أصبح المذهب الذي يقول بأن العرب أمّة واحدة وأن هذه القومية أساس جميع السياسات مقبولاً منذ عام 1918 من الأكثرية العظمى من القادة السياسيين العرب ومن المثقّفين العلمانيين على الأقل، وكان اعتناق أناس هم في معظمهم من المسلمين لهذا المذهب تطوراً ذا دلالة ثورية، إذ أن المسلمين ظلوا قروناً ينظرون إلى الدولة من وجهة دينية وسلالة حاكمة. والحق أن الإسلام منذ القرون الأولى أو حول ذلك كان دين الأمة العربية الغالب. وأصبح الإسلام في النهاية على كل حال الرابطة العليا التي حلّت محل القومية.كانت الإمبراطورية العثمانية هي الدولة الحاكمة في معظم الأراضي العربية بعد عام 1517. وقد تقبّل عرب جنوب غرب آسيا ومصر حكم الأتراك العثمانيين، اسمياً على الأقل، طوال أربعة قرون إلا أن نهاية القرن التاسع عشر شهدت قلة من العرب العثمانيين المثقفين ينشرون نظريات تنكر حق الأتراك في حكم العرب، وأوجد هؤلاء المثقفون إيديولوجية جديدة هي العروبة وقدّموها على أنها حل للمشاكل الراهنة.
ظهر الاهتمام بالقومية كمبدأ سياسي بين الشعوب الإسلامية بسبب احتكاكها بالغرب، وبدأ نفر من العرب العثمانيين وعرب مصر ممن أقاموا في أوروبا منذ نهاية القرن التاسع عشر يدركون الأفكار الأوروبية حول الوطن والأمة. وعند منتصف القرن العشرين كانت التعابير الدالة على هذه المفاهيم وما يتصل بها موجودة في كل من اللغتين العربية والتركية.
ظلّ معظم المثقفين العثمانيين محافظين، يعيدون التأكيد بقوة متجدّدة على إيمانهم التقليدي بأن الإسلام هو أفضل طريقة ممكنة للعيش، وأصبح إنتاج مقالات المديح والجدل في كل من اللغتين العربية والتركية غزيراً بعد عام 1860.
سيكون هذا العام 1860علامة فارقة بالنسبة إلى مصير الأقاليم العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية خاصة مصير سوريا الحديثة.
إن المثقفين العثمانيين الذين راحوا يحاجّون بأن الإسلام لا يتعارض مع تقدم الحضارة كما هي في أوروبا، وأن الإسلام الحقيقي الأول قد طرأ عليه ما أفسده، والعلاج سهل هو إحياء الإسلام وإعادته إلى أصوله النقية، هؤلاء هم التحديثيون في مقابل المحافظين من أنصار العثمانية. مع أن الفريقين كانا يدافعان عن دولة عثمانية قوية.
كانت العناصر التركية من هؤلاء التحديثيين والمتمثلة بـ «العثمانيين الجدد» الذين بدأ نشاطهم في عام 1860 قد تبنّت بوضوح أفكار الوطنية العثمانية والوطن العثماني» في إشارة إلى بدء هيمنة الجامعة القومية على الجامعة الإمبراطورية، أي التركية على العثمانية. وفي خلال سنوات 1870 انتشرت أفكار مشابهة تماماً في مصر، تُغلب الوطنية المصرية على الرابطة العثمانية، نتيجة لنشاطات جمال الدين الأفغاني وقد طلب من أتباعه أن يعملوا عقولهم وأن يختبروا أسس إيمانهم، وبرهن مستشهداً بمقاطع من المؤرخ والسياسي الفرنسي فرانسوا غيزو (ت 1874) أن تقدم أوروبا كان نتيجة ظهور لاهوت مشابه فيها للإسلام هو المذهب البروتستانتي، حيث تهيمن الرابطة القومية على الرابطة الإمبراطورية. على مبدأ من قال: والحق أن الإسلام منذ القرن الأول أو حول ذلك كان دين الأمة العربية الغالب. وعلى هذه الفكرة سوف تتمحور كل حركة الإحياء الثقافي أو الإحياء القومي العربي. ومع أن معظم التحديثيين كانوا ذوي نزعة عثمانية فإن قلة من المسيحيين السوريين الذين كانوا يشاركون التحديثيين أفكارهم العامة قدّموا فكرة قومية عربية شبه علمانية. وفي خلال سنوات 1860 أسهم هؤلاء العرب إسهاماً عظيماً في إحياء الأدب العربي القديم وفي نشر المعرفة الحديثة. وكان أحد أهم ممثلي هذه المجموعة إبراهيم اليازجي الذي دعا في عام 1868 إلى إحياء قومي عربي. لم تظفر عروبة اليازجي العلمانية إلا بالقليل من الأتباع وظلت النزعة العثمانية سواء أكانت محافظة أم تحديثية هي العقيدة المسيطرة ضمن البلدان العثمانية حتى عام 1914.
اعتمدت في هذه المقالة بشكل أساسي على مقالة ارنست داون «من العثمانية إلى العروبة - أصول إيديولوجية»


ومما يلفت الانتباه أن الخطوط العريضة للنظرية الإسلامية في القومية العربية اقترحها أحد أعظم العثمانيين العرب التحديثيين وهو المصري محمد عبده الذي كان هدفه الأول إحياء الإسلام، وكان خلال حياته السياسية مدافعاً عن الدولة العثمانية.
وقد طوّر محمد عبده استخدام الأفغاني لفكرة غيزو وأعلن أن أوروبا لم تبدأ تقدمها المذهل في الحضارة إلا عندما بدأ الأوروبيون بالتعلم من المسلمين وتبنوا عقيدة تنسجم مع الإسلام فيما عدا الاعتراف بالرسالة المحمدية (يقصد الإصلاح البروتستانتي الذي جعل الدين قومياً حيث انشقّت الكنائس القومية عن كنيسة روما الكاثوليكية الكوسموبوليتية العالمية بحكم صعود هيمنة البورجوازية في أوروبا القرن السادس عشر).
أما علاج محمد عبده لتأخر المسلمين فهو الإسلام الأولي الذي لم يفسد. ويعتقد محمد عبده أن الإحياء الديني هو الطريقة الوحيدة التي تمكن المسلمين من استعادة عظمتهم السياسية. لكنّ هذا الإحياء لا يمكن أن يتم من دون إحياء ثقافي عربي والعودة إلى هيمنة العروبة على الإسلام كما كان في بواكيره، هكذا يكون إحياء الثقافة العربية هو الطريق الملكي لإحياء الإسلام وإعادة ألقه كما كان في بواكيره.
كان محمد عبده طيلة أيام حياته يمارس فعّالية سياسية في خلال سنوات 1880 وكان مدافعاً قوياً عن الدولة العثمانية، وقد أدى به إيمانه المبكر بضرورة العودة إلى الإسلام إلى صياغة فكرة مناقضة في مضمونها للعثمانية، إذ رأى أن شفاء المسلمين من أمراضهم يكمن في إحياء الإسلام الحقيقي؛ الإسلام الأصيل وهذا يعني إسلام العرب. إنه بهذا الفكر يكون قد أسّس للقومية العربية الإحيائية أو البعث الثقافي العربي، والغاية ليست سياسية بل دينية هي إحياء الإسلام. حيث يمضي بعد ذلك إلى مطالبته بإحياء مكثّف للأدب العربي القديم والدراسات الدينية، وقد حقّق بناءً على ذلك كتاب (نهج البلاغة) المنسوب لعلي بن أبي طالب ونشره في مجلدين. ومع أنه تخلّى في سنواته الأخيرة عن نشاطه السياسي إلا أنه شدّد بقوة متزايدة على الإصلاح الديني واستمر في إصراره حتى النهاية على أن الإصلاح الديني الجذري (وعلى طريق الإصلاح البروتستانتي) يتطلب إحياء الدراسات العربية (أي يتطلب إحياءً قومياً وهيمنة عربية على الإسلام).
وحمل لواء أفكار محمد عبده من بعده رفيق حميم وتلميذ متفان هو السوري محمد رشيد رضا الذي بثّ هذه الفكرة بعد عام 1898 في جريدته «المنار». وتوصل رشيد رضا كما فعل محمد عبده من خلال مذهبه في إحياء الإسلام الأولي إلى التشديد على أولوية العرب، ذلك أن العودة إلى الإسلام الأولي تتضمّن بلا شك إحياءً عربياً. إذ كان أحد بنود هذا الإصلاح المقترح إحياء الدراسات العربية التي هي في الحقيقة جذر المسألة، يقول: من الضروري نشر اللغة العربية أكثر من التركية، ذلك أن العربية لغة الدين ونشرها هو الوسيلة إلى نشر الدين وفهمه» ويرى أن الإحياء العربي هو الطريق الوحيد إلى بعث الإسلام. ولا ريب في أنه وفي حركة متناقضة ظل يأمل مدة طويلة في أن يجد إصلاحه طريقاً للتنفيذ تحت رعاية السلطان العثماني. وهذه السذاجة السياسية من رضا وإخلاصه للسلطنة العثمانية مردهما إلى عدم الانتباه إلى الطابع الوظيفي للإسلام بالنسبة إلى السلطنة العثمانية، كان الإسلام مجرد وسيلة لإخضاع أمم مختلفة ومتعددة، كما كانت المسيحية الرسمية المكرّسة وسيلة الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان على عربي سوري وزميل لرشيد رضا أن يخرج من المفارقة السياسية ويضيف محتوى سياسياً إلى النظرية، وذلك ما فعله عبد الرحمن الكواكبي الذي جاء إلى القاهرة عام 1898.
والواقع في رأي الكواكبي أن المسيحيين لم يحرزوا تقدماً في الفنون والعلوم حتى جاءت البروتستانتية التي هي شبيهة بالإسلام الحقيقي وقد ظلت الأرثوذكسية والكاثوليكية موضع تعلق بين الجمهور، ولكنهما تضاءلتا تماماً بين المثقفين لأن المسيحية (الرسمية المكرّسة) والعلم لا يتفقان أبداً.
والكواكبي مثله مثل محمد عبده ورشيد رضا يقوده تشخيصه لأمراض الإسلام إلى التأكيد على تفوق العرب وعلى دورهم الفريد في إحياء الإسلام، والعودة إلى الإسلام الصحيح تعني نهضة العرب المسلمين وهيمنتهم السياسية، ومن يقرأ كتاب الكواكبي الشهير «أم القرى» يرى فيه دعوة سياسية – تنظيمية لبناء خلافة إسلامية عربية مركزها مكّة تكون بديلاً عن السلطنة العثمانية المتهالكة، وقد يكون هذا الأمر الجلل وراء اغتياله في القاهرة في 13 حزيران/ يونيو 1902.
* كاتب وباحث سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا