا شمالاً. إنّها كمّيات النفط السائل المُذاب في الغاز. فمقابل كلّ مليون قدم مكعب من الغاز ينتجه حقل تمار أو ليفياثان مثلاً، يُصاحب تلك الكمّية أقلّ من خمسة براميل من النفط السائل. هذا العدد يبلغ أكثر من 20 برميلاً في كاريش الرئيسي ويزيد عن الثلاثين برميلاً لكلّ مليون قدم مكعب في شمال كريش ومن المحتمل أن يتكرّر نفس سيناريو كمّيات النفط السائل المُذاب العالية في الغاز عندما نتّجه شمالاً وصولاً إلى الحقل اللبناني العابر للخطوط والبارز في الرسوم التوضيحية.
هنا من المهمّ القول بأنّ الثروات المتوقّعة في الحقل اللبناني المحتمل والعابر للخطوط يجب أن لا تحجبنا عن إمكانيّة مكامن أخرى محتملة في مساحة الـ 1430 كلم2 بين الخطّين 23 و29 من جنوب البلوك الرقم 10 حتّى جنوب البلوك الرقم 8 وتقدير ذلك يقع على عاتق هيئة إدارة قطاع البترول بحدود ما يتوافر لديها من بيانات ودراسات. بالتالي، يجب عدم حصر أيّ تقدير للأمور من قِبَل صنّاع القرار بالحقل المحتمل في جنوب غرب البلوك الرقم 9.
استئناف المفاوضات غير المباشرة مع العدوّ قبل توقيع المرسوم 6433 المعدّل يعني العودة الى الخطّين 1 و23 وبالتالي الحدّ الأقصى البالغ 860 كلم2 كمنطقة «تفاوض»


حول تعديل المرسوم 6433
ختاماً، لا بدّ من الإشارة باختصار إلى الأمور التالية في ما خصّ الجدل القائم حول تعديل المرسوم 6433.
‏مهما كانت الأسباب، إنّ العودة إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة مع العدوّ «الإسرائيلي» قبل توقيع المرسوم 6433 المعدّل يعني عمليّاً العودة على أساس الخطّين 1 و23 وبالتالي على أساس الحدّ الأقصى البالغ 860 كلم2 كمنطقة «تفاوض». هذه العودة هي، بالتالي، نسفٌ لكلّ الجهود الوطنيّة في معركة الحدود والحقوق. أيُّ عودةٍ للمفاوضات قبل تثبيت الحقّ اللبناني عبر توقيع المرسوم المعدّل وإيداع الخطّ الّلبناني ٢٩ الأمم المتّحدة ليست فيها مصلحة للبنان. فالمفاوضات مع العدوّ الإسرائيلي، لو عادت، يجب أن تقوم على المُعطى الجديد وتنطلق منه.
أمّا مقولة أنّ السير بتعديل المرسوم 6433 وتثبيت الخطّ اللبناني 29 سيجعل التنازل عن أيّ كلم2 يبدو تنازلاً عن الحقوق الوطنيّة فهذا يستبطن تناقضاً. فالذهابُ إلى أيِّ مفاوضاتٍ هو بطبيعة الحال قبولٌ بمبدأ "التنازل". فنحن لا نذهبُ إلى مفاوضات استسلامٍ تلت حرباً تغلّبنا فيها على عدوّنا بالضربة القاضية. فالتنازلُ عن بعض ما نعتقده حقّاً وطنيّاً لا يتغيّر إذا غيّرنا المُسمّى. فالتعاطي المسؤول مع الموضوع يختار الطريق الذي يعظّم المكاسب في أيّ مفاوضات والواضح أنّ العودة إلى طاولة المفاوضات دون تسطير منطلقٍ جديدٍ موثّقٍ قانونياً لن ينتجَ عنه إلّا تكبير للتنازلات. فالرجعة إلى طاولة المفاوضات دون تعديل المرسوم 6433 وتثبيت الخطّ الّلبناني 29 هي تجريد للبنان من سلاحٍ فعّال. وللتذكير، لبنان لم يعد لبنان ذلك البلد الضعيف الذي يؤكَل لحمه بل هو اليوم لبنان المقاوم الذي يحسب العدوّ "الإسرائيلي" لفعله وردّات فعله ألف حساب.

الرسم التوضيحي الرقم 3
تفاصيل تقنيّة عن حقل كاريش بشطريه الرئيسي والشمالي. وتبدو على الرسم آبار الإنتاج الثلاث (KM-01, KM02, KM03) في الجزء الرئيسي من حقل كاريش وبئر الاستكشاف الأولى في شمال كاريش على أن تُربط هذه البئر بمشعب إنتاج الغاز تحت سطح البحر (KM Manifold).

وأمّا المطالبة باعتماد خبراء دوليين لترسيم الحدود الدوليّة وفقاً للقانون الدوليّ، فلن ينتجَ عنها عمليّاً إلّا خبراء أميركيّون يتمتّعون بنفس درجة النزاهة والموضوعيّة التي يتمتّعُ بها الوسيطُ الأميركيّ. هناك إجماعٌ على مِهنيّة الفريق اللبناني الذي أنتج الخطّ الّلبناني 29 وهذا الفريق اعتمد، من ضمن ما اعتمد عليه، على الدراسة السابقة للمكتب الهيدروغرافي البريطاني (2011). بالتالي، إنّ المطالبةَ باعتمادِ خبراءَ دوليّين لترسيم الحدود الدوليّة تُعتبر ضربة لمصداقيّة فريقنا التقنيّ. فالأساسُ بأيّ طرحٍ هو ثقتنا بمنتجنا الوطني والانطلاق يجب أن لا يكون إلّا من الخطّ اللبناني 29 النابع منه. هذا لا يمنعُ استقدام الوسيط النزيه لخبراءَ نعرضُ عليهم قناعاتنا بالبرهان لا أن ننتظر منهم ترسيم الخطّ. فلذلك محاذيره! فأيُّ خطٍّ يقترحه أولئك الخبراء والذي يُستبعد ألا يكون هناك بصمة «إسرائيليّة» في صياغته سيصبح حجّةً علينا ولو رفضناه لاحِقاً.
إنّ ذلك ليس استسهالاً لمآلات اليوم التالي لتوقيع المرسوم المُعدّل. فتعديل المرسوم 6433 سيفتح، بلا شك، باب المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي الذي سيدافع بالنواجذ عن «مكتسباته». لكنّ مخاطرَ المواجهة، مع ذلك، تستأهلُ مجابهتها وتحمّل تبعاتها. لذلك، وتِبعاً للتداعيات الاستراتيجيّة للملفّ والحاجة إلى إجماع وطني قد يكون من الضروري دعوة الرئيس ميشال عون لطاولة حوار وطني فورية بعنوان نقاشٍ وحيد: تعديل المرسوم 6433 وتهدف إلى قرارٍ وطنيٍّ جامعٍ لحماية الحدود والحقوق.
على أنّ كلّ ذلك يجب ألا يقفَ عائقاً أمام رئيس الجمهوريّة لفعل المأمول منه والإقدام على قرار التوقيع التاريخيّ. إنًّ توقيعاً رئاسيّاً استثنائيّاً في هذه الاندفاعة الوطنيّة الحاليّة الجامعة في معركة الحدود والحقوق مع العدوّ الإسرائيلي لهو أكثر دستوريّةً من تصويتِ مجلسِ وزراء مشلول وعاجِز حتّى عن تصريف أعمال المواطنين في مهبّ الكارثة. لطالما اشتكى العماد ميشال عون، صائباً، من اضمحلال صلاحيّات رئاسة الجمهوريّة وتأثير ذلك على قدرته على السير في مسيرة الإصلاح. ها هو الأمر الآن له وبيده للمضيّ قُدُماً في قرارٍ قد يكون الأبعد تأثيراً في ما تبقّى من عهده. الإجماعُ اللبناني الشعبيّ هو أساس الشرعيّة والدستوريّة قبل كلّ شيء وبعده.
إنّ الرأي العام الحيّ واليقظ والناقد هو رافدٌ أساسيٌّ وضروريٌّ للمسؤول في مواجهة التحدّيات وبالأخصّ تلك المتعلّقة بمفاوضات ترسيم الحدود مع العدوّ. وعليه، إنّ الوارد أعلاه ينبع من منطلق حقّ المواطن على المسؤول وحقّ المسؤول على المواطن إبداء رأيه بالقضايا الوطنيّة، حتى لو كان الرأي نقداً ولو قسا النقد وخصوصاً في حال كان المواطن من أهل الاختصاص، وعلى رأس أولئك رئيس الجمهوريّة المؤتمن على السيادة والحقوق والمصالح الوطنيّة. فالمسؤول المخلص لوطنه يرى في نقد المواطن وحِرصه مُعيناً ورافداً له في كلّ الظروف خصوصاً الاستثنائيّة منها.

* أستاذ في الجامعة الأميركيّة في بيروت