يشار في التاريخ السوري المعاصر إلى المرحلة الممتدة ما بين عامَي 1954-1958 ، على أنها المرحلة التي استعادت البلاد في أتونها حياتها السياسية النشطة التي تتماشى تقليدياً مع مجتمع مسيّس، بل ويعيش السياسة في أدق تفاصيل حياته اليومية والمعيشية ، فقبيل الحد الأول لتلك المرحلة كانت البلاد، وعلى مبعدة حوالى تسع سنوات من الاستقلال، قد شهدت أربعة من الانقلابات العسكرية، في حين دخلت في أعقاب الحد الثاني مرحلة الوحدة مع مصر التي اشترط جمال عبد الناصر لقيامها حلّ الأحزاب السورية برمتها كمقدمة لانصهار مجتمعي سياسي تتطلبه حالة الاستمرار في المشروع الذي مثّل في حينها رداً مباشراً على قيام الكيان الإسرائيلي، ورداً أيضاً على حلف بغداد عام 1955 الذي كان يهدف إلى تمزيق الانتماء العربي، ومعه تجزئة المنظور العربي لمجمل التحديات والتهديدات القائمة، والجدير ذكره في هذا السياق هو أن العديد من الباحثين السوريين ينظرون اليوم إلى 22 شباط 1958، اليوم الذي أُعلنت فيه الوحدة بين سوريا ومصر، على أنه أحد مكامن التفجير التي قادت لاحقاً إلى زلزالين اثنين، أولهما كان متوسط الشدة ما بين 1979 - 1982، قياساً للثاني الذي لم تستطع المقاييس المتوافرة تحديد شدته في عام 2011 وصولاً إلى اليوم.
عن موقع ello.co

ويشار أيضاً إلى المرحلة الممتدة ما بين خريف عام 1970 وبين صيف عام 2000 على أنها كانت مرحلة «صوم سياسي» حدث بفعل قدرة السلطة على اجتذاب أحزاب كاملة بمجملها، أو بعضها، على خلفية قيام «الجبهة الوطنية التقدمية» عام 1972 التي كان لها من حيث النتيجة فعلان مؤثران قادا إلى حال من الاستقرار بفعل الانشقاقات الحاصلة في الأحزاب التي انضمت إليها بنتيجة الموقف من هذا الفعل الأخير، وكذا بفعل الضعف الذي عانته تلك الأحزاب الناجم عن حال التشظي تلك، هذا التأثير سيزداد فعله بمرور الوقت خصوصاً أن ميثاق الجبهة الوطنية سيشترط في أحد بنوده على تلك الأحزاب «وقف النشاط بين صفوف الطلاب وصولاً إلى عدم تنسيب هؤلاء في صفوفها» ، ولربما كان ذلك أحد أسباب الاستقرار الذي عاشته سوريا في المرحلة الآنفة الذكر، وفق وجهة نظر العلوم السياسية التي فسّرت الاستقرار السياسي السوري بحزب البعث الذي استطاع عبر منظماته الشعبية التي تضم معظم النخب أن يضبط الحياة السياسية في البلاد، ويسيطر عليها عن طريق تنظيماته وتحالفاته التي أنشأها، وذاك تحليل يحظى بدرجة ليست قليلة من المنطقية، بل ويعتبر نداً لتحليلات آخرين ارتأوا أن مرد ذلك الاستقرار يعود إلى نجاح السلطة في بناء «شبكة من الاستبداد» وفق توصيف باتريك سيل، أو ترسيخ مبدأ «الطاعة والإذعان» وفق نيكولاس فان دام، لكن المؤكد هو أن ذلك النجاح كان وقتياً، فهو استطاع ردم الجمر تحت الرماد إلى حين، ولم يستطع إيقاف هبوب الرياح التي ستذرو ذلك الرماد فيتكشّف الجمر من جديد.
بالتأكيد تملك الإشارتان السابقتا الذكر وجاهة واقعية تجعل من أخذهما في الاعتبار أمراً موضوعياً، لكن الركون إليهما لاستخلاص نتيجة مهمة، كتلك التي هدفتا إليها، يصيب النتيجة بعطب بنيوي لا تبدو معه هذه الأخيرة قادرة عبرها على تقديم تشخيص شاف لحال الأحزاب السورية التي تقلّص تأثيرها بشكل ملموس بدءاً من مطلع التسعينيات الذي شهد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، حيث الفعل عنى بالنسبة إلى الكثيرين أفول عصر الإيديولوجيات الذي يحتم أيضاً تلاشي دور الأحزاب التي تقوم أساساً على توهّج الأفكار الذي يرمي إلى شد عصب المحازبين وجزء من الشارع المتململ الذي يرسم حركته عادة على وقع موازين القوى القائمة.
لكن اتّضاح الصورة لا يكتمل إلا بتشريح يغوص في الأدبيات التي اعتمدتها تلك الأحزاب، ومعها النهج السياسي الذي بدت فيه هذه الأخيرة مهمومة بالوصول، أو الاستيلاء على السلطة بدرجة أولى، وعبر همها ذاك راحت تحدد مناهجها وخطها السياسي ومعهما مفهومها للتنظيم، وإذا ما كان ذلك مبرراً في ممارسة السياسة انطلاقاً من كون الفعل يمثل وسيلة لإنفاذ الرؤى وتطبيقها على المجتمع الذي يسعى القائم بالفعل إلى نهوضه وفق مناظيره، فإن السبل المتبعة كانت سلبية بدلالة النتائج التي قادت إليها، كانت حالة السعار المحمومة التي انخرطت الأحزاب السياسية السورية فيها للوصول إلى السلطة قد أفضت إلى تهتكات كبرى في بنيان النسيج المجتمعي السوري من النوع التراكمي الذي سرعان ما أدى الى تحولات نوعية في هذا الأخير، في حين كان المطلوب هو صبّ الجهود نحو إحداث تحولات مجتمعية - ثقافية، من شأن النجاح في إحداثها أن يجعل الوصول إلى السلطة تحصيلَ حاصل، وبمعنى آخر كان النجاح في ذلك الفعل سوف يجعل من «الناجح» فيه يمتلك مشروعية للوصول لا تنبع ، كما كان حاصلاً، من العنف وممارسة الاغتيالات وركوب موجة العسكر.
يروي سمير رفعت الإذاعي السوري الذي كان عضواً في الحزب السوري القومي، في مقال له نشرته جريدة البناء يوم 9 تموز / يوليو 2018 ، أن أكرم الحوراني كان منفذاً عاماً للحزب السوري القومي بحماه حين زار الزعيم أنطون سعادة الكيان الشامي بعد عودته من المغترب (والزيارة التي لم يحدد كاتب المقال زمنها يفترض أنها حدثت في عام 1947)، وكان الحوراني في استقبال سعادة حين مر بحماة، وفي ذلك اللقاء طلب الأول من الأخير أن يسميه نائباً له، فيما الحجة التي برّر فيها ذلك الطلب هي أنه بهذا المرسوم سيستطيع أن يجتذب المئات من جرد - وهذا مصطلح كان مستخدماً لتوصيف الأرياف ولا يزال استخدامه قائماً إلى اليوم بدرجة أقل - حماة في الحزب ، أي أنه سيستقوي بذاك المرسوم لتوسيع رقعة الانتماء للحزب، أجابه سعادة على الفور: أنت منفذ حماة، أي أنك المسؤول الأول في هذه المنطقة، فلماذا لم تدخلهم في الحزب؟ أرى أنك - يا أكرم - تفتش عن منصب شرف، وفي الحزب السوري القومي ليست هناك مناصب شرف، بل هي مناصب جهد وعمل، لذا سأترك لك فرصة التفتيش عن تلك المناصب في أحزاب أخرى، وبالفعل فقد راح الحوراني يفتش عن مناصب شرف في الحزب الذي أسّسه بعد ذلك «الحزب العربي الاشتراكي» قبيل أن يقرر الاندماج مع «حزب البعث العربي» عام 1952، وعندما لم يحقق له ذلك الاندماج ما يريده قرّر مغادرته.
بدوره حزب البعث لم يكن قبوله بحل نفسه استجابة لطلب عبد الناصر نابعاً عن إيمان بالحاجة إلى الانصهار مع الإقليم المصري، والقرار نفسه لم يكن مأسوفاً عليه من جلّ القيادات البعثية، لأنهم باختصار كانوا ينتظرون تعويضاً سلطوياً، بتسلّمهم لزمام السلطة في دمشق، بحكم الثقل الذي يمثلونه، وبحكم «التضحية» التي قدّموها من أجل الوحدة.
يروي مروان حبش القيادي البعثي السابق على صفحات «التاريخ السوري المعاصر» أن اجتماعاً جرى مساء الأحد 23 شباط / فبراير 1958، أي في اليوم التالي لإعلان الوحدة السورية المصرية من على شرفة قصر الضيافة بدمشق، وفي ذلك الاجتماع لخّص ميشيل عفلق سبب القبول بحل الحزب بقوله إن الاتفاق مع عبد الناصر جرى على أساس أن «تطلق أيدي البعثيين في سوريا» ، ولا يهم هنا إذا ما كان الأمر يقتضي تغيير اللبوس ليسمى «الاتحاد القومي» ، لكن صلاح الدين البيطار كان أوضح في تعبيراته التي أطلقها في ذلك الاجتماع حين أورد قولاً لعبد الناصر جاء فيه: «إن تجربة مصر الحزبية حديثة - يقصد التجربة ما بعد ثورة يوليو 1952 - وحزب البعث مؤهل ليعطينا تجربته، وأنا لا أعرف غير حزب البعث في سوريا» ، والصورة هنا فاقعة في لا أهمية لبوس الأفكار مقابل الوصول إلى السلطة.
شيوعيو سوريا أيضاً كانوا ماضين في السياقات نفسها، وفي أدبياتهم التي كانوا يسوّقونها لتبرير سعيهم للوصول إلى السلطة، كانت ترد عبارة شهيرة تقول: «إن الحزب الشيوعي السوفياتي لم يكن يمثل أكثر من 5 % من الثقل السكاني حين وصوله إلى السلطة في موسكو تشرين الأول / أكتوبر من عام 1917» كان ذلك لتبرير الفجوة الرهيبة الحاصلة أساساً بفعل ضعف الأداء الثقافي والمجتمعي، ما بين الشعارات التي يرفعها أولئك وبين الثقل الذي يمثله الحزب في الشارع.
ضعف الحزب السوري القومي بفعل عوامل عدة منها اغتيال زعيمه، ثم بفعل الضربات التي تلقاها بعد حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي عام 1955 المقرب من البعث، إلا أن السبب الأكبر لوهن ذلك الحزب يعود إلى يأس بنيان ارتأى، من حيث النتيجة، أن تلك الضربات قد باعدت ما بينه وبين السلطة أميالاً وأميالاً يحتاج قطعها إلى أجيال وأجيال، أما البعث فكان وصوله إلى السلطة عام 1963 قد أصابه في مقتل، فعلى الرغم من أن الفعل، أي الوصول إلى السلطة، كان قد قد شكّل «لاصقاً» استطاع كبح الصراع أو طمره تحت الرماد بين تياراته، إلا أن عمليات القولبة التي راحت تتوالى منذ خريف عام 1970 فصاعداً، كانت قد أدخلت الحزب في مرحلة انحسار فكري كبير، حتى كادت تخلو صفوفه من أي منظّرين لامعين يمكن لهم مواجهة التحدي الأكبر الذي يعترض أي حزب والذي يتمثل بضرورة تجديد رؤى الحزب الفكرية، وكنتيجة افتقر الحزب لبنية فكرية متماسكة، ظهر ذلك أكثر ما ظهر في مرحلة «الخواء» الفكري التي واجه بها الحزب أزمة البلاد الحاصلة ربيع عام 2011 والتي لم يقفل حدها الثاني حتى اليوم.
أما الشيوعيون الذين أحسوا بـ «اليتم» ما بعد فقدان «الأب» السوفياتي 1991، فراحت مجاذيفهم تتكسّر على صخور الانهيارات الحاصلة، كان التكسر هنا أيضاً في جزء كبير منه مردّه إلى تلاشي الآمال بوصول محتمل إلى السلطة، والأخيرة كانت تستمد مشروعيتها طالما بقي الأب على قيد الحياة، أما وقد مات فأية آمال يمكن أن تنفخ في «الصور»؟
كنتيجة يمكن القول بأن سوريا التاريخية تشكّلت منذ مرحلة الغزو الصليبي للشرق 1096 - 1291 من مجموعة من الممالك والمدن ثم مضت في تمرحل تطورها تذهب نحو أن تشكل كل واحدة منها دائرة اجتماعية ومعرفية مغلقة، وهي في الآن ذاته تمارس الحذر والتوجّس من الجوار، زاد ذلك زمن الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي اللذين كرّسا فعل تلك الدوائر، وعندما دخلنا عصر الاستقلال كانت المجموعات العرقية والدينية والمناطقية باتت تشكل أقواساً واضحة، تتداخل في ما بينها لكنها تقاوم الانصهار، كان الفعل السياسي هنا يحتم إحداث نقلة معرفية داخل تلك المجموعات، والأقواس المتداخلة، يفضي إلى ترسيخ مفهوم «السورنة» الذي يعادل هنا المواطنة، هذا ما لم تعره الأحزاب السورية، وكذا الحكومات السورية المتعاقبة، لكن ما يهمنا في مقالتنا هنا الأحزاب التي فشلت في الدور المنوط بها أولاً، ونقصد به الفعل الثقافي والمجتمعي، ولربما كان ذلك الفشل مبرراً للانقسامات الدينية والإثنية والطائفية والعشائرية التي كشفت مراراً عن بنية مجتمعية هشّة في العديد من المراحل، لعل أبرزها ما بعد ربيع عام 2011.
*كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا