في الأول من شهر أيلول/سبتمبر من عام 1920، أعلن الجنرال الفرنسي غورو دولة لبنان الكبير، في حفل أقيم في قصر الصنوبر في بيروت حيث مقر السفارة الفرنسية... وبعد مرور 23 سنة، أي في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1943، احتفل اللبنانيون باستقلال هذه الدولة التي أرادوها، بداية، ملاذاً لهم وملجأً للأقليات والمضطهدين من كل الأرجاء، مؤكّدين على أنها توفّر للجميع حرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد، على ما جاء في الدستور الذي وضعوه لتثبيت هذه المبادئ والحرص على صيانتها. وإلى جانب الدستور المكتوب، توافقت الأطراف والقوى السياسية على عدم جعل لبنان ممراً للمؤامرات على الدول المجاورة، أو مقرّاً لحبك المكائد والفتن والدسائس. كان ذلك بهدف تقريب الطوائف والفئات اللبنانية المختلفة بعضها إلى بعض، وترسيخ أجواء الثقة في ما بينها، والعمل على بناء دولة تتوزّع فيها السلطة بين مختلف الطوائف، ويسود فيها القانون حماية لحقوق الجميع من مواطنين ومقيمين على أرض لبنان. وهذا ما أُطلق عليه اسم الميثاق الوطني» الذي حظيَ بقوّة الدستور وبات جزءاً لا يتجزّأ من النظام السياسي اللبناني.
بوبوك ميهاي (رومانيا).

هكذا انطلقت مسيرة الدولة المستقلة على الوعود التي أُطلقت حول تطوير مؤسّساتها، وعلى الآمال التي عُقدت على الأسس التي بُنيت عليها والأهداف التي صمّمت على تحقيقها. وتأمّل اللبناني خيراً من الحكم الاستقلالي الجديد، واضعاً ثقته بين أيدي المسؤولين الجدد الذين لم يألوا جهداً لبثّ روح التفاؤل بدولة ستعمل على رفاهية المواطن وتحقيق أهدافه بحياة كريمة. إضافة إلى ذلك، اجتهد الذين تولّوا السلطة آنذاك في الحديث عن العيش المشترك بين كلّ الطوائف الثماني عشرة التي يتألف منها المجتمع اللبناني، ونشطوا في تشجيع العيش المشترك في ما بينها على أساس أن الانصهار الوطني هو صمّام الأمان لحياة المواطنين وسلامتهم، وعلى أساس أن حقوقهم المدنية يكفلها الدستور انطلاقاً من مبدأ المساواة والعدالة بين الجميع بهدف ترسيخ التضامن الوطني بين كل فئات المجتمع.
حتى تلك اللحظة، بدا أن كل شيء يسير بشكل سليم وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا. كما بدا أن الآتي من الأيام سيحمل معه رغد العيش ويرمي السلام والأمان في ربوع الوطن المستقل حديثاً، لينطلق في مسيرة بناء المؤسسات وتدعيم ركائز الوطن، كما يقول منطق الأمور. وكان التشديد الأساسي يركّز على وحدة أبناء المجتمع المتعدّد الطوائف، خصوصاً أن النظام الذي وُضع حافظ على كينونة الطوائف وحرص على منحها الخصوصية التي تناسب كلاً منها، ولا سيما في مجال الأحوال الشخصية والإرث وما يتفرّع عنها... كل ذلك على أمل أن يصبح الانتماء إلى الوطن لا إلى الطائفة. لكنّ حساب الحقل لم يتناسب وحساب البيدر. فمنذ صباح اليوم الثاني للاستقلال، أي في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، بدأت الدولة بمؤسّساتها تسير عكس السير. وبدل أن تتقدّم يوماً بعد يوم، راحت تسارع الخطى إلى الوراء، وما زالت على هذا المنوال، حتى صحّ فيها القول إنها تنحو ناحية «الصعود إلى الانهيار».
إتفاق الطائف اسكت المدافع لكنّه لم يتمكّن من وضع حد للنزاع الذي استمر في غير اتجاه، وعادت الانقسامات لتظهر عند كل مفترق


بدأت النظرة إلى الدولة الوليدة تختلف عما كُتب لها أن تكون. وراح كل طرف من الأطراف، وكل طائفة من الطوائف، يعتبرون أن الدولة ملك خاص لهم، وأن خيراتها تعود لهم، وأن المؤسسات الحكومية هي مجرد «تنفيعة» لهم... حتى بات التناتش على المنافع بمثابة الهدف الأول من وجودها. وأُطلقت على الدولة تسمية «البقرة الحلوب» التي شجّعت كل ذي شأن ونفوذ أن يغرف من هذا الخير ما استطاع قبل أن يقترب منه خصمه أو حتى حليفه. فأصبحت الثروة الوطنية والخدمات التي توفرها الدولة برمتها، من خلال كبار المسؤولين فيها، حكراً على المحظيّين من الأزلام والمحاسيب بدلاً من أن تتوزّع الثروات الوطنية بالتساوي بين الجميع، ويستفيد منها كل مواطن وكل منطقة وفقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية والتوازن الإنمائي وتكافؤ الفرص، خصوصاً أن البلد ما زال طريّ العود. ونجم عن ذلك ظهور فوارق اجتماعية شتّى بين أبناء المجتمع، فبات هناك ابن ست وابن جارية. وتفاقمت الأمور في غياب تطبيق القوانين الذي تلهّى عنه المسؤولون في تعزيز مواقعهم ونفوذهم على مستوى الدولة أولاً، وعلى مستوى الطوائف التي ينتمون إليها ثانياً.
كان من المفترض بالدولة المستقلّة حديثاً أن تنكبّ على سن القوانين التي ترعى شؤون الشعب وتدير أمور حياته اليومية التي لم تكن في البدايات على أحسن حال. كان المواطنون بأمسّ الحاجة إلى كل شيء، من التربية إلى العمل والسكن والطبابة والمأكل والملبس والمساعدات الاجتماعية على أنواعها. وكانت كل هذه المستلزمات بحاجة إلى قوانين ترعاها وخطط مدروسة تواكبها، وسلطة إجرائية تسهر على تنفيذها بحذافيرها بحيث يستفيد منها كل ذي حق، ويرتقي البلد بذلك إلى مستويات عالية من الرقيّ والرفاهية. من دون أن ننسى وجود سلطة تشريعية تواكب القوانين التي تسنّها وتراقب عمل الحكومة وأداءَها.
لكنّ التهاون والتلكّؤ في تطبيق القوانين بحزم أديا إلى زعزعة الثقة بمؤسّسات الدولة، وبات المواطن يسعى إلى الحصول على حقوقه عبر ممثله في البرلمان، هذا الممثل الذي تحوّل عمله إلى توفير الخدمات والوظائف لناخبيه ومحازبيه وأتباعه بدل أن يقوم بمهمته الأساسية المتمثلة بالتشريع ومراقبة عمل الحكومة. وهكذا باتت مؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية في خدمة المحظيين بدل أن تكون في خدمة المواطنين جميعاً وتحقيق أهدافهم في العيش الكريم.
ومع توالي الأيام في العهد الاستقلالي الأول، شاءت الأحداث أن تنشأ في عام 1948 دولة إسرائيل على حدود لبنان الجنوبية بعد اغتصاب أرض فلسطين وتهجير ابنائها. وأصاب لبنان، الدولة الحديثة الولادة، ما أصابها من تداعيات قيام دولة إسرائيل، وأولها وصول قوافل اللاجئين الفلسطينيين. ولا أخفي سراً إذا قلت بأنه كان لهذا الأمر انعكاسات متعددة الأوجه على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في لبنان.
واستمرت مسيرة الدولة، وكانت الأحداث تتوالى صعوداً تارة وهبوطاً تارة أخرى. ولمّا لم تكن وحدة اللبنانيين قد استوَت على حال ثابتة بعد، فقد أدى الوضع الجديد الى تأجيج الانقسامات الداخلية بين مؤيّد للفلسطينيين ومعارض. وازدادت التوتّرات مع الأوضاع الدولية والإقليمية التي نجمت عن احتلال فلسطين، ومع المواقف الدولية وسياسة الأحلاف (حلف وارسو وحلف بغداد) التي تباينت بين معسكر مؤيّد لإسرائيل، وآخر داعم للقضية العربية الأولى. فكما انقسم العالم حول هذه المسألة، انقسم اللبنانيون أيضاً... وكان كلما تأزّم الوضع السياسي، تأزّمت معه مسيرة الدولة واصطفّ اللبنانيون مع هذا المعسكر أو ذاك. فالانقسام كان مرافقاً لكل حالة، وأسوأ ما فيه أنه كان ينعكس على الوضع العام في البلاد، ويقضي على أي خطوة إيجابية الى الأمام.
هكذا أضيفت الى المصاعب مصاعب جديدة ناجمة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وانعكست كلها على الوضع اللبناني في كل الميادين. ومع تطوّر الأحداث، وقيام المقاومة الفلسطينية، كان لا بدّ من ظهور تباينات حادّة على كل الصعد، ما أظهر بوضوح ضعف مؤسسات الدولة على مواجهة الحالة الجديدة وتداعياتها على مجرى الحياة اليومية في لبنان. وظهر كل ذلك في الأعباء التي وجد لبنان نفسه يتحمّلها دون قدرة كافية على تلبيتها والتخفيف من وطأتها. واستمرت الحالة بين هبّة ساخنة وأخرى باردة، مع تآكل ما كان قد تم إنجازه على صعيد بناء مؤسسات الدولة.
وشهدت هذه المؤسسات نقلة نوعية على إثر ثورة عام 1958 مع الرئيس فؤاد شهاب الذي حاول جاهداً بناء لبنان على أسس وطيدة تحكمها المؤسسات وخصوصاً منها تلك التي تسهر على حسن سير الإدارة والخدمات والعطاءات الاجتماعية. وكان منها التفتيش المركزي وديوان المحاسبة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومجلس الخدمة المدنية وغيرها من مظاهر قيام الدولة الحديثة استعداداً للتحوّل الى دولة القانون والعدالة الاجتماعية. لكن حساب الحقل لم يكن متوافقاً مع حساب البيدر هذه المرة أيضاً. ولم يكن عمر هذه المرحلة الواعدة طويلاً، بحيث بدأت بذور النزاعات تطلّ برأسها وتُعدّ الأرض لحرب عام 1967.
إلا أنه كان لهذه الحرب العربية الإسرائيلية، رغم كل سلبياتها، انعكاسات إيجابية على لبنان لبعض الوقت. فتدفّقت اليه الرساميل العربية واستفاد من هامش احترام الملكية الفردية والحريات العامة وحرية الصحافة خصوصاً. الأمر الذي حفّز قطاعات المال والمصارف والعقارات وقطاع السياحة والخدمات، وتحول البلد الى وجهة اقتصادية نادرة في المنطقة. لكن مع تطوّر الأحداث وتوقيع «اتفاق القاهرة» عام 1969، بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، بشأن تواجد المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، وعدم تدارك الأمور من قبل السلطات اللبنانية وضعفها حيال مواجهة ما يحصل على الساحة السياسية الإقليمية والدولية، انقلب الوضع في الداخل رأساً على عقب وتداخلت تعقيدات هذا الوضع في المنطقة والصراع العربي الإسرائيلي، وازدادت الأمور حدّة مع الزيارة التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل...
وفي خضمّ كل ذلك، دخل البلد في عام 1975 في حرب أهلية مدمّرة قضت على كل شيء وفكّكت أواصر الدولة ودامت حتى عام 1990 مع التوصّل الى اتفاق الطائف الذي وضع حداً للأعمال الحربية بين الأطراف المتنازعة... وتضمّن هذا الاتفاق تعديلات دستورية تطاول التركيبة السياسية التي كانت سائدة منذ الاستقلال.
لكن اتفاق الطائف الذي أسكت المدافع لم يتمكّن من وضع حد للنزاع الذي استمر في غير اتجاه ومستوى بسبب عدم التمكن من تطبيق كل بنوده. وعادت الانقسامات لتظهر عند كل مفترق، خصوصاً أن أزمات المنطقة متشابكة وطرأت عليها أزمات إضافية منذ عام 1990 مع احتلال العراق للكويت والحرب التي تلت ذلك لتحرير الدولة الخليجية. وتشابكت الأزمات ورمت بأثقالها على الوضع اللبناني الهشّ أصلاً. وكانت الحرب الأهلية زرعت في لبنان انقسامات متعددة عمودياً وأفقياً، طائفياً ومذهبياً، مناطقياً وداخل البيت الواحد أحياناً كثيرة، حتى لم يبقَ حجر على حجر في أجهزة الدولة ومؤسّساتها وصلاحياتها ورجالاتها. فتطيّف كل شيء وتمذهب وتمنطق، خصوصاً أن فترة الحرب الأهلية كانت حبلى بالتيارات الانقسامية والفيدرالية وغيرها.

نحتاج إلى تغيير جذري يقضي على الطائفية والمناطقية وينقل لبنان من بدائية الدولة الى الدولة العادلة والقوية والراعية


وكان أن أصبح لكل طائفة جامعاتها ومدارسها ووسائل إعلامها على الرغم من إعادة توحيد أجزاء البلد والتشديد على الوحدة الوطنية والعيش المشترك... وهي شعارات لا نزال حتى اليوم نردّدها كلما حصل إشكال أمني أو غير أمني هنا وهناك. وبدل أن يعيد الوحدة الحقيقية بين كل الفئات بعد 15 سنة من الحرب والتقاتل بكل أشكاله وألوانه، لم يوفَّق اتفاق الطائف الذي أدخلت بنوده الى الدستور وبات يُعرَف بوثيقة الوفاق الوطني، في مهمة صهر المجتمع اللبناني كما كان يُنشد. وبقيت الخلافات وزاد منسوب المحاصصة في التعيينات الإدارية وتشكيل الوزارات وعقد الصفقات والمشاريع الإنشائية وتلك المتعلقة بإعادة الإعمار في أعقاب الحرب الأهلية، لا بل ترسّخ أكثر مما كان عليه في السنوات السابقة.
ثم توالت الأحداث وترافقت في كل حقبة مع الحديث عن الإصلاحات في المجالات كافة. إلا أنها بقيت حبراً على ورق ولا تزال حتى يومنا هذا. ولم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تحقق أي إنجاز إصلاحي بارز في أي قطاع من القطاعات. وسادت سياسة المنافع الريعية السريعة المردود بدل سياسة تعزيز القطاعات الإنتاجية من صناعة وتجارة وزراعة. وتراجع القطاع السياحي بسبب حالة مستمرة من عدم الاستقرار تمثّلت خصوصاً في صعوبة تأليف الحكومات وهدر الوقت في سبيل إرضاء هذا الطرف أو ذاك بحقيبة وزارية، وكأنها توزيع مغانم، إضافة الى الفراغ المتكرّر في سدة الرئاسة الأولى التي باتت تشغر قبل انتخاب الرئيس الخلف لأشهر عدة.
وقد كان لهذا الأمر سلبيات عديدة انعكست على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والأمنية. انعدمت الخطط اللازمة على كل المستويات حتى بات البلد يعيش حالة من الفراغ الدائم أدّت الى تراجع الخدمات والتقديمات، فارتفع عدد الفئات التي ترزح عند خط الفقر وما دون خط الفقر. وازداد المعوزون في وقت قلّت فيه المساعدات مع بزوغ "الربيع العربي" في دول الجوار وما نتج عنه من نزوح للسوريين خصوصاً الذين هربوا الى لبنان بأعداد كادت تساوي عدد المقيمين. وكما حصل مع اللاجئين الفلسطينيين، تكرّر الأمر نفسه مع النازحين السوريين حيث انقسم اللبنانيون أيضاً بشأنهم، ولم تكن المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة لإعانتهم كافية، أو على الأقل لم تصل الى مقدار ما يحتاجون اليه ويستخدمونه من قدرات الدولة المضيفة. وهذا ما زاد في استنزاف قدرات مؤسّسات الدولة على اختلافها، مع ما رافقه من عمولات وتنفيعات ونهب أموال تحت اسم مساعدة النازحين السوريين.
وها نحن، في عهد الإصلاح والتغيير، نراوح مكاننا، ونتقهقر أكثر، كأننا لم نتعلّم شيئاً مما سبق في السنين والعقود الماضية. إلا أن هذا العهد، وقد انقضت منه أربع سنوات، لم يُظهر للأسف الشديد أنه اسم على مسمّى. فلم تستطع الحكومتان الأولى والثانية فيه، ثم الحكومة الحالية المستقيلة، من تنفيذ أي إصلاح جذري من الإصلاحات التي كانت طُلبت في مؤتمرات الدعم الاقتصادي الدولية، ولا سيما مؤتمر «سيدر» الذي جرى التعويل عليه بقوة لسدّ الفجوة المالية التي كانت بدأت تضرب القطاع الاقتصادي عموماً والقطاع المصرفي خصوصاً، حتى تعقّدت الأمور وانطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية ضد المنظومة الحاكمة في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر من عام 2019.
وذهبت كل الأحاديث عن الإصلاح سدى، وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية ليلامس مستويات غير مسبوقة، وخسرت العملة الوطنية نحو 90 في المئة من قيمتها، الأمر الذي زاد من الانعكاسات السلبية على معيشة مختلف فئات المجتمع. وتفاقمت الأوضاع خصوصاً مع وباء كورونا الذي زاد الطين بلّة وأدى الى إضعاف القطاع الصحي المنهك أصلاً لأسباب عدة.
لقد اتّسمت هذه السنوات الأخيرة بغياب السلطة على كل المستويات، وازدادت خلالها المحسوبيات والمحاصصة والانقسامات بين فئات الشعب وترسّخت. وبدا المسرح السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والصحي في حالة من التشرذم، لا بل الانهيار الشامل الذي أصاب كل هذه المرافق.
ويشهد الواقع الحالي أسوأ المراحل في تاريخ البلد منذ الاستقلال. فلم تصل الأوضاع الى ما هي عليه اليوم حتى خلال الحرب الأهلية. ولهذا السبب تواجه البلاد مخاوف جمّة يأتي القسم الأكبر منها من حالة اليأس المتفشّية بين فئات المجتمع عامة، ولا سيما جيل الشباب الذي لم تعد أمامه سوى الهجرة، إن توفّرت هي الأخرى، سبيلاً لحياة كريمة بعدما تخطّت البطالة نسبة الخمسين في المئة من اليد العاملة الفعلية.
ما هو الحلّ؟ هذا الوهم الذي تراكم عبر السنين وفي أعقاب كل مرحلة من مراحل التأزّم، وما أكثرها! الحل لم يعد كامناً في الأمن والسلام والاستقرار وحسب، فهذه لم تعد كافية لقيام دولة حديثة تقوم على سيادة القانون وعدالة القضاء. الحل بات بحاجة إلى تغيير الذهنية والنهج والأسلوب في النظام وطريقة الحكم، ما يحتّم تغييراً جذرياً يقضي على الطائفية والمذهبية والمناطقية وينقل لبنان من حالة بدائية الدولة الى حالة الدولة العادلة والقوية والراعية التي تعمل مؤسّساتها على تطبيق القوانين لتأمين حاجات كل المواطنين بعدالة. قبل التشريعات الجديدة التي يطالب بها بعضهم، يحتاج البلد إلى تطبيق القوانين الموجودة مع إجراء بعض التعديلات التي تفرضها تطورات الحياة.
ولعل البلد لا يحتاج إلى مؤسسات جديدة أو أجهزة إدارية أخرى، إذ يكفي تفعيل الأجهزة القائمة من مجلس الخدمة المدنية الى التفتيش المركزي وديوان المحاسبة. مع ما يقتضيه هذا الأمر من تفعيل القضاء وحماية استقلاليته، وإعادة ضخ الحياة في شرايين هذه الأجهزة ورفع يد السياسة والسياسيين عن التدخّل فيها ليستوي الأمر وتسود عدالة القوانين... فالبلد لم يعد يحتمل تقسيم الوزارة الواحدة الى وزارات لتوزير فئات وأطراف جديدة، ولا يحتمل زيادة في عدد المجالس والهيئات واللجان والصناديق. لقد أصابته تخمة من كل هذا، فهو بحاجة الى تصغير حجم الإدارة وتنشيط العمل فيها وفقاً لمبدأ الثواب والعقاب، والبحث عن روافد مالية لا عن مزاريب جديدة لهدر ونهب المال العام. كل هذا وغيره من الإصلاحات التي نسمع عنها منذ عقود لم نلمس أي شيء منها حتى اليوم، ما أوصلنا الى المستنقع الذي نتخبّط فيه الآن.
وتبقى الكلمة الفصل في تصحيح هذا المسار تتمحور حول وعي المواطن في اختيار ممثّليه ومديري شؤونه. فالشعب مصدر السلطات في الديمقراطيات. صحيح. لكن مصدر السلطات ينبغي له أن يكون على مستوى كبير من الإدراك وتحمّل المسؤولية في المراقبة والمحاسبة.

* كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا