أخطأ رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسان دياب، في امتناعه عن ممارسة الحد الأقصى من قيام الحكومة بواجباتها في هذه المرحلة الاستثنائية. امتنع (برد فعل وما يشبه النكاية) عن القيام بواجبه، في ظرف بالغ التعقيد والخطورة، عن إدارة حاجات البلاد في حقول من نوع نقاش الموازنة الجديدة، والدفاع عن خطة «التعافي» الاقتصادي، وإقرار خطة توزيع مساعدات البنك الدولي على المستحقين، ومتابعة ملف التحقيق في أسباب انفجار المرفأ، ومواكبة مفاوضات ترسيم الحدود وإصدار مرسوم ضم حوالى 1400 كلم2، مثبتة قانوناً، إلى حصة لبنان البحرية... ومواكبة حريصة وفعّالة لملف كورونا بما يؤمن أسرع وتيرة لتلقي اللقاح خصوصاً...وسوى ذلك من المُلِحّات...لكن الخطأ الأكبر كان في «إقالة الحكومة» من دون إعداد بديل أفضل. فما حصل هو أن فريق «المنظومة» التحاصصية الممسكة بخناق البلاد والعباد، قد ضاق ذرعاً ببعض ممارسات الحكومة من نوع «خطة التعافي الاقتصادي» وما تضمنته من نزاع مع حاكمية مصرف لبنان والمصارف بشأن تحديد الخسائر وكيفية توزيع الأعباء... ثم إن الحكومة كانت قد بدأت فعلاً، عبر بعض المواقف المعلنة وبعض الزيارات، وقررت استكشاف إمكان التوجه شرقاً: نحو العراق والصين، وربما نحو إيران وسوريا... تحدث الرئيس دياب، في أوائل تموز 2020، بما يشبه الانتفاضة عن انهيار تقف خلفه جهات محلية وخارجية، وتلاعب بالدولار ومحاولة تعطيل إجراءات الحكومة لمعالجة تدهور سعر صرف الليرة وتعطيل فتح الاعتمادات للفيول والمازوت والدواء والطحين. تحدث أيضاً عن ممارسات دبلوماسية فيها خروقات كبيرة للأعراف الدولية (واشنطن والرياض...) ثم استقبل السفير الصيني بحضور وزراء البيئة والصناعة والأشغال والنقل والسياحة. هذا فيما كان وفد وزاري عراقي في طريقه إلى لبنان للقاء كبار المسؤولين (بالمناسبة لماذا الاستمرار في المماطلة مع العراقيين)...
ملف الحكومة كان يكبر بسبب «خطة التعافي الاقتصادي»، وبسبب احتمال التوجه شرقاً، وأساساً بسبب أن حكومة دياب نفسها قد فُرضت فرضاً، بتأثير ضغط الانتفاضة على المنظومة المتسلطة. هذا الملف بلغ الذروة مع إعلان رئيس الحكومة النية لإعداد مشروع قانون لتقديم موعد الانتخابات النيابية. كان ذلك الإعلان هو القشة التي قصمت ظهر البعير. بادر رئيس مجلس النواب فوراً إلى تحديد جلسة محاسبة للحكومة. طبعاً، في سجل الحكومة الكثير من نقص المبادرة والجرأة في مقاربة القضايا والملفات ومجمل الأزمة، ومن التردد والارتباك والضعف والتفكك... لكن لم يكن ذلك سبب «المحاسبة». وهكذا، وفور دعوة بري، وتفادياً للسقوط في المجلس النيابي، قدَّم دياب استقالة حكومته. باستثناء «حزب الله»، لم يكن كل فريق «المنظومة» مرتاحاً لمجيء الحكومة ولا لاستمرارها. خطوة الرئيس بري، بدفع الحكومة إلى الاستقالة، لم تكن منسّقة مع حليفه «حزب الله»، ولا محسوبة النتائج. الأخير الذي كان يرى فيها «أفضل الممكن» وقف متفرجاً وقد أُسقط في يده نتيجة موقف حليفه.
أوهام عديدة برزت منذ ذلك التاريخ: أوّلها: اعتقاد سعد الحريري باستعادة زمام المبادرة لتعويم نفسه وترميم علاقاته العربية، وخصوصاً السعودية منها. ثانيها تصور فئة واسعة من داخل الأكثرية النيابية ومن خارجها بتأليف «حكومة مهمة» وفق التصور الفرنسي خلال أيام معدودة تحظى بثقة المجتمع الدولي (واشنطن) والعربي (الرياض). الثالث، هو وهم المعارضة المدعومة من واشنطن والرياض بإمكان إحداث تحوُّل كبير على حساب رئيس الجمهورية وتياره من جهة، و»حزب الله» ودوره المحلي والإقليمي، من جهة ثانية، والأكثرية النيابية، من جهة ثالثة... تسعة أشهر مرّت، حتى الآن، من المراوحة والعجز وتفاقم الصراعات وتعاظم الانهيار على الصعد كافة. الواقع أن الجميع متضرر الآن من دون بروز مؤشرات بشأن تأليف الحكومة. رئيس الجمهورية يخوض معركة باللحم الحيّ ضد خصومه، وخصوصاً ضد الرئيس المكلف، محرّضاً عليه، ما استطاع، في الداخل والخارج. رئيس الحكومة، لا ينزل من طائرة حتى يستعد للانتقال إلى أُخرى، آملاً الحصول على موعد سعودي. الوسطاء، رغم كثرتهم وانحياز بعضهم، يصطدمون بالتعنّت والفئوية والشخصانية المحلية الرسمية وبالشروط الأميركية والسعودية. البلاد تندفع نحو الكارثة والإفلاس بما بات يمثّل كابوساً عاماً يؤرق اللبنانيين، وخصوصاً الفئات الشعبية...
المبكي المضحك الآن، أن من عملوا على إطاحة حكومة دياب هم الأكثر إلحاحاً، كل دقيقة، على المطالبة بتأليف حكومة، أي حكومة، من أجل «الإنقاذ» ومنعاً لـ»ضياع لبنان»... هذا من دون أن يرف جفن لأحد بشأن مسؤولياته عن الدعسة الناقصة بدفع حكومة دياب إلى الاستقالة أو بإعاقة بعض خطواتها الإيجابية ذات الطابع الاقتصادي (تدخل المجلس عبر لجنة المال والموازنة التي يعتبر رئيسها أحد أركان التيار العوني، لإطاحة أرقام خطة التعافي الاقتصادي، خدمة للمصارف عموماً ولمصرف لبنان خصوصاً (حبذا لو تضمنت كلمة رئيس الجمهورية الأخيرة، بشأن التدقيق الجنائي، إشارة إلى ذلك). كذلك وسط خراب مخيف يواصل رئيس الجمهورية وتياره بشكل خاص خوض معركة «الحقوق الطائفية»، محاولاً فرض أعراف وتقاليد جديدة تصبّ في خانة تكريس الطائفية والتراجع حتى عن النص الدستوري المتضمن خطة إلغائها، والذي يفرض أن يبدأ تنفيذها مع المجلس النيابي المنتخب على أساس «المناصفة» عام 1992.
لم تدفع الكارثة المنظومة السياسية الحاكمة إلى الشعور والسلوك ولو بحدّ من المسؤولية لمواجهة انهيار سيقود البلاد وشعبها إلى «جهنم» وبئس المصير. أما المتربصون إقليمياً ودولياً فيغذون الأزمة بشكل إجرامي بهدف جاهرت به واشنطن بكل وقاحة: خدمة إسرائيل ومشروعها التوسعي الاغتصابي عبر مسار «صفقة القرن» التصفوي لكامل الحقوق الفلسطينية، ومن أجل إحكام السيطرة الأميركية على المنطقة بدور محوري للعدو الصهيوني.
لم يتمكن الغضب الشعبي المرير والمتراكم (ولو ضَعُف التعبير في الشارع) من فرض تنازلات جوهرية على أطراف «صيغة» المحاصصة والنهب والتفريط... افتقار المحتجين إلى وحدة برنامج وأولويات وقيادة وإطار أفقدهم القدرة على إحداث تغيير ولو بحدوده الدنيا. قوى التغيير التقليدية عجزت، بدورها، عن ممارسة مهمتها التاريخية في هذه الظروف الاستثنائية. البلد رهينة فئويات متأصلة، وتبعية تأسيسية عضوية، وفلتان شامل يحول دون المحاسبة والرقابة. يضاعف من هذه الآلة العبثية والمكلفة عقم المؤسسات والتنكر للدستور وعدم احترام القوانين. كما أرزاتنا «العاجقين الكون»، والتي حوّلنا عراقتها وعظمتها إلى مجرد شعارات عنصرية حيناً، ودعائية تافهة في كل الأحيان، «نشغل» العالم الآن بتأليف حكومتنا التي نواصل عرقلة أن تكون بحجم تحديات الانهيار المخيف.
من عمق المأساة ينبغي أن تُستخلص الدروس والعبر وتُكشف الأخطاء والمسؤوليات. متى نستطيع ذلك؟ وهل ننجح إذا واصلنا سيرتنا السابقة؟!!
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا