منذ بداية الانتفاضة السورية في عام 2011 ظهرت عند بعض من يصفون أنفسهم عادةً بالتقدميين أو «اليسار» ولاءات مؤيدة لنظام الأسد تحت عنوان «مناهضة الإمبريالية». نتج عن ذلك انتشار معلومات مضلّلة ومغرضة بهدف حرف الانتباه عن الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد وحلفاؤه، وهي انتهاكات موثقة جيداً بالمناسبة. تفاقمت هذه الظاهرة منذ بدء التدخل الروسي في سوريا لدعم بشار الأسد. يقدّم أصحاب هذه الولاءات أنفسهم كـ«مناهضين» للإمبريالية، لكنهم يعرضون انتقائية شديدة في الانتباه إلى مسائل «التدخل» وانتهاكات حقوق الإنسان؛ انتقائية تنحاز غالباً إلى حكومتَي روسيا والصين. أما المعترضون على هذه المقاربات المفرطة التسييس فيتكرر وصمهم الكاذب بأنهم مجرد «متحمّسين لقلب النظام» أو مغفّلين وغافلين عن المصالح السياسية الغربية.الدور التطييفي والتقسيمي الذي لعبته هذه المجموعة لا تخطئه عين. فنظرتهم التبسيطية تُصوِّر كل الحركات الداعمة للديمقراطية والمناهضة لمصالح دولتَي روسيا والصين بوصفها نتاجاً فوقياً للتدخلات الغربية، لا نتاجاً موضوعياً لظروف بيئتها، كأنها لا تنضوي في عقود من النضال الداخلي المستقل ضد ديكتاتوريات عنيفة (كما هو الحال في سوريا)، ولا تمثل بحق تطلعات من يطالبون بحقهم في حياة كريمة بدل القمع والانتهاك. ما يجمع مثل هؤلاء الكتّاب هو رفض مناقشة جرائم نظام الأسد، أو حتى الإقرار بحصول انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد تعرضت للقمع الشديد. لقد تكاثر هؤلاء الكتّاب والوسائل الإعلامية المرتبطة بهم في الأعوام الأخيرة بشكل كبير، وقد وضعوا سوريا في واجهة نقدهم للإمبريالية والتدخلات الأجنبية، مع حصر هاتَين بالغرب فقط ومع تجاهل التدخلات الروسية والإيرانية. وهم يسعَون بذلك إلى إدراج أنفسهم ضمن تراث مديد ومحترم من المناهضة الداخلية في المجتمعات الغربية لارتكابات القوى الإمبريالية في الخارج، وهو تراث لا يقتصر على اليسار لكنه يغلب أن يكون يسارياً.
غير أنهم لا ينتمون حقاً إلى هذا التيار، إذ لا يمكن أن ينتمي إلى اليسار من ينحاز، صراحةً أو ضمناً، إلى نظام الأسد القاتل، ولا من يوجه اتهامات انتقائية وانتهازية بالـ«إمبريالية» بحجج مستمدة من تصوره الخاص لليسار، بدلاً من مناهضة الإمبريالية بصورة متّسقة ومبدئية وعلى نطاق عالمي، تعترف بالتدخلات الإمبريالية من كل الأطراف ولا تستثني منها روسيا وإيران والصين.
في كثير من الأحيان، وتحت ستار ممارسة «الصحافة المستقلة»، عمل هؤلاء الكتاب وتلك المنابر الإعلامية كمصادر رئيسية للدعاية والمعلومات المضلّلة حول الكارثة الإنسانية المستمرة التي آلت إليها سوريا. إن نسختهم الرجعية والمقلوبة من «السياسة الواقعية» لا تقلّ تشبّثاً بالقراءات الأحادية عن «سياسات القوة» الفوقية واللاديمقراطية عن هنري كسنجر أو صامويل هنتنغتون، وإن تعاكست التوجهات. لكن هذا التحرك الخطابي المفرط في تبسيطيته، وبقدر ما يبدو جذاباً للتواقين دوماً لتعريف سطحي لمن هم «الأخيار» ومن هم «الأشرار» في أيّ مكان وأي سياق في العالم، ما هو إلا أداة لتعزيز الوضع المعطِّل والبائس، وعرقلة تطوير مقاربة تقدمية ودوليّة حقاً للسياسة العالمية، وهو ما نحتاج إليه بشدة نظراً إلى التحديات العالمية المتعددة، وخاصة مسألة التصدي للاحتباس الحراري.
ثمّة أدلة ساطعة على التدميرية المروِّعة للقوة الأميركية في كل العالم، خاصة خلال الحرب الباردة. ومن فييتنام إلى أندونيسيا، مروراً بإيران والكونغو والأميركيتين اللاتينية والوسطى وغيرها، سجلّ الانتهاكات الأميركية الهائل لحقوق الإنسان المتراكم باسم محاربة الشيوعية جليّ ومعروف. وحتى في الحقبة اللاحقة لانتهاء الحرب الباردة، حيث ساد شعار «الحرب على الإرهاب»، لم تَدُلّ التدخلات الأميركية في أفغانستان والعراق على تغيّرات جوهرية في توجهاتها التدميرية هذه. لكن الولايات المتحدة غير مركزية في ما حصل في سوريا، على عكس ما يدّعيه هؤلاء. إن ادّعاء ذلك، رغم كل الأدلة المغايرة، هو نتاج لثقافة سياسية محلية غربية تركّز على مركزية القوة الأميركية على المستوى العالمي، وكذلك على الحق الإمبريالي في تحديد من هم «الأخيار» و«الأشرار» في أي سياق. إن الترادف الإيديولوجي لمحبي الأسد اليمينيين مع هذا النوع من «اليسار» الصديق للأنظمة التسلطية هو أحد أعراض هذا الأمر، وهو يشير إلى أن المشكلة الحقيقية والأخلاقية تكمن في مكان آخر: ما الذي يجب فعله حين يتم تعنيف شعب بشدة من قبل نظامه كما جرى للشعب السوري، ثم يجري حبسه ضمن تصورات أشخاص لا فكرة لديهم عن تعذيب الناس وسجنهم وقتلهم لمجرد تعبيرهم عن المعارضة السياسية للنظام؟ ففي حين تتوجه الكثير من البلدان نحو أنظمة حكم تسلطية وتبتعد عن الديمقراطية رويداً رويداً، تبدو لنا هذه مسألة سياسية عاجلة لا جواب لها حتى الآن. وبسبب غياب الجواب بالذات، نجد إفلاتاً متزايداً من العقاب في كل مكان في العالم من جانب الأقوياء، وكذلك هشاشة متزايدة عند المستضعفين. وفي هذا الشأن، ليس لدى «مناهضي الإمبريالية» المزعومين كلام مفيد. لا كلمات لديهم عن العنف السياسي العميق المسلَّط على الشعب السوري من قبل الأسديين والإيرانيين والروس. اسمحوا لنا إذاً أن نشير إلى أن محو حيوات السوريين وتجاربهم على هذا النحو يبدو حاملاً لجوهر الامتياز الإمبريالي (والعنصري) بحد ذاته. لم يتكلف هؤلاء الكتّاب والمدوّنون عناء الاعتراف بوجود سوريين، بمن في ذلك السوريون الموقّعون على هذه الرسالة، والذين جازفوا بحياتهم لأنهم عارضوا الأسد، فسُجِنوا في معتقلات نظامه الأشبه بالمسالخ (أحياناً لسنوات طويلة)، وفقدوا أحباءهم، وغُيِّب أصدقاؤهم وأقاربهم، ولجأوا خارج البلاد - رغم أن سوريين كثيرين تكلموا وكتبوا بإسهاب عن هذه الأحداث وعن معناها طوال سنوات. إن التجارب السورية المعاشة منذ بداية الثورة حتى اليوم تشكل تحدياً جوهرياً للعالم، كما يبدو لهؤلاء الكتاب والمدوّنين. إن الذين عارضوا من بيننا نظام الأسد بشكل مباشر، وغالباً بكلفة هائلة، لم يفعلوا ذلك نتيجة مؤامرة إمبريالية غربية، بل لأن عقوداً من الانتهاكات والعنف المفرط والفساد كانت ولا تزال رهيبة وعصيّة على الاحتمال. الإصرار، مع ذلك، على دعم الأسد هو محاولة لحرمان السوريين من أهليتهم السياسية، وتأييد لسياسات الأسد المديدة الرامية للإبادة السياسية، والتي حرمت السوريين من أي قول ذي معنى في شؤون حكمهم وظروفهم.
نحن الموقّعين أدناه، من سوريين وغير سوريين، الداعمين لنضال الشعب السوري في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، نعتبر أن هذه المساعي لتغييب السوريين عن عالم السياسة والتضامن والشراكة تتّسق تماماً مع طبائع النظام، والذي يحظى وضوحاً بإعجاب «معادي الإمبريالية» هؤلاء. هذه هي إذاً «الأنتي إمبريالية» و«اليسار» الخاص بعديمي المبادئ، والكسالى، والحمقى. نأمل أن ينضمّ قراء هذا النص إلينا في مناهضة هؤلاء والوقوف في وجه التضليل الذي يقومون به.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا