يدير ياسين الحاج صالح المخبر المحليّ للإمبرياليّة الغربيّة، والتروتسكيّ المعروف بدكانة له على الانترنت تسمى (الجمهوريّة) ينفق عليها مما تجود به أنفس الوقفيّة الأوروبيّة للديمقراطيّة ومؤسسّة أيمن أصفري وبقيّة أخر من واجهات أجهزة المخابرات الغربيّة شبه العلنيّة. و(جمهوريّة) ياسين العتيدة مخصصة بكليّتها لنقد الدولة السوريّة بوصفها الجدار الأخير في وجه «نشر الديمقراطيّة» و»ثقافة حقوق الإنسان» ودعوات نيل الأقليّات لحقوقها (داخل سوريا والعراق حصراً)، ولأنّها معقل البطريركيّات الجندريّة، والاستبداد وما إلى ذلك من المصطلحات الكلاسيكيّة المختطفة التي لم يعد تردادها يثير إلا السخريّة والهزء.
إديل رودريغيز (الولايات المتحدة)

على رفوف تلك الدّكانة العارية نُشرت قبل أيّام رسالة مفتوحة بلغات عديدة زُعم أنّها عمل جماعيّ لمجموعة من الكتاب والمثقفين السوريين وغيرهم من المتضامنين معهم، وقّعها ناشطون وكتّاب وفنانون وأكاديميون من سوريا و32 بلداً آخر (بما فيها «إسرائيل» معقل التروتسك الأثير). لكن ليس سرّاً ربّما أن ملهم هذه الرسالة ليس إلا جيلبر الأشقر (أو صلاح جابر وفق روايات أخرى)، التروتسكي داعية الحروب الأهليّة وسفك الدماء في ليبيا وسوريا والعراق، ومدرّب الوحدات الثقافيّة في الجيش البريطاني في تأدية مهماتها في الشرق الأوسط (وهي وحدات من قوات خاصّة ترسل إلى الأرض لتهيئة الأجواء ثقافيّاً للعمل العسكريّ عبر إضعاف عزيمة مقاومة السكان المحليين للغزو). وبحسب ما أخبرتني إحدى الموقّعات على الرسالة المفتوحة، فإن زميلها في كليّة الدراسات الشرقيّة بجامعة لندن، أي الأشقر/ جابر، تولّى بنفسه التواصل مع شبكته المعروفة من الأكاديميين أنصار إسقاط الأنظمة الوطنيّة (المعادية للغرب حصراً)، كما رموز من تبقى من تروتسك متناثرين حول العالم، لضمان إضافة تواقيعهم. فهي إذن ليست بعمل جماعيّ بقدر كونها – رسالة من الأشقر / جابر وجمهوره -.
يمكن تلخيص محتوى رسالة الأشقر عبر محاور أساسيّة ثلاثة:
الأوّل أنّه ينبغي لكل من يريد وصف نفسه باليساري المعادي للإمبرياليّة (أنتي إمبريالية على حدّ تعبير الرسالة) إن هو رغب في ألا يحسب مع «عديمي المبادئ»، و»الكسالى»، و»الحمقى» أن يتبع وصفة الأشقر/ جابر الشخصيّة في معنى اليسار (ولنأخذ فكرة عن نوعيّة تلك المواصفات، فحتى فلاديمير إليتش لينين ليس يسارياً ولا ماركسيّاً بما فيه الكفاية).
والثاني منح الولايات المتحدّة البراءة شبه التامّة («ليس لها من دور مركزي» وفق تعبير الرسالة) من الحرب (الأميركيّة) المستمرّة على سوريّا منذ أكثر من عقد.
والثالث أن الإمبرياليّة التي تتحمّل المسؤوليّة عمّا يجري في الشرق الأوسط - وفي سوريّا تحديداً - من مآس ومعاناة إنما هي إمبرياليّة استبدادية شرقيّة روسيّة و(صينيّة – توقيت مثالي لإدراج الصين في هذا الوقت) وإيرانيّة، فيما تقف الديمقراطيّات الغربيّة (بحزم) إلى جانب الشعوب المقموعة، وأن إسقاط الهيمنة الشرقيّة هذه أساسي ليتفرّغ يسار الأشقر/ جابر لمعالجة قضايا الاحتباس الحراري (أقسم وفق الرسالة دائماً).
وبناءً على هذه المقدمّات، يدعو الأشقر/ جابر إلى أن ينضمّ قراء الرّسالة إليه في مناهضة مدّعي اليسار الـ (أنتي-إمبرياليّة)، المتماهين مع نظام الأسد (وروسيا والصين وإيران، وضمناً فنزويلا وكوبا وكوريا الشماليّة وفيتنام)، والذين يُنكرون وجود الشعب السوريّ، ويتجرؤون على اتهام سياسة الولايات المتحدّة تجاه سوريّا بالإمبريالية والوقوف «في وجه التضليل الذي يقومون به».
بالطبع، لا تستحقّ مقدمات الأشقر/ جابر المتهافتة حتى عناء التعليق عليها. فهذا الهراء ذاته يعاد اجتراره يومياً من قبل الطاقم المأجور ذاته منذ إطلاق الموجة الجديدة من الحرب الأميركيّة الطويلة على سوريّا في 2011، ولم يعد دحضه يتطلّب جهداً فكرياً أو بحثياً، وليس حتى مصدر إفادة أو تسلية للقراء. وهو في المقابل يصمت كأنّه تمثال أخرس عن مادة الأزمة السوريّة وأبعادها وصيغتها منذ أوّل داعشيّ تم تهريبه (من الأردن) إلى درعا والاعتداءات التركيّة الإسرائيليّة البريطانيّة الأميركيّة المستدامة، وصولاً إلى قانون قيصر والحصار المعولم الذي تقوده الولايات المتحدّة على سوريّا اليوم، لكنّي سأقارب النصّ لناحية الشكل: أي صيغة رسائل التشهير المعمّمة التي تعجز عن تغيير الآراء بالحجة والمنطق السويّ، وتستهدف حصراً إلغاء آخرين بحكم (هرطقتهم) الفكريّة أو مواقفهم الأخلاقيّة التي لا تناسب تصورات أصحاب تلك الرسائل عن العالم عبر التجييش العاطفي والاستعداء والوصم.
قد يخدع جيلبر الأشقر بعض الناس بعض الوقت، لكنّه سيذهب كما ذهب يهوذا في التاريخ: مخبراً محليّاً خائناً مستخدماً بدراهم فضيّة عند الرّوم الغزاة


والذي يعرف أجواء الثقافة الغربيّة منذ الغزو الأميركيّ للعراق 2003 يمكنه تتبّع عودة ظهور هذه الممارسة القروسطيّة الإقصائيّة، بداية من قبل أجهزة الاستخبارات الغربيّة ضدّ كل معارض لتدمير الدّولة العراقيّة وذبح شعبها وسرقة مواردها بحجة تماهيهم مع (الديكتاتور) العراقي وفق المعايير الغربيّة العمياء ذاتها لنشر الديمقراطيّة وحقوق الإنسان وإسقاط الاستبداد (أي تحديداً الأنظمة التي قد يتعارض أيّ من خياراتها السياسيّة أو الاقتصادية مع مصالح الولايات المتحدة)، وفي وقت لاحق – وغالباً بعد مزاج الاستقطاب الذي تلا الأزمة الماليّة العالميّة - انتقائياً من قبل اليسار الغربيّ (بألوانه الغرائبيّة العديدة) كما اليمين الشعبوي، فضلاً عن عصابات مواقع التواصل الاجتماعي، لوصم أفراد أو مجموعات أو تيارات بعينها. والغاية دائماً تشويه صورة القلّة لأجل ترهيب الكثرة، وفرض خيارات أخلاقيّة وفكريّة مجرّدة على كل من تسوّل له نفسه أن يخرج عن سرديّة ارتضاها كتّاب الرسالة (وموقّعوها)، وذلك من خلال الإساءة إلى سمعتهم (بألفاظ من صيغة كسالى وحمقى وعديمي مبادئ وفق رسالة الأشقر/ جابر) وتهديدهم الضمنيّ بنوع من العزل الاجتماعي، والإدانة على أساس السلوك (لا المضمون)، والسعي لغرس شعور بالذنب والعار في نفوسهم (وهو إرث ثقافيّ سائد في المجتمعات اليهو-المسيحية استُخدم تاريخيّاً لضمان خضوع الأفراد للهيمنة).
تخلق هذه الممارسة، بغض النظّر عن مرجعيتها السياسيّة، جواً خانقاً، يمنع البحث وراء السرابات المصنّعة، ويحدّ من حريّة التعبير، وتستعيد أسوأ ممارسات أزمنة العزل البابويّ، ورقابة الأنظمة الشموليّة (بريطانيا والولايات المتحدّة) ومكارثيّة الأربعينيّات والخمسينيّات، وتخوين الأميركيين المعادين للحرب على فيتنام، وعدالة الشارع في مجتمعات التخلّف الديني والاجتماعي والعنصريّ بأبشع أشكالها.
نص الأشقر/ جابر الركيك صياغة ومضموناً يندرج كنموذج كلاسيكيّ في سياق ثقافة الإلغاء هذه، وهو ليس مستغرباً على من كان والغاً في دماء شعوب بلادنا بكل صلافة وتصميم «مع تقديم السلاح للمعارضة السورية، لأنني كنت مقتنعاً، ومنذ اليوم الأول، بأن إسقاط نظام بشار الأسد سلمياً أمر مستحيل. وكنت أتمنّى بالأخص مدّ المعارضة بسلاح مضاد للطائرات» وأنّه «تجب المطالبة بتسليح الانتفاضة الليبية كي تتمكن من مواصلة المعركة وإسقاط النظام». في عين الوقت، يسترزق هذا الرجل نفسه من خزائن النظام (القطري) المفعم ديمقراطية، ويتقاضى عوائد من ناشر كتابه (الإسرائيلي) الجذل بتشويه صورة الحاج أمين الحسيني ووصفه بالعميل النازيّ (في مؤلّف الأشقر/ جابر)، إضافة إلى أنّه يعمل مدرباً مستأجراً بجنيهات معدودة لإعانة جنود الجيش البريطانيّ على قتلنا وكسرنا.
ومن ناحية الشكل أيضاً، فإن الموقّعين على الرسالة - من دون استثناء - هم من معسكر واحد (وإن توزّعوا على 32 بلداً، بما فيها «إسرائيل» التي ترجمها الأشقر/ جابر إلى «القدس» في النسخة العربيّة) مؤيدون بلا تحفّظ للإمبريالية الغربيّة، ومنخرطون كلّ بحسب موقعه في كل عدوان أميركي من العراق إلى ليبيا ومن سوريا إلى فنزويلا، ومن كوريا الشماليّة إلى كوبا، وكثيرون منهم معروفون باسترزاقهم من أموال المنظمات الغربيّة واجهات الاستخبارات، أو بنفاقهم السياسيّ الممضّ – نموذج ناحوم تشومسكي –، أو ببلوغهم مناصب أكاديميّة وألقاباً فاخرة بفضل خدماتهم للمشروع العدواني الغربي على بلادنا.
على أنّ أهم ما يجب أن نمعن النظر فيه في رسالة الأشقر/ جابر المفتوحة هو ربّما توقيتها كمدخل لفهم غايتها.
من المعروف أن التناقضات الأخلاقيّة للأشقر/ جابر باتت تزكم الأنوف، وفقد الرجل أيّ مصداقيّة استجداها من انتحاله الماركسيّة كغطاء، وتناقصت قيمة بضاعته الفاسدة إلا ربمّا عند دائرة أتباع عزمي بشارة وأيتام الثورة الأميركيّة في سوريا والجيش البريطانيّ، وبدأت أوساط من داخل الحركة التروتسكيّة نفسها بإعادة تموضعها الحربائيّ بعيداً عن الشعوذة السياسيّة الوقحة في دعمها للإمبريالية الأميركيّة التي يمارسها تيار يتبع له الأشقر/ جابر، إضافة إلى تكرّس صورته كمطبّع علنيّ مع الكيان (الإسرائيلي)، ومؤيّد لأسوأ تيارات الانعزال في لبنان.
فقدان القيمة هذا، جاء بعدما مرّ من الوقت ما يكفي لإظهار الفشل النظريّ الذي وقع فيه الرجل، وتكشُّف حجم المؤامرة والتضليل اللذين مارستهما المؤسسة الغربيّة بشأن سوريا تحديداً – وليبيا سابقاً – اعتماداً على خدمات مخبرين محليين من طراز الأشقر/ جابر، وتصدّي بعض الأفراد المشاغبين لأكاذيبه (وفعلاً نجح الضغط في إلغاء عدّة محاضرات له في بيروت والخرطوم، كما تحديد الحضور في محاضرات بيرزيت والقدس (المحتلّة)). لكن كارثة الأشقر/ جابر كانت في صعود موقع غراي زوون الإخباريّ على الانترنت. فهذا الموقع الذي يديره ويكتب مواده صحافيّون غربيّون شجعان رفضوا بحرفيّة أساطير التضليل الإعلاميّ الذي تمارسه أجهزة الاستخبارات الغربيّة ومخبروها المحليون، وشرعوا في تقديم روايات بديلة موثّقة لأكاذيب الإمبراطوريّة وكشف مغالطات والتباسات المخبرين كالأشقر/ جابر وأمثاله. وقد نقل هؤلاء مثلاً فضيحة تورّط الأشقر/ جابر وكليّة الدراسات الشرقيّة في عقود تدريب القوات (الثقافيّة = العمليات الاستخبارية على الأرض) البريطانية من فضيحة أكاديمية كشف عنها طلاب كليّة الدراسات الشرقيّة في جامعة لندن، وبالكاد كتبت عنها صحيفة يساريّة محليّة - ضعيفة الانتشار لا يكاد يقرأها أحد تقريباً في بريطانيا - إلى أصقاع الأرض كافة، وحوّلت الأشقر/ إلى نجم بالمعني السلبيّ للكلمة.
وبما أن الأشقر/ جابر يدرّس عامه الأكاديميّ الأخير بعدما وصل إلى عمر السبعين، ولأنّه مضطر بعد أشهر قليلة إلى كسب رزقه من الترويج لنظرياته الفاسدة حول استعادة زخم الصيرورة الثوريّة والربيع العربي بشكله الجديد (الثورات الملوّنة في العراق والجزائر ولبنان)، فهو يريد ترميم عريه بالاستفادة من شبكته ذاتها، عبر التشويش على غراي زوون وحفنة من صحافيين استقصائيين شرفاء لم يهادنوا ولم ينخرطوا في منظومة الكذب. لكنّه بلجوئه إلى هذا المنهج الإلغائي، فاقم من تناقضاته الذاتيّة، وتقمّص دور المستبّد الذي يدينه عند «الشموليين».
ربّما يكون الأشقر/ جابر الإسخريوطي (ولينين كان يدعو تروتسكي بيهوذا الإسخريوطي) قد خدع بعض الناس بعض الوقت، لكنّه سيذهب كما ذهب يهوذا في التاريخ: مخبراً محليّاً خائناً مستخدماً بدراهم فضيّة عند الروم الغزاة. وبالتأكيد لن تمنحه رسائله المفتوحة ولا المغلقة هو والموقّعون معه بأقلام تقطر من دماء السوريين والعراقيين والليبيين إلا مزيداً من الإدانة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا