لا يختلف عاقلان بأنّ الحديث عن أزمة في العلاقات بين رأس حربة الإمبرياليّة في العالم، الولايات المتحدّة الأميركيّة، وحليفتها الاستراتيجيّة وربيبتها، المارقة بامتياز ومع علامة الجودة، لا تتعدّى كونها أكثر أو أقّل من حلقة أخرى من المسرحيّة الهزليّة، التي يُحاول الطرفان، في واشنطن وتل أبيب، كيّها في الوعي العربيّ، والإيحاء بأنّ الحلف الصهيوـ أميركيّ بات في خطرٍ محدق. وإنّ اصطناع الـ«خلاف» بين الدولتين الصديقتين، وافتعال أزمة غير موجودة، هما طوق النجاة الذي تمنحه الإدارة الأميركيّة للحكومة المتطرّفة والعنصريّة، التي يترأسها بنيامين نتنياهو، للهروب من استحقاقات ما يُسّمى بالعملية السلميّة مع سلطة أوسلو – ستان.
هذه السلطة التي على الرغم من فشلها منذ أكثر من عشرين عاماً في تحقيق مكسبٍ واحدٍ على الأقّل، ما زالت تتشبث بالمفاوضات العبثيّة، التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، لا بلْ أكثر من ذلك، فإنّ هذه المفاوضات جعلت من مقولة الشهيد غسان كنفاني، الذي طالته يد الغدر الصهيونيّة الجبانة، «إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نُغيّر المدافعين لا أنْ نغير القضية»، جعلت منها، أي من المقولة، مأثورة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولكنّها أفرغتها من مضمونها.

■ ■ ■


اللافت أوْ ربمّا عدم اللافت، أنّ دولة الاحتلال، قررت فرض عقوبات على السلطة الفلسطينيّة، وجاء أنّ الحكومة في تل أبيب أعدّت رزمة عقوبات تستهدف مسؤولي السلطة الفلسطينية بشكل مباشر، ورجال الأعمال الفلسطينيين، تُطبّق في حال تفجرت المفاوضات نهائياً، وقيام السلطة بالتوجه بطلبات جديدة للانضمام لمؤسسات الأمم المتحدة وللمعاهدات الدولية. ولفتت المصادر الإسرائيليّة إلى أنّ منسق العمليات في الضفة الغربية، يوآف مردخاي، أعدّ بتعليمات من المستوى السياسي رزمة عقوبات، تشمل خصم ديون شركتي الوقود والكهرباء ومزودين آخرين من أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل وتحولها للسلطة الفلسطينية. وتشمل العقوبات تقييد تنقل ونشاط رجال أعمال فلسطينيين، وعرقلة مشاريع اقتصادية، وسحب بطاقات الـ(VIP) التي تتيح للقيادات الفلسطينيّة حريّة التنقّل من الضفة الغربيّة لإسرائيل. وقال مسؤول أمنيّ رفيع المستوى إنّ إعداد رزمة العقوبات جاء بتعليمات من نتنياهو، ويستهدف بشكل أساسيّ قيادة السلطة الفلسطينيّة ورجال الأعمال، لافتاً إلى أنّ تنفيذ العقوبات سيكون له تأثير كبير على قيادات السلطة الفلسطينيّة. وأوضحت المنظومة الأمنيّة في تل أبيب أنّ الرزمة الحاليّة هي مرحلة أولى من العقوبات، وفي حال استمرار تدنّي العلاقات ستفرض إسرائيل عقوبات أشّد تتضمن قطع علاقات التعاون في مجالات عدة. ولكنّ التنسيق الأمنيّ بين السلطة والاحتلال سيبقى على حاله بقرارٍ إسرائيليّ بحت، إذ نقل موقع «والاه» الإخباري العبريّ عن مسؤول عسكريّ رفيع في تل أبيب قوله إنّ التعاون الأمنيّ هو مصلحة مشتركة، ولا يبدو أنّ السلطة الفلسطينية لديها مصلحة في الوقت الراهن بتصعيد الأوضاع. السلطة في رام الله الـ«مُحرّرّة» لم ترد على العقوبات الإسرائيليّة، لأنّها تعودت على تلقّي الضربة تلو الأخرى من الاحتلال ومواصلة التنسيق الأمنيّ معه. فمنذ بدء المفاوضات بين تل أبيب ورام الله، قبل أكثر من عشرين عاماً، أعلنت السلطة عن وقف المفاوضات، بسبب قيام إسرائيل باغتيال ناشطين فلسطينيين، ولكن في المقابل، لم تُعلن السلطة، ولو مرّة واحدة، عن قرارها تعليق أو وقف المفاوضات، بسبب مواصلة الاحتلال الإسرائيليّ البناء في القدس المحتلّة أو في الضفّة الغربيّة. بكلمات أخرى، السلطة من حيث تدري أوْ لا تدري، ساعدت وساهمت بشكلٍ مباشرٍ أو بشكلٍ غير مباشر، المشروع الاستيطانيّ الصهيونيّ، الهادف إلى الإجهاز على ما تبقى من أراضي للشعب الفلسطينيّ. ومن الأهمية بمكانٍ، الإشارة لا بل التشديد على أنّ العقوبات التي تفرضها إسرائيل على السلطة الفلسطينيّة هي عقوبات «قانونيّة» بحسب اتفاق أوسلو، الذي جرى التوقيع عليه بين الحكومة الإسرائيليّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة في أيلول (سبتمبر) عام 1993.

■ ■ ■


السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذه العُجالة: لماذا آثرت إسرائيل مواصلة التنسيق الأمنيّ مع السلطة، في الوقت الذي قطعت فيه الاتصال معها في المجالات كافة وعلى كل الأصعدة؟ والسؤال الأهّم، الذي يُستنبط من الذي سبقه: ما هو المعنى الحقيقيّ للتنسيق الأمنيّ بين الجلاد والضحيّة؟ باعتقادنا أنّ هذا التنسيق هو كلمة مخففة لعدم ارباك أقطاب سلطة أوسلو ستان، ذلك أنّ التعاون الأمنيّ، باعتراف من قادة دولة الاحتلال، وعلى الرغم من المشاكل التي تعصف بالـ «مفاوضات» بين الطرفين وصل إلى أوجه في السنة الأخيرة.
السلطة ساعدت بشكل مباشر أو غير مباشر المشروع الاستيطاني الصهيوني
وفي هذا السياق لا بدّ من التذكير بأنّ الاحتلال الإسرائيليّ عندما اغتال بدم بارد، قبل حوالى الشهر الشهيد حمزة أبو الهيجاء، في مخيم جنين، لم يُخف أنّه «طلب» من قوات الأمن الفلسطينيّة البقاء في مقارها وعدم الوصول إلى المخيّم. بكلمات أخرى، إنّ التنسيق الأمنيّ، بين القويّ والضعيف في هذه المعادلة، هو قيام الضعيف بتنفيذ أوامر القويّ وتقديم العون له في أداء مهامه على أحسن وجه، بما في ذلك، اعتقال واغتيال المقاومين، والقضاء على البنية التحتيّة لفصائل المقاومة، والعمل على شطب مفردة المقاومة المسلحّة من المُعجم الفلسطينيّ باعتبارها إرهاباً، على الرغم من أنّ المعاهدات والمواثيق الدوليّة، تسمح لأيّ شعب على وجه هذه البسيطة بمقاومة الاحتلال بكلّ الطرق والوسائل المتاحة، لأنّ الاحتلال هو غير شرعيّ، قولاً وفعلاً، فيما تُعتبر مقاومته، بما في ذلك الكفاح المُسلّح، عملية مشروعة. علاوة على ذلك، عدم قيام تل أبيب بوقف التنسيق الأمني مع سلطة أوسلو ستان يقطع الشكّ باليقين بأنّ هذا التعاون يصب في مصلحة الاحتلال، ولولا ذلك، لكانت الدولة العبريّة قد أعلنت على رؤوس الأشهاد أنّها تتوقّف عنه. وغنيٌ عن القول في هذه العُجالة، إنّ الشعب الفلسطينيّ في الضفة الغربيّة يخضع لنوعين من الاحتلال: الأوّل الاحتلال الصهيونيّ، والثاني الاحتلال من قبل الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة، التي شكّلتها ودرّبتها أميركا في الأردن، وكان المسؤول المباشر عنها الجنرال دايتون.

■ ■ ■


من الطرف الآخر، أطلّ علينا رئيس سلطة أوسلو-ستان، محمود عبّاس، وهو من الدكتاتوريين الذين سيدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، أطلّ علينا معلناً أنّ السلطة الفلسطينيّة ستُوقّع على 15 اتفاقية مع الأمم المتحدّة. وهذه المسرحيّة مُعدّة للاستهلاك الداخليّ، لتهدئة الشعب الرازح تحت نير الاحتلال، وإبراز الرئيس غير الرئيس، بأنّه يرغي ويزبد ويتحدّى واشنطن وتل أبيب، ولكن، علينا الإقرار بأنّ هذه التصريحات الناريّة ما هي إلا ذر للرماد في العيون، فالسلطة وقعّت على اتفاقيات تجاريّة عديدة مع دول مختلفة في العالم، ولكن إخراج هذه الاتفاقيات إلى حيّز التنفيذ منوط ومرهون بموافقة دولة الاحتلال، وبما أنّ إسرائيل لم تُوافق على هذه الخطوات، باعتبارها خطوات أحادية الجانب، فإنّ الاتفاقيات لا تُساوي الحبر الذي كُتبت به. والمُلاحظ أنّ أقطاب دولة الاحتلال، وحتى وزير الخارجيّة الأميركيّ، جون كيري، باشروا بحملةٍ دعائيةٍ كبيرةٍ، عابرة للقارّات، تؤكّد أنّ رئيس السلطة لا يُريد التنازل، وبالتالي، عندما سيعود إلى المفاوضات، وأُراهن أنّه سيعود، سيقف أمام الكاميرات ويتمايل كالطاووس، ويقول لشعبه إنّه عاد إلى المفاوضات بشروطه، أمّا عن الشروط فحدّث ولا حرج، لا شروط ولا مَنْ يحزنون، ولكن بما أنّ المسرحية باتت في مراحلها الأخيرة، فسنكون شهوداً على حلقة أخرى من المفاوضات العبثيّة.

■ ■ ■


كإنسان أتباهى بإنسانيتي، كعربيّ أفتخر بعروبتي، وكفلسطينيّ أعتّز بفلسطينيتي، أتعرّض للتمييز العنصريّ في الدولة العبريّة، أُقّر وأعترف أنّه على الرغم من محاولاتي الحثيثة لسبر غور ظاهرة سلطة أوسلو-ستان، لم أنجح في مهمتّي: كيف تُواصل السلطة التنسيق الأمنيّ مع إسرائيل، العدو التاريخيّ والسرمديّ لشعبنا الفلسطينيّ، وفي الوقت عينه، يتواصل الخلاف بين حركة فتح (حزب السلطة) وبين حركة حماس... نتعاون مع عدونا، ونُعادي أبناء جلدتنا، هنا مربط الفرس، وهذا بيت القصيد، والله من وراء القصد.
* كاتب فلسطيني