عقب شغور عشرة مقاعد في مجلس النواب بسبب الاستقالة أو الوفاة كان يتوجّب على الحكومة احترام أحكام المادة 41 من الدستور التي تفرض في مثل هذه الحالة إجراء انتخابات فرعية من أجل انتخاب الخلف خلال شهرين. لكن بتاريخ 10 أيلول 2020 أعلن أمين عام مجلس الوزراء أن رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء أعطيا الموافقة الاستثنائية لتأجيل الانتخابات الفرعية إلى ما بعد 01/01/2021 بسبب حالة الطوارئ التي أُعلنت بعد جريمة انفجار مرفأ بيروت.في حال وضعنا جانباً مسألة الطبيعة القانونية لإعلان أمين عام مجلس الوزراء الذي لا مكان له في هرمية النصوص كونه يستند إلى موافقة استثنائية لا سند دستورياً لها، لا بد لنا من تفنيد مدى خطورة هذا التأجيل وانتهاكه المنطق الدستوري السليم في نقطة محدّدة تتعلق بالقدرة الاستنسابية للسلطة السياسية التي بات بإمكانها ليس فقط تعطيل الحياة الديمقراطية، لكن أيضاً التحكم بنتائج الانتخابات ما يفقدها نزاهتها ويجعلها موضع تشكيك جدي.
«لغز الدمية» - أندرو سنكلير DeviantArt

لا بد من الاشارة إلى أن مسألة تأجيل الانتخابات الفرعية طُرحت في المرة الأولى سنة 1943 بعد الحوادث التي شهدها لبنان لنيل استقلاله. فقد شغر مقعد بشارة الخوري بعد انتخابه رئيساً للجمهورية كما شغر مقعد النائب وهيب جعجع الذي توفي بسبب حادث فردي ما حتم إجراء انتخابات فرعية خلال المهلة التي تفرضها المادة 41 من الدستور. لكن الأزمة السياسية الحادة التي عرفها لبنان في تشرين الثاني 1943 والتي انتهت بنيل لبنان استقلاله عن فرنسا فرضت تأجيل هذه الانتخابات.
وكي يتم تدارك الوضع قررت الحكومة الطلب من مجلس النواب تعديل قانون الانتخابات الذي كان نافذاً حينها بحيث تمدّد مهلة إجراء الانتخابات من شهرين إلى أربعة أشهر. لكن مجلس النواب تنبّه إلى أن هذا الأمر ينطوي على مخالفة صريحة للمادة 41 من الدستور، فما كان منه إلّا أن اقترح حلّاً بديلاً يحافظ شكلياً على مهلة الشهرين الدستورية. فقد صوّت المجلس على قانون نصّت مادته الأولى على التالي: «يعتبر أول آذار سنة 1944 ابتداء الشهرين المنصوص عنهما في المادة 41 من الدستور اللبناني والمادة السابعة من القرار رقم 2 الصادر في 2 كانون الثاني سنة 1934 وذلك بصورة استثنائية لأجل انتخاب خلفي فخامة الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية والمرحوم وهيب جعجع النائب المتوفي»، بينما نصت المادة الثانية على التالي: «يبطل مفعول هذا القانون الاستثنائي فور تمام هذا الانتخاب التكميلي للكرسيين الشاغرين كما نصت على ذلك المادة الأولى». وقد بررت لجنة الإدارة والعدلية هذا الأمر إذ اعتبرت أن هذا الحل «قانوني لا يؤدي إلى مخالفة دستورية إذ أن لا جدل في كون التأخير قد نجم عن ظروف استثنائية قاهرة مانعة، فللحكومة عذرها المشروع في التأخير...». وبالفعل صدر القانون في 14 شباط 1944 وجرت الانتخابات في نيسان من العام نفسه.
تُظهر لنا هذه السابقة أن تأجيل الانتخابات لم يتم بقرار اعتباطي اتخذه استثنائياً رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، بل هو تطلب تدخل مجلس النواب الذي أقر بمخالفة التأجيل للدستور لكن الظروف القاهرة التي كانت سائدة فعلياً هي التي فرضت هذا الأمر، علماً أن المجلس الدستوري لم يكن له من وجود سنة 1943 كي يتولى النظر في مدى دستورية هذا القانون. فلو تم اعتماد الحل نفسه اليوم، لكان تأجيل الانتخابات الفرعية قد جرى بقانون يمكن الطعن به أمام المجلس الدستوري، ما يعني أن قرارات السلطة السياسية تظل دائماً خاضعة لرقابة مرجع مختص وفقاً لمنطق دولة القانون، بينما صدور التأجيل عبر إعلان عن أمين عام مجلس الوزراء يؤدي إلى منح السلطة السياسية صلاحيات استنسابية، كون التأجيل ليس بحدّ ذاته من القرارات التي يمكن اتخاذها بل هو في حقيقة الأمر مجرد امتناع عن اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة من أجل دعوة الهيئات الناخبة. فتأجيل الانتخابات الفرعية لا يحتاج إلى «قرار» يذيعه أمين عام مجلس الوزراء عبر إعلان ينص رسمياً على تأجيل الانتخابات لما بعد مطلع سنة 2021، بل هو يتحقق فقط عبر الاستحالة المادية للسلطة المعنية من إجراء الانتخابات طيلة الوجود الفعلي للظرف الاستثنائي.
فالإعلان عن تأجيل الانتخابات لفترة زمنية معلومة مسبقاً يخالف منطق نظرية الظروف الاستثنائية كون حدوث الظرف الاستثنائي بمعناه القانوني وزواله هو من الأمور التي لا يمكن توقّعها إطلاقاً، إذ مجرّد تحديد فترة زمنية من قبل السلطة السياسية يعني أن هذه السلطة هي التي تقرر نهاية الظرف الاستثنائي اعتباطياً، ما يعني تلقائياً عدم توفر الشروط القانونية الضرورية لتطبيق نظرية الظروف الاستثنائية التي تختلف في هذه النقطة تحديداً عن حالة الطوارئ التي تعلنها السلطة المختصة بشكل إرادي ولفترة زمنية محددة مسبقاً، كما يمكن لنا تجديدها أو رفعها في حال قررت ذلك أي إن حالة الطوارئ هي نظام قانوني إرادي، بينما الظرف الاستثنائي هو نظام قانوي لا قدرة إرادية للسلطة السياسية أو الإدارة في التحكم به.
لكن خطورة تأجيل الانتخابات الفرعية لا تكمن فقط في هذا الجانب بل هي تتعلق بمبدأ يتفرع عن مبدأ دورية الانتخابات. فدعوة الناخبين للاقتراع بصورة دورية وضمن مدة معقولة هو مبدأ كرسه اجتهاد المجلس الدستوري الذي اعتبر «أن تحديد التاريخ الذي تجري خلاله الانتخابات، سواء النيابية أو البلدية يدخل في دائرة القانون، ولا يملك المشترع أن يترك للسلطة الإدارية، تحديد هذا التاريخ في الوقت الذي تراه ودون الاستناد إلى معيار معين وذلك لكي تتسم الانتخابات بطابع الموضوعية وتكون بمنأى عن سوء استعمال السلطة» (قرار رقم 1 تاريخ 12/09/1997).
فإذا كان قانون الانتخابات هو الذي يحدد تاريخ الانتخابات العامة بشكل مسبق، فكم بالحري بالانتخابات الفرعية التي يحدد تاريخها الدستور نفسه ليس فقط من أجل تأمين التمثيل النيابي الدائم لكل المواطنين احتراماً لمبدأ المساواة، بل أيضاً من أجل منع استنساب السلطة التي تختار اعتباطياً التوقيت الأمثل سياسياً لها من أجل تنظيم الانتخابات. ويصبح هذا الخلل أكثر فداحة في ظل قانون الانتخابات الحالي الصادر سنة 2017 إذ تنص الفقرة الرابعة من المادة 43 على التالي: «تجري الانتخابات الفرعية لملء المقعد الشاغر على مستوى الدائرة الصغرى العائد لها هذا المقعد، وفقاً لنظام الاقتراع الأكثري على دورة واحدة وتحدد مراكز الاقتراع ضمن هذه الدائرة بقرار من الوزير أما إذا تخطى الشغور المقعدين في الدائرة الانتخابية الكبرى اعتمد نظام الاقتراع النسبي وفق أحكام هذا القانون». فعدم إجراء الانتخابات ضمن المهلة الدستورية يسمح نظرياً للحكومة ليس فقط بتحديد توقيت هذه الانتخابات، لكن أيضاً اختيار أي نظام اقتراع سيتم اعتماده، الأكثري أو النسبي، وفقاً لعدد المقاعد الذي شغر تباعاً في كل دائرة، ما يحرم العملية الانتخابية من موضوعيتها ويجعلها عرضة أكثر لسوء استعمال السلطة.
وهكذا يتبين لنا أن تأجيل الانتخابات الفرعية بحجة الظرف الاستثنائي هو تمهيد لتأجيل الانتخابات العامة كي تتمكن السلطة السياسية من تفادي المحاسبة عبر اختيار الظرف التي تعتبره الأفضل لها كي تتمكن من إحكام سيطرتها مجدداً على مؤسسات الدولة الدستورية.
* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا