عندما بدأت حركة الهجرة بالازدياد قبيل عام 2015، كان الاقتصاد هنا قد بدأ يفقد أجزاءً أساسية من الناتج المحلّي الإجمالي، نظراً لحدوث هذه الهجرة في أوساط الذكور الذين يتعدّون العشرين عاماً من العمر، أي الذين يمثّلون قوّة العمل الرئيسية في السوق، وخصوصاً منهم المياومين والعاملين بأجر. حينها لم تكن أزمة سعر الصرف بهذه الحدّة، وكان سعر الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء لا يزال يتراوح بين 500 و550. عدم حدوث أزمة بالمعنى الواسع وقتها لم يعنِ بالضرورة استمرار العجلة الإنتاجية بالوتيرة نفسها، فتوافر السلع استمرّ بسبب حركة الإحلال التي شهِدَتْها بنية القوى العاملة، إذ حلّت النساء وكبار السن بسرعة محلّ الذكور، ولكن بقدرة أقلّ على الإنتاج، وهو ما ساهم، أقلّه حتى الآن، في تأجيل تعطّل عملية الإنتاج أو شللها، قياساً بما حصل في قطاعات التجارة والادّخار التي كان انعكاس أزمة سعر الصرف عليها مباشراً وفورياً.
تمويل الطلب على السلع من الخارج
الوقت الذي استغرقه اكتمال نموذج الهجرة كان كافياً لحدوث استقرار نسبي في بنية الاقتصاد السوري، حيث عرفت قطاعاته الأساسية كيف تتأقلم، ليس فقط مع تداعيات الحرب، بل أيضاً مع فقدانه لهذا الجزء الحيويّ من عناصر عملية الإنتاج. بين عامي 2015 و2018 استقرّ نموذج للاقتصاد وتمويل الإنفاق، وخصوصاً لجهة الأسر والعائلات التي هاجر أبناؤها، يقوم على التحويلات التي تصل من هؤلاء إلى عائلاتهم، بالعملة الأجنبية. هذا كان كافياً، ليس فقط لتعويض هذه الأسر عن فقدانها مصادر دخلها في الداخل، بل أيضاً لخلق طلب إضافي على السلع، وخصوصاً الأساسية، يكون بمثابة محفّز على زيادة الإنتاجية التي استمرّت بجهود قوّة العمل الجديدة من النساء، وبالتالي يزيد في نموّ العملية الإنتاجية ضمن الظرف المحدود الخاصّ بالحرب. المعيار هنا ليس تحقيق نسب نموّ كبيرة أو تقليص عُجوزات الموازنة، بل رفع الطلب على السلع الأساسية إلى الحدّ الذي يسمح باستمرار حلقات العملية الإنتاجية، بحيث لا يحدث فيها انقطاع كما حصل لاحقاً، حين انهار سعر الصرف في عام 2019، ربطاً بأزمة احتباس الودائع في لبنان. الانهيار الكبير الذي حَدَث حينها، وانعكس سلباً على أسعار السلع الأساسية، أثّر على إنفاق الشرائح الاجتماعية التي لم تشهد بيئاتها حركة هجرة كسواها، فتآكلت قدرتها الشرائية إلى الحدّ الأقصى، كونها لا تملك مصادرَ للدخل غير تلك التي تنالها لقاءَ عملها في الداخل، الأمر الذي خلق تفاوتاً في الاستفادة من النموذج الجديد، قد لا يكون ممكناً الانتهاء منه قريباً. وهو على أيّ حال، نتاج طبيعي للتفاوت الحاصل أصلاً قبل حدوث الهجرة، إذ بدت أحياناً كامتياز لمن يقدر على تمويلها، قبل أن يستمرّ ذلك مع استقرارها كنموذج ريعي، في نمط الإنفاق الذي تُستثنى منه الشرائح التي لم تحظَ بفرصة الخروج من البلاد. على أنّ ذلك لم يمنع حدوث تبادلات بين الطرفين، فكما يخلق النموذج التفاوت بينهما، كذلك، فهو يسهّل حدوث منفعة متبادلة، وخصوصاً لمن يعمل من هؤلاء الباقين هنا في قطاع التجارة البسيطة بالتجزئة، حيث تحصل استفادة فورية من الإنفاق عبر التحويلات، وبالتالي ينتقل جزء من الثروة التي أُنتِجَت في الخارج إلى الشرائح التي سحقتها الحرب، ولم تحظَ، مثل غيرها، بامتياز الخروج منها.
إذا لم تعترف السلطة بالتضخّم، بفعل التأثير المزدوج لنظام العقوبات وانهيار سعر الصرف، فستكون مضطرّة للتعامل مع الأمر لاحقاً


السوق السوداء للتحويلات
الأثَر الإيجابي الذي خلَقَه الطلب الكبير على السلع جرّاء التحويلات، أتى مترافقاً بعناصر سالبة قيّدت النموّ الذي تسبَّب به النموذج، على اعتبار أنّ الثروة حين تأتي من الخارج على شكل تدفّقات نقدية بالعملة الأجنبية، تكون مشروطة بالعملة التي تأتي بها، أو لنِقُل تخلق نموّاً يتحدّد سلباً، بالطلب على هذه العملة. فبعد الطلب على السلع الذي يحرِّك العمليتين الإنتاجية والتجارية، تأتي مرحلة الادّخار وهنا نعود إلى مسألة السوق التي تسبَّبت التحويلات بنشوئها، حين أتت عبر قنوات غير رسمية. سعر صرف الحوالات الرسمي أقلّ بكثير من سعر الدولار في السوق السوداء، وهذا جعل المهاجرين يفضّلون إرسالها عبر قنوات تتعامل بسعر الصرف الموازي لكي لا تفقد الكثير من قيمتها. ولكن بسبب تقييد التعامل بالدولار أو حتى باليورو هنا، فإنّ التحويلات تصل عبر هذه الطرق غير النظامية بالليرة وليس بالعملة الأجنبية، ما يخلق عرضاً كبيراً بالعملة المحلّية، ويفتح الباب ليس فقط أمام زيادة الطلب على الدولار، بل أيضاً أمام التضخّم، كون العرض يترافق بانهيار مستمرّ وتدريجي لها. وهذا الانهيار غالباً ما يكون مقترناً بطباعة فئات ورقية متقدِّمة منها، لاستيعاب الزيادة الكبيرة من المعروض النقدي بها. وهو ما يضاعف من حالة التضخّم القائمة أصلاً، والناجمة بمعظمها عن مرور التحويلات في قنوات غير رسمية أو مرخَّصة. ويمكن القول هنا إنّ التعامل مع التضخّم ممكن في حال مرور المعروض من الليرة في القنوات النظامية، عبر أدوات امتصاص السيولة، ومنها القيود على حركة رؤوس الأموال بالليرة، ولكن حين لا يمرّ المعروض بها، تصبح الخيارات محدودة، ويُترَك الأمر تحت تأثير هذا النموذج من التدفّق أو سواه للسوق السوداء وحدها. وهنا نغدو أمام نموذج مشابه لعمل السوق الموازية الخاصّة بتجارة الدولار، والتي لم تنتهِ، حتى بعد حظرها وتجريم وجودها رسمياً.

تأثير عامل التضخّم
كلّ ذلك، فتح الباب أمام اتّهامات للسلطة بتسهيل حدوث التضخّم، إما لتمويل كتلة الأجور، أو لزيادة تنافسية الصادرات بعملة رخيصة، وصولاً حتى إلى إطفاء خسائر وعجوزات في الموازنة، تمهيداً لإعادة هيكلة الاقتصاد على ضوء عمليات خصخصة واسعة النطاق. والحال أنّ مقاربة كهذه لا تصمد كثيراً أمام واقع اضطرار السلطة نفسها إلى الاعتراف بحالة التضخّم، تحت التأثير المزدوج لنظام العقوبات وانهيار سعر الصرف، لأنها إن لم تعترف بذلك الآن، فستكون مضطرّة للتعامل مع الأمر لاحقاً، حين تسوء الأمور أكثر، وتفقد الأدوات الخاصّة بالتعامل مع التضخّم فعاليّتها. وهو نموذج بعيد عن سوريا حالياً، كون السلع لا تزال متوافرة في السوق، والطلب عليها كبير، ومحكوم بعوامل عدّة، ليس آخرُها التحويلات الآتية من الخارج. ولكن ثمّة حالات قصوى تصل إليها بعض الدول المَدِينة أو الواقعة تحت تأثير عقوبات أميركية وسواها، ويخرج فيها التضخّم عن السيطرة، إما بتأثير انهيار عملية الإنتاج أو انهيار سعر الصرف أو كليهما معاً، ويتطوّر الأمر إلى حدّ فقدان العملة المحلّية أيّ ارتباط بالاقتصاد أو بالناتج المحلّي الإجمالي. أي كما يحصل حالياً في فنزويلا، حيث وصل التضخّم إلى حدّ التفكير في إصدار ورقة نقدية من فئة المليون بوليفار، وحيث لا يستطيع المرء شراء أيّ سلعة في السوق مهما كانت رخيصة إلا بأكوام من العملة المحلية التي حلّ محلّها الدولار فعلياً، وإن لم يجرِ الاعتراف بذلك رسمياً، وبالتالي لم تعد تملك، بوصفها عملة وطنية أو محلّية، أيّ قيمة في ذاتها.

النموّ الخاصّ بالتحويلات
النموّ الذي يحرّكه الطلب على السلع من التحويلات يكون، أحياناً، مصحوباً بكلّ ذلك. وهي ليست كلُّها عوامل سالبة، أخذاً في الاعتبار، ما يتيحه هذا الطلب من نموّ للقوى المنتجة الجديدة (النساء تحديداً) التي حلّت محلّ الذكور في سوق العمل، فضلاً عن مجمل التحريك الذي يحصل لقطاعات التجارة والتبادُل المختلفة، بما فيها سوق العقارات والإيجارات التي يُرجّح أن تنمو في ضوء هذا الوضع أكثر ممّا فعلت طوال السنوات العشر الماضية. ارتفاع الأسعار هنا، الذي ينعكس أكثر على الشرائح غير المستفيدة من النموذج، على شكل تفاوت في الدخل أو في الاستفادة من الريع، يقابله ازدياد مطرد في حجم التحويلات والإنفاق، في ما يشبه السباق بين الريع الآتي عبرها والأسعار التي تحاول مجاراة الطلب الذي تخلقه، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة حين ينتهي الناس من عمليات التبادل أو الشراء، ويبدأون بالادّخار بالدولار بما تبقّى لديهم من أموال. هنا تتوقّف عملية النموّ في القطاعات الاقتصادية التي يحرّكها الريع، لأنّ الحلقة الأخيرة بعد الإنتاج والتبادل يفترض أن يكون مكانها القطّاع المصرفي، سواءً الحكومي أو الخاصّ، لإيداع الأموال التي لم يشملها الإنفاق على السلع. ولكن تلاشي جاذبية أسعار الفائدة بعد انهيار سعر الصرف يحول دون ذلك، وخصوصاً في ظلّ محدودية اللجوء إلى الادخار بالدولار عبر المصارف. وبالتالي، بدلاً من حصول نموّ في هذا القطّاع مشابه للنموّ الحاصل في قطاعي الإنتاج والتجارة نشهد «ضموراً له»، على ضوء عدم استفادته المباشرة من نموذج التحويلات. وهو ما ينعكس سلباً على الليرة نفسها، لجهة سعر الصرف، كونها في هذه الحالة لم تعد مستودعاً للقيمة، مقارنةً بالدولار أو الذهب، حيث أهميتها لا تكمن فقط في كونها القيمة التي يتحدّد بها الإنتاج والتبادل، بل أيضاً المحفظة الائتمانية التي تنتهي إليها مجمل العملية الاقتصادية الخاصّة بإنتاج الثروة وتبادِلها.
* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا