العراق أكثر مناطق العالم ازدحاماً بالحضارات، وقد يكون العراق من أندر المناطق في العالم، إن لم يكن الوحيد الذي نشأ على أرضه عدة حضارات على مرّ عشرات الألوف من السنين، والتي تُعتبر من أقدم إن لم تكن أقدم الحضارات في العالم، فمن أشهر الحضارات التي نشأت على أرض العراق حضارة سومر وأكد وبابل وأشور وكلدان.غنى أرض العراق بالحضارات عبر ألوف السنين، يدل على أن شعب ما بين النهرين شعب عريق عظيم وأرضه أرض رخاء واستقرار، وليس كما يحاول ترويجه أصحاب الفكر السلفي التكفيري الوهابي، من أن أرض العراق هي أرض الفتن، وذلك في محاولة منهم لتبرئة أرض (نجد) من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من أنها منطقة قرن الشيطان والفتن.
قيادة العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى انتقلت إلى عاصمة الوهابيين في أرض نجد، وذلك من خلال احتلالهم لبلاد الحرمين الشريفين في مكة المكرّمة والمدينة المنورة بإيعاز ودعم وتخطيط وتسليح من الإمبراطورية الإنكليزية التي تكفّلت بإنشاء المملكة العربية السعودية، لتكون قائدة للعالم الإسلامي شرط أن تنفذ مخطّطات وأوامر الإنكليز والعالم الغربي.
وجاء تبني الإنكليز لهذه الدولة المصطنعة بعد أن أثبت عبد العزيز آل سعود ولاءه الكامل لبريطانيا، من خلال اعترافه بحق اليهود في أرض فلسطين، فيما رفض الشريف حسين بن علي أمير الحجاز ذلك كما قال الباحثون في التاريخ.
قلنا إن الاستيلاء على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة سهّل على الإنكليز والعالم الغربي السيطرة على العالم الإسلامي، من خلال الدولة السعودية التي احتلت الحرمين الشريفين في عام 1924 ميلادي، وبعد قرن من الزمان تقريباً نلاحظ أن المملكة السعودية قامت بدورها بكل أمانة وإخلاص بخدمة الإنكليز ونشر الفتن وتدمير العالم الإسلامي... ولكن هناك إشارات في أفق الأحداث العالمية قد تنبئ بانتهاء هذا النفوذ على الحرمين الشريفين، فالدولة السعودية وخلال العقدين الماضيين منيت بهزائم كثيرة وكبيرة في المنطقة، فهي لم تستطع أن تقوم بدورها بالقضاء على الثورة الإسلامية في إيران، ولا السيطرة على الفصائل الفلسطينية المجاهدة، ولا إخضاع لبنان المقاوم، ولا إسقاط النظام السوري الداعم لمحور المقاومة، ولا السيطرة على العراق من خلال إجهاض مشروع الدولة العراقية المستقلة عن أي نفوذ صهيوني، ولا تركيع شعب اليمن الثائر على الهيمنة الغربية، بل لم تستطع الدولة السعودية تركيع دولة قطر التي احتضنت النفوذ التركي في المنطقة.
بعد معاناة مضنية مع الفكر التكفيري، استطاع العراق انقاذ المنطقة من هيمنة الفكر الوهابي


السعودية فقدت الكثير من نفوذها العربي والإسلامي، وتعالت الأصوات من دول إسلامية للمطالبة بإشراف إسلامي على الحرمين الشريفين، وانتشرت الأخبار بين شعوب العالم عن الحركات الإرهابية التي وُلدت من رحم الفكر الوهابي ودعم الدولة السعودية لها، باختصار ربما أصبحت السعودية في أعين الغرب عبئاً كبيراً وأضعف من أن تمثل وتحمي مصالح الغرب في المنطقة، بل هي أضعف من أن تحمي نفسها.
العراق وبعد أن عانى الويلات من الفكر الإرهابي التكفيري القادم والمدعوم من الدولة السعودية والدول الغربية، استطاع أن يلفت أنظار العالم واحترامه بعد أن نجح في إنقاذ بلاد الرافدين بل ودول المنطقة بالكامل من نفوذ وهيمنة الفكر الوهابي التكفيري من خلال فتوى مباركة من سماحة السيد علي السيستاني. هذه الفتوى بعد الله عز وجل ربما كانت الشرارة التي أطلقت الثورة على التطرف والمتطرفين وداعش وأخواتها في كل المنطقة وليس العراق فقط... هذا كله وقبله وبعده لفت أنظار العالم إلى قوة العراق الكامنة فيه وفي شعبه وعلمائه، فقد أطلقت الصحافة الأوروبية على السيد السيستاني لقب (دالاي لاما) المسلمين، وقد أُدرج ضمن أفضل 100 مفكر عالمي من قبل صحيفة «فورين بوليسي»، كما رُشّح أيضاً لجائزة نوبل لجهوده في إرساء السلام.
إصرار البابا فرنسيس على زيارة العراق هذه السنة، رغم انتشار وباء كورونا والظروف الأمنية الصعبة، له دلالاته العميقة جداً خصوصاً بعد لقائه بالإمام الأكبر للإسلام السنّي المعتدل ولقائه بالإمام علي السيستاني في النجف الأشرف في أول لقاء يجمع حبراً أعظمَ بمرجعية شيعية بهذا المستوى.
لقد تساءلت الـ «بي بي سي» البريطانية، ما الذي يجعل هذه الرحلة بالذات تاريخية، خصوصاً أنّ هناك بلداناً كثيرة لم يزرها أي بابا بعد، وقد تكون لها أهميّة وازنة مثل روسيا والصين وغيرهما؟ وأجابت بطريقة غير مباشرة: إنه العراق.
في الختام هل ينطلق الإسلام السني والشيعي المعتدل والحضاري من أرض العراق من جديد، ويصبح مهوى أفئدة العالم الإسلامي؟؟؟؟؟
الله تعالى أعلم.
* الأمين العام لحركة كرامة المعارضة في السعودية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا